اليسار المصري والمؤسسات الخدمية
يتصور الكثيرون في اليسار المصري اليوم أن حل إشكالية انعزال التنظيمات اليسارية عن الجماهير يكمن في إنشاء مؤسسات خدمية تكون بمثابة نقطة التقاء بين المثقفين اليساريين والجماهير وقد رأينا في السنوات العشر الماضية انتشار مثل هذه المؤسسات الخدمية اليسارية. فهناك مؤسسات للخدمات النقابية والخدمات القانونية والوحدات العلاجية والتعليمية وغيرها.
ولم تأت هذه الاستراتيجية الخدمية من فراغ فهناك عدة عوامل تاريخية أدت إلى تبني اليسار لها. ولعل أول هذه العوامل هو الانعزال الشديد الذي وجدت جميع فصائل اليسار نفسها فيه منذ الثمانينات. حيث فقد اليسار قواعده في الجامعات حيث كان في أوائل السبعينات القيادة الغير متنازع عليها للحركة الطلابية وأصبح في أواخر الثمانينات لا وجود له تقريبا في الجامعات. ونفس الشيء ينطبق على الحركة العمالية فعلى الرغم من أن اليسار بكل فصائله لم يكن في السبعينات ذا تأثير كبير في الحركة العمالية باستثناء بعض المواقع فقد انحسر بشدة حتى تواجده المحدود في الحركة مع أواخر الثمانينات. ومع الانعزال الشديد الذي سببه هذا الانحسار في الحركة العمالية والطلابية بدأت عملية إعادة النظر في الأساليب التقليدية للنمو والارتباط بالجماهير وبدأ البحث عن أساليب جديدة.
والعامل الثاني الذي لعب دورا في صعود وهيمنة الرؤية الخدمية في اليسار يتعلق بالحركة الإسلامية. فقد استطاعت هذه الحركة منذ أواخر السبعينات أن تخلق شبكة ضخمة من الوحدات الخدمية حول المساجد والتي قدمت خدمات أساسية مثل العلاج والدروس التعليمية وغيرها بأسعار رمزية في الأحياء الشعبية وأدى هذا إلى حصول الحركة الإسلامية على تأييد واسع في العديد من هذه الأحياء.
وبدأ يُطرح في اليسار منذ أواخر الثمانينات ضرورة الأخذ بهذا النموذج وخلق مؤسسات خدمية يسارية كبديل للمؤسسات الخدمية الإسلامية داخل الأحياء الشعبية.
وكان العامل الثالث وراء صعود استراتيجية المؤسسات هو انهيار الاتحاد السوفييتي فقد زاد هذا الانهيار من انعزال اليسار عن الجماهير وفتح الباب أكثر من أي وقت سابق للعناصر الإصلاحية والانتهازية لطرح وتغليب مشاريعهم “الواقعية” في يسار يسوده الإحباط والتخبط.
وهكذا بدأت المؤسسات الخدمية اليسارية في الانتشار وهيمنت على حركة عدد من فصائل اليسار التي أصبح نشاطها كله مقصورا على خلق وإنشاء وتشغيل المؤسسات بأنواعها المختلفة (علاجية، حقوق إنسان، مرأة، محو أمية، قانونية، نقابية، الخ).
إن جوهر هذه الاستراتيجية هو رؤية نخبوية برجوازية صغيرة ترى أن التغيير يأتي من أعلى وليس من أسفل أي أنها ترى أن دور الجماهير هو التأييد السلبي للنخبة وليس أن الجماهير أنفسهم هم الذين سيخلقون التغيير بشكل واعي.
ويتضح هذا تماما في طبيعة عمل المؤسسات الخدمية فهي تقوم بتقديم الخدمات للجماهير في مقابل خلق تواجد سياسي بينهم. ولكن هذا التواجد السياسي قائم على سلبية الجماهير. فالجماهير في هذه الحالة تتعاطف مع اتجاه سياسي ما فقط لأنه يقدم خدمات أفضل أو أرخص وليس لأنهم تبنوا أطروحات ذلك الاتجاه بشكل واع. انه نفس منطق الانتخابات البرجوازية: انتخبوا فلان لأنه سيخفض الأسعار، سيرفع الأجور، أو يقضي على البطالة، أو يؤمم المصانع. الجماهير عليهم إعطاء أصواتهم والعودة إلى العمل. أما التغيير فسيأتي لهم من أعلى، من النخبة.
ثم أن الجماهير التي تأتي إلى المؤسسات الخدمية تأتي كأفراد لا يربط بينهم إلا احتياجهم للخدمة وكأفراد وليس كجزء من حركة جماعية واعية.
إن المؤسسات الخدمية لا تنمى وعى الجماهير بقوتهم وقدرتهم على تغيير الواقع بل تعمق من وعيهم الزائف وتزيد من إحساسهم بالضعف. فالمسألة تصبح فقط مسألة اختيار بين نخب مختلفة: الدولة، الإسلاميين، اليسار، الخ…
وبدلا من أن يكون الصراع الطبقي هو المجال الذي تنتزع فيه الطبقة العاملة المكاسب الاجتماعية وتحقق مطالبها تتحول هذه المطالب إلى خدمات تقدم إلى العمال بشكل فردى ولو خارج نطاق الصراع. لا يختلف كثيرا هذا المنطق عن منطق العمل الخيري الذي يتعامل مع العمال وكأنهم أطفال محتاجون غير قادرين على انتزاع حقوقهم بنفسهم.
ومن الطبيعي أن تنتهج الحركة الإسلامية مثلا استراتيجية كهذه، فهي حركة برجوازية صغيرة ذات مشروع نخبوي واضح وهى تريد الوصول إلى السلطة وتحتاج تأييد الجماهير السلبي ولكنها لا تريد لهذه الجماهير أن تتحرك بشكل مستقل وفعال. ولكن أليس من الغريب أن تتبنى تنظيمات يسارية استراتيجية كهذه؟
في واقع الأمر إن المسألة ليست غريبة بالمرة، فقد هيمن التراث النخبوي، تراث الاشتراكية من أعلى على تنظيمات اليسار المصري تقريبا منذ نشأتها وتحولت مبكرا فكرة الحزب الطليعي الذي ينظم في صفوفه القطاعات المتقدمة من الطبقة العاملة والذي يكون هدفه النهائي هو سلطة جماهير العمال من خلال مجالسهم المنتخبة، إلى فكرة الحزب النخبوى الذي يتكون أساسا من مثقفين “ثوريين” ويكون هدفه النهائي هو استيلاء ذلك الحزب نفسه على السلطة وتحقيق إصلاحات من أعلى لصالح “الجماهير” (تأميم الصناعة، الإصلاح الزراعي، التنمية المستقلة، الخ..)
إن هذا المقال ليس مجالا مناسبا لتناول التاريخ النخبوى لتنظيمات اليسار المصري، نريد فقط توضيح أن استراتيجية المؤسسات الخدمية جزء من تراث طويل وليس تحولا نوعيا في توجه هذه التنظيمات.
وهناك جانب من عمل هذه المؤسسات لعله يوضح أكثر طابعها النخبوي وهو إشكالية التمويل.
كيف يتم تمويل هذه المؤسسات؟ فإذا كانت الفكرة هي الارتباط بالجماهير من خلال خدمات تقدمها هذه المؤسسات فلابد لهذه الخدمات أن تكون مجانية أو على الأقل بأسعار رمزية خاصة وأن المنافس في هذه الاستراتيجية وهو الحركة الإسلامية قادرة على تقديم هذه الخدمات بأسعار منخفضة جدا. وحتى لو كانت الخدمات التي تقدم غير مكلفة فالإدارة اليومية لمؤسسة تتكلف الكثير وتحتاج أصلا إلى رأس مال أولى لإيجار أو شراء مقر وتحضيره بالأجهزة والمفروشات الأساسية.
كيف يتم التمويل إذا؟ هناك حلان لهذه المشكلة، إما التمويل الذاتي أو التمويل الخارجي. ولكن التمويل الذاتي، أي التمويل من خلال جمع التبرعات الفردية والاشتراكات مثلا، يرتبط ارتباطا مباشرا بحجم الحركة التي تقوم به، فإذا كانت الحركة بها آلاف الأعضاء والمتعاطفين فمن السهل تمويل مؤسسات الحركة ولكن إذا كان الحال كما هو عليه في اليسار المصري الآن حيث الأعضاء والمتعاطفين بالعشرات وليس بالآلاف فيكون من الطوباوية تصور أن رأس المال يمكن جمعه من خلال الاشتراكات والتبرعات الفردية خاصة إذا كان المطروح هو إنشاء مؤسسات خدمية فعالة.
وتؤدى صعوبة التمويل الذاتي إلى أحد استنتاجين: إما ان مشروع إنشاء المؤسسات لا يتناسب مع حجم الحركة وبالتالي لا يجب الدخول فيها إلا عندما تكون هناك إمكانية تمويلها ذاتيا. وهذا المنطق يتناقض بالطبع مع استراتيجية المؤسسات الخدمية حيث أن الذين يطرحونها يرون أنها هي في حد ذاتها الوسيلة للنمو والخروج من حالة العزلة وبالتالي فهي شرط النمو وليس العكس. أما الاستنتاج الثاني وهو الأكثر توافقا مع هذه الاستراتيجية هو أن التمويل الخارجي ضرورة لنجاح هذه المشاريع.
وهناك نوعان من الانتقادات التي توجه لفكرة التمويل الخارجي. الأول هو النقد الوطني الذي يطرح أن التمويل الذي يأتي من مؤسسات أجنبية يؤدى إلى تذيل هذه المؤسسات وتنفيذ خططها وأن هذه المؤسسات الأجنبية مرتبطة من ناحية المصالح والأهداف بالقوة الإمبريالية التي تريد الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة العربية وأن التمويلات الضخمة التي تأتى لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار.
ولكن هذا النقد الوطني ضعيف للغاية ويدحضه مؤيدي التمويل الخارجي بسهولة، فالتمويلات الخارجية لها مصادر مختلفة. هناك المؤسسات الحكومية والتي يكون تمويلها وثيق الارتباط فعلا بسياسات حكوماتها، وهناك المؤسسات الخيرية وغير الحكومية الكبرى ذات الصلة التاريخية بالحكومات الإمبريالية والتي يكون أيضا تمويلها ذا أبعاد سياسية خطيرة. ولكن هناك أيضا مؤسسات غير حكومية لا تربطها أي صلة سياسية أو اقتصادية أو تاريخية بأي حكومات وتكون في كثير من الأحيان معادية لحكوماتها ولا يمكن بالفعل اعتبار تمويلاتها جزءا من المؤامرة الإمبريالية التي يتخيلها الوطنيون.
يبقى جانب واحد من نقد الوطنيين صحيحا تماما وهو نقد يتعلق بالاستقلالية السياسية للمؤسسات التي تتقبل تمويلا خارجية. فعلى الرغم من أنه في كثير من الأحيان تكون هذه التمويلات غير مشروطة، فهناك رقابة ذاتية وشروط ضمنية يجب أن يتبعها الممول حتى تستمر عملية التمويل. فالتمويل يأتي على أساس تقرير تفصيلي عن النشاط ومشروع نشاط الفترة المطلوب فيها التمويل ولا بد أن يوافق الممول على طبيعة وتفاصيل النشاط حتى يوافق على تمويلها وبالتالي تضع خطة النشاط على أساس رؤية الممول وليس على أساس احتياجات تطور النشاط نفسه حتى وان لم يكن هناك أي شروط علنية. وينطبق هذا النقد على التمويل الخارجي بصفة عامة، سواء كان آتيا من مؤسسة أمريكية أو بريطانية كما يحدث الآن، أو كان آتيا من موسكو وفتح والجبهة الشعبية كما كان الحال في الماضي.
أما المشكلة الأساسية في مسألة التمويل فهي تتعلق بعلاقة التمويل بالجماهير، أي تأثير الطريقة التي يتم بها تمويل المشروع على علاقة المشروع بالجماهير التي تلتف حوله، فادا كان التمويل يأتي من مؤسسات خارجية تتحول طبيعة المشروع وحجم التمويل ونوع وكم الاحتياجات إلى مسألة تفاوضية بين مدير المشروع والمؤسسة الممولة وتنفصل تماما عن المشاركين في المشروع والمنتفعين. ولكن التمويل مسألة سياسية وليست تقنية، وترتبط ارتباطا عضويا بعملية التفاعل السياسي الذي يتم على أساسها إلى مشروع له أهداف سياسية، حتى وان كان خدميا.
فإذا كان التمويل يتم على أساس حملات جمع التبرعات وخلق روابط حول المشروع تدفع اشتراكات منتظمة، يكون في هذه الحالة حجم المال الذي يتم جمعه تعبيرا حقيقيا عن مدى تأثير المشروع وحجم جماهيريته ويكون الجمهور مشاركا وواعيا بطبيعة وأهداف المشروع وليس مجرد متلقيا سلبيا.
إن منطق اليسار المتورط في المشاريع الخدمية والتمويل الخارجية منطقا معكوسا إذ أنه إذا كان هناك أموال أكثر نستطيع أن نجذب جماهير أكثر، في حين أن المنطق السليم يقول أنه كلما زادت الجماهير الواعية المشاركة في المشروع كلما زادت الإمكانيات المادية للمشروع وأصبح من الممكن التوسع فيه.
إن منطق التمويل الخارجي يؤدى إلى خلق بيروقراطية مدفوعة الأجر وتتلاشى شيئا فشيئا علاقتها السياسية بالمشروع ويصبح ما يربطها بالجهة المانحة أقوى كثيرا مما يربطها بجمهور المشروع ويتحول المشروع إلى مجال فسيح للفساد والانتهازية والمؤامرات والتنافس البرجوازي خاصة التنافس على التمويلات الخارجية نفسها.