الوجوه تتغير.. والطائفية مستمرة

“ليه الثورة جميلة وحلوة وانت معايا”.. تلك كانت كلمات الأغنية التي رددها مينا دانيال مع زميله المسلم خلال الـ18 يوم الأولى من ثورة يناير 2011، والتي تعكس الحالة التي سيطرت على مسلمي وأقباط مصر منذ حادث كنيسة القديسين الذي وقع في الدقائق الأولي من عام 2011 (عام إندلاع الثورة)، وهو العام الذي استوعب خلاله الفقراء من المصريين أن النظام هو من يشعل حالة العداء والكراهية بين متطرفي الجانبين، ويقوم باستخدام خطابه الطائفي ليحافظ على بقائه في مواجهة الثورة الاجتماعية.
وجنبا إلى جنب أسقطت الجماهير بمسلميها وأقباطها مبارك، ولكن جاء المجلس العسكري بقيادة السفاحين طنطاوي وعنان لينقذ النظام ويحافظ على بقائه واستمراره في مواجهة الثورة المتقدة، ويقود المجلس الثورة المضادة، فيقمع المتظاهرين، ويستمر في استخدام نفس السلاح الطائفي، معتمدا على تيارات الإسلام السياسي خاصة المتشددة منها، وخطابات التحريض والتكفير التي مارستها القنوات الدينية ومنابر المساجد، بداية من استفتاء مارس.
فبعد أيام من سقوط مبارك عاود العسكر استخدام الخطاب الطائفي عندما وقعت اشتباكات بين مسلمين وأقباط بمركز صول بأطفيح، بسبب علاقة عاطفية بين مسيحي ومسلمة تحولت إلى أعمال عنف طائفي واعتداءات على منازل الأقباط، وتم هدم الكنيسة تحت مرأى ومسمع من قوات الجيش الموجودة، وتظاهر الأقباط بمنطقة ماسبيرو احتجاجا على تلك الأحداث، وبعد عدة محاولات للتهدئة تمت إعادة بنائها، إلا أن النيران لم تنطفئ، وسرعان ما أشعلها العسكر مرة أخرى في أحداث إمبابة، عندما ترك المسيحيين وحدهم يتصدون لاعتداءات مجموعة من الإسلاميين على كنيستي مارمينا والسيدة العذراء، دون أي محاولة من قوات الأمن أو الجيش لأداء دورها المنوطة به في حماية دور العبادة، ولم تكتفِ بذلك بل قامت باعتقال العديد من المسيحيين، وتأتي بعدها أحداث كنيسة الماريناب التي كانت مقدمة للمذبحة التي ارتكبها العسكر أمام ماسبيرو.
وفي مساء الأحد 9 أكتوبر خرج الأقباط في مسيرة من دوران شبرا باتجاه ماسبيرو للتنديد بالاعتداء الطائفي المستمر على كنائسهم ومنازلهم، والذي يتم برعاية طنطاوي ومجلس القتل العسكري، إلا أن قوات الجيش تصدت للمظاهرة، وخلال نصف ساعة كانت تلك القوات قد قامت بارتكاب مجزرة حقيقية راح ضحيتها أكثر من 30 إنسان، من بينهم مينا دانيال أحد أيقونات الثورة المصرية، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 300 آخرين نتيجة إطلاق الرصاص الحي والدهس بمدرعات الجيش.
كل هذا تم وسط خطاب طائفي فج من جهاز الإعلام الحكومي، وصل إلى حد إطلاق نداءات ل “المواطنين الشرفاء” على شاشة تليفزيون الدولة الرسمي للنزول إلى الشوارع وحماية الجيش المصري من اعتداءات الأقباط!.
ينتقل بنا المشهد إلى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية بعد أسابيع، حيث الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، وفي الصف الأول نجد أعضاء مجلس القتل العسكري جالسين، مع ترحيب البابا شنودة بوجودهم، وفجأة تتعالى هتافات يسقط حكم العسكر مدوية من بعض شباب الأقباط داخل الكاتدرائية، مما يعكس حالة جديدة من خروج شباب الأقباط من تحت عباءة المؤسسة الكنسية الرسمية التي طالما لعبت دورا مهما في احتواء ثورة الأقباط ضد الدولة التي تضطهدهم في كافة أشكال العمل السياسي، فلا تمثيل حقيقي للأقباط في الوزارات أوالبرلمان، واجتماعيا دائما ما يجدون صعوبة في الحصول على الوظائف والترقي للمناصب القيادية، ولا تحميهم الدولة من العنف الطائفي الذي يتعرضون له باستمرار، كما لا تمارس حتى أي دور لكبح خطاب التحريض الطائفي ضدهم، والمنتشر في المساجد ووسائل الإعلام.
وبوصول الإخوان المسلمين للحكم تزايدت مخاوف الأقباط من الجماعة وحكمها ومن تعرضهم للمضايقات والمزيد من الاضطهاد، وهو ما حدث بالفعل حيث زادت الأزمة الطائفية برعاية الحكام الجدد، واتسعت بؤر الفتنة والعنف الطائفيين، كما حدث في دهشور من تكرار لمشكلة بين مسلم ومسيحي تتحول إلى أعمال عنف طائفية، وهجوم على منازل الأقباط، وتطور الأمر إلى تهجير مجموعة من الأقباط من القرية، وهو ما تكرر ببني سويف والخصوص، حيث تفاقمت الأوضاع عند تشييع جثامين ضحايا أحداث الخصوص بعد أن قامت مجموعة مجهولة من المدنيين بالاعتداء على الجنازة وإطلاق النيران على الكاتدرائية، ومن خلفها كانت مدرعات الشرطة تقف دون أن تحرك ساكنا، ولا حاجة لنا بالطبع للحديث عن المدى الذي وصل إليه التحريض الإعلامي الطائفي ضد الأقباط خلال فترة حكم محمد مرسي، أو عن تمثيل “محمد الصاوي” للأقباط في لجنة كتابة الدستور.
أسقطت الجماهير مرسي وجماعته في موجة 30 يونيو، ليأتي السيسي وحكومته برئاسة الببلاوي ليستكملا نفس سياسات من سبقوهم بانحيازاتها لطبقة رجال الأعمال، ولا عزاء للفقراء مسلمين كانوا أو أقباطا، ومع تفويض السيسي للقضاء على الإرهاب المزعوم تدق أجراس الكنائس مع صلاة المغرب، ويصوم الأقباط مع المسلمين، ولكن يتم الاعتداء على الكنائس في نفس اليوم في دلجا ومغاغة وبورسعيد، هذه الكنائس التي تركتها الدولة كغيرها من الكنائس بلا حماية أو حراسة، في الوقت الذي قتلت فيه المئات في الميادين بحجة الحرب على الإرهاب.
الوجوه تغيرت لكن النظام هو نفسه، نظام يخدم طبقة حاكمة تستغل الغالبية العظمى من المصريين مسلمين وأقباط، ويشعل فتن لا يذهب ضحيتها سوى الفقراء من الجانبين، ليوجه الغضب بعيدا عن أروقة الحكم وقصور المستغلين، وهو في خلال ذلك يستمر في تجاهل جميع الأقليات، وعلى رأسهم الأقباط ومطالبهم، ويقف موقف المتفرج أمام الجرائم الطائفية التي يتعرضون لها كي يحافظ على بقائه، ويكبح جماح هذا الغضب باستخدام مؤسسة الكنيسة الرسمية إذا ما لاحت بوادر لتحول غضب الأقباط في الاتجاه الصحيح، نحو نظام الدولة القمعي والمستغل.
لكن الثورة المصرية أثبتت أنه بالإمكان كسر هذه الحلقة، وأن الأقباط وفي القلب منهم الطليعة الثورية بإمكانها الخروج من تحت عباءة هيمنة المؤسسة الدينية الرسمية، وتوجيه نضالهم ضد النظام الذي يضطهدهم حقيقة، كما أن بإمكانهم بمشاركة الطليعة الثورية أيضا في كل مكان تنظيم أنفسهم وحماية كنائسهم كما حدث خلال الموجة الأخيرة، وفضح تخاذل الدولة عن حمايتهم في الوقت الذي تتاجر فيه هذه الدولة إعلاميا بأزمتهم ومعاناتهم والاعتداءات الطائفية ضدهم.