الثورة لا تهدم..بل تبني
لا يملك العمال في المجتمع الرأسمالي سوى قوة عملهم، وقدرتهم على العمل والإنتاج. و هم لا يستطيعون كسب العيش سوى ببيع قوة عملهم هذه للرأسمالي – سواء كان فردًا أو شركة أو دولة – في ظل شروط وظروف عمل يحددها هذا الرأسمالي وتتلائم مع سعيه لانتزاع أكبر قدر ممكن من الفائض من عمل العمال ولحمهم الحي.
ولكن العمال سرعان ما تبين لهم أن قوة عملهم هذه، قدرتهم على الإنتاج والخلق والإبداع الذي يصنع هذه الحياة، والتي يعتبرها المجتمع الرأسمالي مجرد سلعة تباع وتشترى، هي في الوقت ذاته سلاح جبار.
و الإضراب، يمكن تعريفه بأنه "الامتناع المؤقت عن العمل بواسطة مجموعة من العمال، تعبيرًا عن شكوى أو مطلب، وذلك كوسيلة ضغط على صاحب العمل أو الحكومة"، يصير الإضراب في صلب النضال، والذي قد يضعف حينًا ويشتد حينًا آخر لكنه لا ينطفئ أبدًا، ضد مجتمع الاستغلال والقهر، ضد المجتمع الرأسمالي.
يعرف العمال في مصر تمامًا كيفية تعامل نظام مبارك، وأبناءه في السلطة مع إضراباتهم واعتصاماتهم الكبرى: سيارات مدرعة تقتحم المصانع، رصاصات غادرة تخترق صدورهم وصدور أبناءهم، اعتقالات على نطاق واسع، تعذيب قيادات العمال وتشريدهم.. الخ.. ولكن حتى "الديمقراطيات" البرجوازية-في أوروبا مثلا- التي لا تصل عادة لهذا المدى من الوحشية، وتحاول دائمًا محاصرة الإضرابات بالقيود القانونية والحملات الإعلامية الغوغائية ضد المضربين واستخدام النقابات لترويض العمال واللجوء لتنظيم وتدريب منظمات كاسرى الإضراب خصوصًا في الصناعات والخدمات الإستراتيجية كالحديد والصلب والسكك الحديدية، وصولاً إلى استخدام العنف الدموي ضد العمال إذا ما تجاوزا "الحدود المقبولة".
يقولون: "قد تكون للعمال مطالب مشروعة وعادلة، ولكن الإضراب يسفر عن خسائر كبيرة يصعب تعويضها وهو بالتالي يتعارض مع مبدأ العقلانية الاقتصادية". هذه الحجة ببساطة خاطئة. ويكفي أن نذكر هنا أن الإحصائيات المتوفرة من دول عديدة تؤكد أن خسائر الإنتاج الناتجة عن الإضرابات محدودة نسبيًا، بل إنها تقل مثلاً عن الخسائر الناجمة عن حوادث العمل، أو عن تغيب العمال عن أعمالهم بسبب المرض. وهي بالتأكيد أقل بكثير من خسائر أزمات النظام الرأاسمالي الناتجة عن تراكم السلع، مقابل عدم قدرة المواطن العادي على شرائها، وبالتالي المزيد من الكساد، وإغلاق العنابر والقطاعات وحتى المصانع وتشريد عشرات ومئات الآلاف بل وملايين العمال.
إن مشروع قانون العمل الموحد في مصر كان ينص ضمن شروطه التعجيزية على ضرورة موافقة ثلثي أعضاء مجلس النقابة العامة حتى يتسنى للعمال حقهم في الإضراب. ثم جاء "قانون حظر الإضرابات والاعتصامات" من جانب المجلس العسكري، وحكومة شرف التابعة له، أسوأ من قوانين مبارك.
ينظر الثوريين للإضراب باعتباره أحد الأشكال البارزة للصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي. والصراع الطبقي هو المدرسة الحقيقية التي ينمو داخلها الوعي الثوري بين صفوف العمال.
الإضراب الجماهيري
التاريخ يعلمنا أن هناك نوعًا من الإضرابات يفتح الأبواب المغلقة أمام الثورة العمالية والتحرر الإنساني. وهذا هو الإضراب الجماهيري الذي يندلع من أسفل من بين صفوف العمال، والذي يفرز أشكال قاعدية من لجان ونقابات شابة تبتدعها الطبقة العاملة، أنه بدلا من يدمر النقابات العمالية، كما يدعي القادة النقابيون، فالإضراب الجماهيري –بل وأي إضراب- يعيد الحياة والحيوية لتنظيمات الطبقة العاملة.
فمن قلب العاصفة ومن الزوابع، من الإضراب الجماهيري، من معارك الشوارع.. تصعد ثانية نقابات عمالية شابة، عفية، مقاتلة.. بعد انحسار موجة النضالية السياسية، تنبت ألف نبتة من النضال الاقتصادي.. وعلى العكس، فنضال العمال الاقتصادي الدائم ضد الرأسمالي يبقى طاقاتهم السياسية حية في أي فترة، يكون نضالهم الاقتصادي نبع متجدد للطاقة الثورية.. أو ليس ذلك ماحدث بعد تراجع حركة التغيير في مصر 2005-2006، بصعود النضالات العمالية منذ نهاية 2006، وعدم توقفها حتى استطاع العمال المضربين احتلال مداخل الوزارات ومجلس الشعب في 2010.
لا يبقى "النضال الاقتصادي" من أجل تحسين بعض ظروف العمل، ولا يصبح "النضال السياسي" هو العمل البرلماني فحسب، بل يصبح هناك نضال طبقي واحد يهدف في الوقت ذاته إلى الحد من الاستغلال الرأسمالي داخل المجتمع الرأسمالي وإلى إلغاء الاستغلال".
الثورة تبني قبل ان تهدم
الثورة تهدم مجتمع الاستغلال، لكن البعض يردد الآن، أن الثوار يهدمون، والبلد تحتاج للبناء. ولكن هل كان النظام القائم يبني ويعمر، ثم جاء الثوار في شهور ليهدموا منجزاته. وهل مايقوله الاشتراكيون عن "هدم الدولة" يعني الفوضى؟؟
في حقيقة الأمر أن من يبني الحضارة هم الفلاحين والعمال، ومن يضحون بحياتهم في الجيوش هم الجنود من ابناء هؤلاء العمال والفلاحين. لكن الطبقة المسيطرة، تؤكد دوما أنها هي العقل والإدارة، وأنهم بدونها سيصلون للفوضى، وبالطبع فهي تتحكم في الاعلام والتعليم، وتسيطر على المؤسسات الدينية، وتدريجيا تقلل اية فرصة للكادحين للترقي في المجتمع. تدريجيا تزاداد الفوارق، ويزداد الضغط، حتى الانفجار. وفي لحظات الانفجار، وربما قبلها، وحتى قبل الهدم، يبدأ البناء.
في المصانع تتشكل لجان للإضراب، من قلب العاملين أنفسهم لترتيبات الإعاشة والتفاوض، ومخاطبة وسائل الإعلام، وفي الجامعات تتشكل اتحادات طلابية مستقلة عن الاتحاد الموالي للأمن.
كذلك تتشكل في الأحياء، مع انسحاب الأمن لجان شعبية، وهو ما شهدنا ولادته في الايام الأولى للثورة، ويؤكد أهميته أن النظام أسرع بإعادة الشرطة، حيث تاكد للشعب عمليا، ان الشرطة في الواقع لم تكن تحميه، بل كانت سبب في قمعه وابتزازه، ثم تطورت بعض اللجان لمراقبة المخابز والمحلات التي استغلت الظروف.
وفي الميدان تشكلت مجموعات وائتلافات، ثم زاد عدد الاحزاب بعد التنحي، وتشكلت مجموعات وائتلافات شبابية ولجان ثورية في الاحياء، بالتوازي مع ازدياد غير عادي في النقابات المستقلة التي بدأت بالضرائب العقارية في 2007، حتى استطاعت حل الاتحاد الاصفر.
مع تصاعد النضال تزداد قوة تلك المؤسسات الشعبية، ويفرز النضال الاتجاهات الثورية الحقيقية، وتلك الميالة للمهادنة والتراجع، حتى تصبح هناك سلطتان، سلطة حقيقية في القرى والمدن والمصانع، وحتى بين الجنود، وسلطة شكلية تضعف شيئا فشيئا، في مكاتب الوزارات والدواوين. حينها يتحقق المستحيل، ويمكن للثوار أن تكون لهم دولتهم، دولة المستغَلين، ذلك الحلم الذي لم يكن أحد يصدقه.