بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

التطبيع.. لصالح من؟!

منذ توقيع الرئيس المصري، أنور السادات، لاتفاقية السلام مع إسرائيل، عام 1979، لم يكف الجدل حول قضية التطبيع، التي كانت إحدى البنود الأساسية في الاتفاقية، وكان واضحا أن الطبقة الحاكمة، في مصر، التي اندفعت بكل طاقتها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، تسير في اتجاه تعاديه الأغلبية الساحقة من الشعب المصري، هؤلاء الذين سفكت دماء آبائهم وأبنائهم في الحروب المتتالية ضد العنصرية الصهيونية، فبعد سنوات من الصراع المرير، الذي راح ضحيته الآلاف من فقراء مصر، وهم يدافعون عن أرضها، ويكافحون لكسر شوكة الاستعمار – إسرائيل- التي أراد أن يتركها في ظهورهم قبل رحيله، ألقت الطبقة الحاكمة بهذه التضحيات في سلة مهملات الإمبريالية والصهيونية، لتحافظ على بقائها وتخرج من أزمتها.

كان تحييد دولة بحجم وإمكانات مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، باتفاق السلام، نقطة فارقة على طريق تدعيم مشروع الإمبريالية والصهيونية في المنطقة، لكن التحييد وحده لا يكفي، فكانت الخطة الإسرائيلية أن مصر كما كانت قادرة على قيادة العالم العربي في الصراع ضد الصهيونية والإمبريالية، هي أيضا مفتاح كسر العزلة والحصار المفروض على إسرائيل وسط المحيط العربي، ومن ثم كانت قضية التطبيع، والدفع في إقامة علاقات طبيعية مع مصر، مسألة حياة أو موت بالنسبة للكيان الصهيوني.

بعد يونيو 1967 عانت الطبقة الحاكمة المصرية من أزمة طاحنة، حيث تحطم مشروعها القومي والتنموي على صخرة الهزيمة والاستبداد معا، وبدأت أركان شرعيتها تهتز بشكل غير مسبوق، نتيجة الاحتلال والأزمة الاقتصادية العميقة، التي ضربت الرأسمالية المصرية الهشة، بالأساس، وكعادة الأنظمة الدكتاتورية المأزومة المفصولة عن الجماهير والمعادية لها، كان الحل أمام الطبقة الحاكمة الارتماء في أحضان الإمبريالية لانتشالها من أزمتها، مقابل تحول أساسي في استراتيجيتها، تحول يقوم على حزمة من الإجراءات، في مقدمتها نبذ العداء المزمن لكلب حراسة الإمبريالية في المنطقة، إسرائيل، وثانيا السعي حثيثا للاندماج في السوق الرأسمالي العالمي، لذلك ربما لم يكن مصادفة تزامن تسارع التحولات التي شهدتها مصر، في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، من رأسمالية الدولة إلى السوق الحر، مع بدء الصلح مع إسرائيل والاقتراب من الولايات المتحدة والمعسكر الغربي الرأسمالي.

هكذا وعلى مدار أكثر من ربع قرن دأبت الطبقة الحاكمة المصرية، بسياسيها ومستثمريها، ومثقفيها، وفنانيها، على توثيق أواصر الصلة مع إسرائيل، تحت سيل من الشعارات الزائفة حول تبني السلام “كخيار استراتيجي”، لمرحلة جديدة من “نبذ الحروب”، لدفع “الاستقرار والتنمية”، وتحويل مصر إلى “نمر اقتصادي على النيل!”، ليحصد المصريين “الرخاء والتنمية!”، لذلك لم يكن مستغربا أبدا اتساع رقعة الاستثمارات والتبادل التجاري الرسمي (من قبل الدولة) والخاص (رجال أعمال مصريين) مع إسرائيل، فعلى سبيل المثال، تؤكد البيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات ومصلحة الجمارك أن حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل بلغ 450 مليون جنيه خلال عام 2007، منها 191 مليون جنيه إجمالي الصادرات المصرية إلى تل أبيب، و259 مليون جنيه للواردات منه، وذلك بعد عام ونصف من تطبيق اتفاقية الكويز التي وقعتها الحكومة المصرية مع إسرائيل والتي أجبرت المصنعون المصريون على إدخال مكون إسرائيلي بنسبة 11.7% في صناعات النسيج المصرية، كشرط أمريكي لتصدير المنتجات المصرية للولايات المتحدة.

في الوقت الذي، كانت فيه أسعار حديد التسليح تلهب ظهور المصريين، نتيجة احتكار إمبراطور الحديد ورجل أمانة السياسات أحمد عز، كانت صادرات الحديد المصري تتدفق إلى إسرائيل، واستخدمت بشكل أساسي في بناء المستوطنات الإسرائيلية الجديدة، والجدار العازل، الذي ابتلع الأراضي الفلسطينية في الضفة، في ذروة اشتعال الانتفاضة الثانية التي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين تحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية الهمجية.

جاءت فضيحة تصدير الغاز، استمرارا لنهج نفسه، حيث تعاقدت الحكومة المصرية على تصدير 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى إسرائيل، على مدار 15 سنة، قابلة للتجديد، بسعر منخفض للغاية، لا يتجاوز دولارا وربع الدولار، في حين أن قيمته السوقية تزيد على 9 دولارات، في الوقت نفسه الذي قامت فيه الحكومة مؤخرا برفع أسعار المحروقات من بنزين وسولار في السوق المحلي.

هكذا يكمن فهم موقف النظام المصري من الحرب الأخيرة على غزة، في هذا السياق، الذي تخطى فيه مجرد التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي إلى الدعم السياسي المباشر والصريح لإسرائيل، الذي تجسد في إحكام الحصار المفروض على القطاع، بإغلاق المنفذ الوحيد له دون سيطرة إسرائيلية، وهو منفذ رفح، وتحميل الحكومة المصرية للمقاومة مسئولية مقتل أكثر من 1300 فلسطيني، وإصابة أكثر من 5000 آخرين، بدلا من دعمها ضد البربرية الإسرائيلية.

هذا الانحطاط، غير المسبوق لنظام مبارك، لا يمكن فهمه بمعزل عن مجمل السياسة العامة، التي تنتهجها الطبقة الحاكمة، وعن المصالح التي تدافع عنها، حيث لا تقف فحسب لصالح إسرائيل والإمبريالية العالمية، ولكنها أيضا تعد جزءاً من سياسية متكاملة، في جوهرها معادية لمصالح فقراء مصر، حيث ترتكز تلك السياسة على تعظيم مكاسب الرأسمالية ونظامها الحاكم، دون النظر لمصالح المصريين، فمبارك حين يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل، في المنطقة، فهو لا يهدف بالقطع خدمة مصالح العمال في المصانع أو الفلاحين في الحقول/ كما يدعي، إنما يخدم مصالح أحمد عز وساويرس وفريد خميس وغيرهم من حيتان الاستثمار أصحاب العلاقات القوية والمباشرة برأس المال الأمريكي والإسرائيلي.

يعني هذا أن مناهضة التطبيع، التي تأتي في إطار مناهضة الكيان الصهيوني العنصري وفي إطار دعم المقاومة في نضالها ضد الاحتلال، ليست فحسب من قبيل الدوافع الإنسانية أو القومية لجماهير الفقراء المصريين، إنما هي في صلب مصالحهم المباشرة، فالقضاء على إسرائيل يعني القضاء على الراعي الرئيسي لمصالح الإمبريالية في تلك المنطقة من العالم، تلك المصالح التي تعني باختصار إفقار ملايين البشر جراء تطبيق سياسات الاقتصاد الحر، بإيعاز من مؤسساتها العالمية، وفي إطار مناهضة التطبيع يأتي النضال ضد شركاء الإمبريالية والصهيونية المحليين، الذين يجنون الثروات والأرباح على حساب دماء شهدائنا، واستغلال عرقنا وقوتنا.