الطبيعة الاستبدادية للنظام الناصري وهزيمة يونيو 1967
في حسم مسألة الاستيلاء على السلطة (سواء كان الصراع وطنيًا أم طبقيًا) يبرز دائمًا ثلاث اتجاهات أساسية:
1. اتجاه الانقلابات العسكرية: وفيه يتم حسم مسألة الاستيلاء على السلطة بالانقلاب العسكري من أعلى، وذلك بالبناء السري داخل المؤسسة العسكرية، والتي تعتبر من أهم وأقوى مؤسسات الدولة، ويتم العمل دون أي اعتماد على الجماهير واستبعادها تمامًا، وتعتبر عوامل السرية والكتمان الشديد والنمو والسيطرة على أهم المواقع والمراكز الحساسة داخل المؤسسة العسكرية من أهم العوامل في نجاح أو فشل الانقلاب.
2. اتجاه الإرهاب المسلح وحرب العصابات: وذلك عن طريق بناء التنظيمات المسلحة شديدة السرية، والتي لا ترتبط بأي شكل من أشكال الحركة الجماهيرية، والتي تعتمد أسلوب الإرهاب الثوري والاغتيالات لبعض رموز السلطة المراد إزاحتها، وفي أرقى أشكال الممارسة لهذا الشكل فإنه قد تتيح الظروف الجغرافية إمكانية ممارسة لدور حرب العصابات وتحرير بعض المناطق الريفية بهدف تحرير المدن عن طريق الريف، ويستبعد هذا الأسلوب تمامًا أي اعتماد على جماهير المال، ويهدف إلى خلق تعاطف من الفلاحين مع قادة العصابات، ويعتمد هذا الأسلوب على الخلخلة والإضعاف التدريجي للمؤسسة العسكرية للسلطة القائمة من خلال توجيه ضربات قاصمة لقطاعات منها وصولاً إلى تفسخها.
3. اتجاه الانتفاضة الجماهيرية المسلحة: ويعمل هذا الاتجاه في حشد وتعبئة الحركة الجماهيرية سياسيًا وتنظيميًا، وتطوير النضال الجماهيري وتعبئة حركات الاحتجاج الجماهيرية الصغيرة والمنعزلة لأساليب الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات وبناء التنظيمات الجماهيرية للوصول إلى حالة الإضراب الجماهيري الشامل، والذي تصطف فيه الجماهير تحت قيادة ثورية في مواجهة شاملة مع جميع مؤسسات الطبقة الحاكمة، وتصل ذروتها إلى تسليح الجماهير ونصب المتاريس في الشوارع وإعلان الانتفاضة المسلحة للاستيلاء على السلطة.
وفي الأساليب الثلاثة السابقة: فإن الجماهير مستبعدة في الحالة الأولى، ومستخدمة في الحالة الثانية (حالة حرب العصابات)، وهي صاحبة الفعل والثورة في الحالة الثالثة..
وفي بلادنا: وفي مواجهة الاستعمار البريطاني في الفترة 1882 – 1952 (مرحلة الصراع الوطني) برزت هذه الاتجاهات على ساحة النضال:
فقد حسمت مسألة السلطة عن طريق الانقلاب العسكري من أعلى عن طريق تنظيم الضباط الأحرار في يوليو 1952.
أما اتجاه الإرهاب المسلح فإنه قد نما خاصة في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات عن طريق خطف واغتيال بعض الجنود البريطانيين وبعض رموز المتعاونين مع سلطات الاحتلال، وتبلور هذا الاتجاه في بدء عمليات عسكرية فدائية في منطقة القناة ضد المعسكرات البريطانية، وكانت تحظى هذه العمليات بتأييد شعبي واسع، ولم يتطور هذا إلى أي شكل جنيني لحرب عصابات.
أما اتجاه تعبئة وتنظيم الجماهير فإنه قد ظل ينمو على فترات مختلفة، لكن هذا الاتجاه كان يقطع الطريق عليه دائمًا لافتقاده إلى القيادة الثورية:
فثورة الجماهير المصرية عام 1919 والتي راح ضحيتها 3 آلاف شهيد خانتها البرجوازية المصرية باللهث وراء المفاوضات مع المستعمر، وأخذت الحركة الجماهيرية تبلور نفسها في هبات جماهيرية ضخمة متتالية مثل:
هبة 1936، وهبة 1946 (تشكيل لجان الطلبة والعمال) لكنها كانت هبات جماهيرية لم ترتق إلى مستوى الانتفاضة المسلحة.
لقد قطعت حركة الجيش في عام 52 الطريق على الحركة الجماهيرية في أن تنمو وتتطور وترتقي بالكفاح إلى مستوى الانتفاضة المسلحة، كما إنها قطعت الطريق أيضًا على تطور العمليات الفدائية في منطقة قناة السويس إلى مستوى حرب العصابات المسلحة.
ولأن حركة يوليو 1952، حركة برجوازية تمت من أعلى (بالانقلاب العسكري) وباستبعاد تام للجماهير، وفي نفس الوقت نجحت في تحقيق أهم أماني الجماهير حينئذ (جلاء الاستعمار، إزاحة الملكية)، بل وتعاملت معها بعداء شديد من فوق برجها العاجي.
فبدأت بقمع حركة عمال كفر الدوار وإعدام وسجن قادتها (إعدام خميس والبقري والحكم بالسجن على قيادات العمال) وذلك في أغسطس 1952 (أي بعد شهر واحد من قيام الثورة)، ولقد تم الإعدام والسجن لقادة العمال رغم أن حركة العمال كانت مؤيدة لحركة الجيش في هذا الإضراب وفي مواجهة رأسمالي القطاع الخاص، ورغم أن قادة يوليو كان أحد مبادئهم الستة: القضاء على استغلال وسيطرة رأس المال.
يوليو 1952 – يونيو 1967:
تم حل جميع الأحزاب السياسية والعلنية أو السرية وذلك بإلغاء التعددية الحزبية وحل جميع الأحزاب (مارس 1954). استخدام أساليب التعذيب الوحشي والإعدامات والمحاكمات العسكرية لأبرز قوتين منظمتين على الساحة (الشيوعيين – الأخوان المسلمين) على فترات متعددة ومتواصلة.
حل جميع التنظيمات الجماهيرية وعدم السماح لأي منها بالتواجد إلا إذا كانت تابعة للاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي (نقابات عمالية – نقابات مهنية – اتحادات فلاحين – جمعيات ثقافية أو اجتماعية.. الخ) لقد تم تأميم الحياة السياسية لصالح حركة ضباط يوليو.
تحقيق المكاسب والإصلاحات الجماهيرية من أجل استيعاب الجماهير:
· إصلاح زراعي من أعلى.
· قرار تأميم قناة السويس.
· تأميم شركات.
الزعيم يعلن.. والجماهير تصفق.. وهذا هو المطلوب منها فقط أن تقول نعم في الاستفتاءات.. وأن تتحمل التضحيات في أوقات الهزيمة (دعبت إلى القتال.. ولم أدع إلى المجالسة) لا تنظيمات للجماهير.. التنظيم الوحيد هو المذياع الذي تلتف حوله الجماهير لتعي الدرس والحكمة من القائد المعلم، لقد كان عزل واستبعاد الجماهير، وتأميم الحياة السياسية تحت ولواء سلطة يوليو الجديدة كان المقدمة الأولى لهزيمة 5 يونيو 1976:
“ويا ميت ندامة على أمة ثورتها يعملها جيشها”… لا يمكن لأي سلطة (مهما كانت درجة عدائها أو تناقضها مع الإمبريالية) أن تنتصر على الإمبريالية وهي تقهر الجماهير وتحرمها من أبسط حقوقها السياسية والنقابية.. فالجماهير المنظمة والمسلحة والتي تتمتع بحريتها السياسية حقًا هي الوحيدة والجديرة بالمواجهة والانتصار على الإمبريالية.
لقد كانت الطبيعة الاستبدادية والقمعية للنظام الناصري هي السبب الأساسي والوحيد وراء هزيمة 5 يونيو 1967، لم تكن الهزيمة مسئولية (صدقي محمود) قائد سلاح الطيران أو (اللواء/ الغول) الذي هرب من ميدان المعركة أو مفاجئة ضرب سلاح الطيران على الأرض في فجر 5 يونيو (والذي اعترف عبد الناصر في خطاب التنحي يوم 9 يونيو بأنها لم تكن مفاجئة).. القمع والاستبداد واستبعاد الجماهير كانت هي الأسباب ولأن النظام المصري كان يعلم حيدًا أن الجماهير سترفض الهزيمة فإنه قد استخدم حركة الجماهير يوم 9 يونيو في تمثيلية التنحي عن السلطة من أجل العودة للسلطة ثانية!!
وبعد أن تملك السلطة ثانية تم قمع الجماهير مرة أخرى تحت شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”..
والصوت الذي لن يعلو، والذي لن يسمح بأن يعلو هو صوت الجماهير، وحينما خرجت مظاهرات طلاب الجامعات المصرية بالقاهرة والإسكندرية تطالب بالحريات ومحاكمة المسئولين عن الهزيمة:
“لا صدقي ولا الغول.. عبد الناصر هو المسئول” “أنور.. أنور.. يا سادات.. هي فين الحريات” “آل.. أيه مجلس أمة.. واللي عاملينه همه” “عايزين حكومة حرة.. دى العيشة بقت مرة”
كان لابد من قمع المظاهرات، وفصل الطلاب من الجامعة وتشريدهم، واحتواء قيادات الطلبة داخل أروقة التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
أما ما دبجه النظام الناصري فوق صفحات “الميثاق الوطني” من عبارات:
إن حرية الوطن لا تنفصل عن حرية المواطن، وإن الاشتراكية والديمقراطية هما جناحًا الحرية، وأن حرية رغيف الخبز ضمان لابد منه من أجل ضمان حرية تذكره الانتخاب، وأن الحرية (كل الحرية!!) لجماهير الشعب ولا حرية لأعداء الشعب فإن هذه العبارات لم يكن لها آثر في الواقع ولا في الممارسة، لقد كان العكس هو الصحيح دائمًا، وكانت الوصاية والاستبدالية والقمع للجماهير هي الواقع في ظل النظام الناصري.
أما ما يقال اليوم عن أن هزيمة 5 يونيو غير قابلة للتكرار فإن ذلك لا يستند إلى أساس مادي يدعمه لعدة أسباب: أولهما: إنه في حالة حدوث مواجهة عسكرية مع الدولة الصهيونية (وذلك أمر مستبعد في ظل العلاقات الحميمة والمتينة بين النظام المصري والإمبريالية الأمريكية والدولة الصهيونية) فإن المواجهة حينما تتطور تصبح مواجهة مع الإمبريالية الأمريكية الداعم المباشر للكيان الصهيوني وحينما تتواجه الجيوش النظامية فإن الكفة الراجحة تكون للجيش الذي يمتلك التفوق التكنولوجيا، وما زال التفوق التكنولوجي في جانب الدولة الإسرائيلية ومن خلفها الإمبريالية الأمريكية.
ثانيهما: أن الطبيعة الاستبدادية والديكتاتورية للنظام الحاكم ما زالت قائمة وراسخة، وجيوش القمع اتسعت وتعددت وأجهزة القمع أصبحت أكثر وحشية وإجرام، والحكام الذين يرتعشون من مظاهرات تضامن طلابية مع الانتفاضة الفلسطينية ويخافون امتدادها إلى أوساط عمالية يعرفون جيدًا أن حدودهم وحدود مصالحها لا تتعدى سوى حدود الارتماء في أحضان الإمبريالية لا مواجهتها.
لقد دفعت الجماهير وحدها ثمن هزيمة 5 يونيو 1967 بعشرات الآلاف من أبنائها الذين ذبحوا على أرض سيناء في اقل من ستة أيام قبل أن يحاربوا.