ملوك الفساد وضحايا الثقافة
قد لا يختلف الكثيرون على أن حادثة بني سويف هي الخسارة الثقافية الأفدح منذ عقود. يرى محمد خير أن أهمية الحادث لا تعود إلى طابعه المأساوي فحسب، ولكن لأنه يمثل تلخيصًا نموذجيًا لعهد حسني مبارك بكل ما به من فساد وإهمال وقمع.
لماذا يبدأ الحديث ولا ينتهي – مرارًا وتكرارًا – عن كارثة حريق قصر ثقافة بني سويف؟ ليس لأن الحادثة هي مجرد مأساة إنسانية، ولا لأنها خسارة ثقافية لا يمكن تعويضها فحسب، ولا لأنها وقعت في خضم حراك سياسي لم تشهد مصر مثله منذ عقود، وإنما لأنه الحادثة/ المأساة بكل تفاصيلها الممتدة منذ يوم 5 سبتمبر إلى لحظتنا هذه، تمثل تلخيصًا نموذجيًا لعهد حسني مبارك، تلخيصًا يندر أن تعثر على مثله في أحداث وكوارث أخرى تحمل كل منها جانبًا من سلبيات هذا العهد. حادثة قصر ثقافة بني سويف جمعت المهزلة من كل أطرافها، وفي المستقبل سوف يتم تدريسها للتلاميذ بدلاً من عناء دراسة ربع القرن الماضي برمته.
اللاعبون في مأساة بني سويف هم بذاتهم اللاعبون الأهم في عهدنا السعيد، الفساد، والإهمال، والقمع، ومثقفو السلطان (النخبة الخائنة).
والخاسرون، هم بذاتهم من نخسرهم منذ عقود في نزيف مستمر، دم المواطن المصري، الثقافة الحقيقية التي تنتمي إلى المواطن لا إلى المهرجانات، حق الإنسان في كرامة تحفظ جسده وروحه، ثم الخسران الأهم: حكم القانون، روح المحاسبة، ضرورة معاقبة المسئول الحقيقي.
ما بين ملوك الفساد وضحايا الثقافة، وقعت مأساة بني سويف، وعندما نستعرض وقائعها الآن – وقد عرف الجميع معظمها – فذلك لندلل على كونها الرمز الأبرز لتحالف الفساد والاستبداد، وحتى نحاول فهم الداعي وراء تمسك الرئيس بالوزير، ولو كره الكارهون!
الفساد:
تمتد المئات من مؤسسات الثقافة الجماهيرية في طول مصر وعرضها، وقد ورثتها الوزارة الحالية عن التي سبقتها وعن العهد الناصري الذي اهتم – رغم كل التحفظات – بالفقراء حقًا لا قولاً. وقد مثلت تلك المؤسسات من قصور للثقافة ومسارح للهوة عبثًا ثقيلاً على وزارة الثقافة في العهد المباركي الذي استبدل العمال برجال الأعمال، واستبدل الطبقات المسحوقة بالنخبة الغنية. إن عهد مبارك الذي لم يكف عن التغني بالاقتصاد الحر وشرع في الخصخصة بكل ما صاحبها من فساد، وحد بين يديه تركة ثقيلة لها أدوار جماهيرية هي أبعد ما تكون عن التوجهات الجديدة.
كان من الطبيعي إذن، أو المتوقع، أن يتخلص العهد المباركي من تلك المؤسسات الجماهيرية بالبيع أو الخصخصة كما فعل مع شركات القطاع العام. غير أن المؤسسات الثقافية والإعلامية، كقصور الثقافة والإذاعة والتليفزيون، لها – في نظره – أدوار لا يجوز التفريط فيها، لها أدوار أمنية. من غير المتصور أن يترك مبارك – والسادات من قبله – مؤسسات التوجيه الإعلامي والمعنوي تخرج عن سيطرة المباحث إلى أيد غريبة غير مضمونة التوجهات. إن قصور الثقافة هي أول باب يطرقه المثقف في الأقاليم، وبالتالي فإن سيطرة الدولة على تلك القصور هي سيطرة على المثقف نفسه أو في أحسن الأحوال مراقبته.
كان الحل السحري الذي يضمن للسلطة أن تتحرر من العبء المادي لتلك المؤسسات دون أن تتخلى عن السيطرة عليها، هو ترك هذه المؤسسات للإهمال، تخفيض المخصصات المالية أو عدم زيادتها لعقود طويلة، عدم صيانة عشرات المسارح والمكتبات المتناثرة في أرجاء الوادي والدلتا، وفي نفس الوقت استخدام هذه المؤسسات في مكافأة الأتباع المخلصين ورشوة المثقفين، من خلال تعيين هذا مكان ذاك في مناصب وهمية بمؤسسات معدومة الدخل، حيث يحصل مدير هذا القصر أو تلك الإدارة على دخل يتجاوز أحيانًا المبلغ المخصص لنشاط تلك الإدارة!
بالطبع، فإن الكثير من المثقفين انتبهوا للعبة، واكتشفوا أن المنصب الذي تصوروا أنهم من خلاله يخدمون الثقافة ما هو إلا لعبة في يد من يحسمون المر في لحظة الجد، ويبيعون الثقافة وأهلها. لهذا، كثرت استقالات المثقفين المعدمين، وكثرت الإقالات كذلك كلما بحثت الدولة عن كبش فداء لرؤية مصادرة أو تمثال أثري مسروق. هكذا، فإن قصور الثقافة خلت أروقة إداراتها من المثقفين، واقتصرت على الموظفين الذين كان ولا يزال أغلبهم، أعداء للثقافة، وبعضهم حارب الأنشطة وارتدى عباءة التزمت. ولم يعد مشهدًا غريبًا أن ترى مدير قصر ثقافة يمنع النشاط المسرحي أو يحاربه بكل السبل من خلال تطفيش الفنانين الهواة.
رغم كل ذلك، ظلت قصور الثقافة تلعب دورًا أهم بكثير من المهرجانات اللانهائية التي تقيمها وزارة الثقافة وتدعو إليها ما تيسر من الفنانين الأجانب المدفوعة إقاماتهم وتذاكر طيرانهم، وظل الهواة يصنعون مسرحياتهم بتكلفة لا تزيد حسب الميزانية عن ألف من الجنيهات أو ألفين! وظل العديد من المثقفين المخلصين يبذلون جهدًا يفوق الاحتمال البشري من أجل رعاية موهوبي الأقاليم الفقراء، ويرعون – بجهودهم الذاتية – مهرجانات أخرى تخدم الثقافة المصرية حقًا، مهرجانات تصنع من الفسيخ شربات، وتقدم – بتكلفة شبه صفرية – أعمالاً فنية حقيقية ومواهب شابة، مهرجانات مثل نوادي مسرح الأقاليم الذي كانت مأساة بني سويف هي نهايته الفاجعة قبل ساعات من افتتاح مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة الذي يتكلف ملايين الجنيهات، بينما كان رعاة مهرجان الأقاليم من المثقفين الحقيقيين (مثل حازم شحاتة ومحسن مصيلحي وصالح سعد) يبيتون ليلتهم في فندق شبابي فقير، ليتابعوا ما رعت أيديهم من عروض في محافظة بني سويف التي سافروا إليها عن قناعة بأهمية رعاية عرض مسرحي في مسرح صعيدي فقير ساهموا هم في افتتاحه، ولم يعرفوا أن نهايتهم ستكون بين جدرانه.
الإهمال:
من المعتاد في مصر ألا يبدأ تلافي الإهمال في أي من المؤسسات إلا بعد وقوع الكارثة. أما في حادثة بني سويف، فقد انكشف برقع الحياء، ولم يعد لدى الحكومة ما تحاول أن تداريه. لذا، فقد ظل الإهمال هو سيد الموقف قبل وأثناء وبعد الكارثة، في المسرح – الذي لم يكن مسرحًا – وفي المشرحة وفي النيابة وفي المستشفيات، وحتى في تصاريح الدفن وتقارير المصابين، استمر الإهمال وتفاقم من مرحلة لأخرى متزامنًا مع رفض مبارك لاستقالة فاروق حسني، وكأنه يقول للضحايا أن احتراقهم واحتراق آلاف غيرهم لن يهز منه ومن حكمه شعره.
كان مؤمن عبده هو آخر الشهداء حتى الآن. توفي في السابع من أكتوبر بعد أكثر من شهر على المحرقة، وتعددت الروايات في شأن وفاته، هل هي بسبب احتراق الرئة أم تلوث الجرح أو سوء الترقيع أو الغرغرينا، حتى أن تصريح الدفن الذي أصدرته نيابة عين شمس حفل بالأخطاء التي اضطرت النيابة لاستبداله فتأخر سفر الجثمان (رقم 49 من ضحايا المحرقة) إلى مثواه في الإسكندرية.
إن إهمالاً من هذا النوع بعد مرور أكثر من شهر على المأساة لا بد وأن يعطي القارئ فكرة عن الإهمال وقت وقوع الحادث، وقد كان إهمالاً متعدد الأشكال والدوافع:
- أقيم العرض المحترق داخل قاعة للفنون التشكيلية غير مؤهلة لعروض مسرحية، القاعة لها بابين، أحدهم يطل على الشارع وكان مغلقًا بالجنزير، والأخر باب خشبي صغير يصل بين القاعة وقصر الثقافة وكان مغلقًا من الخارج بينما اختفى المسئول عن فتحه ولم يظهر إلا بعد انتشار الحريق.
- أجهزة التكييف في القاعة وعددها ثلاثة أجهزة لم تخضع للفحص الدوري مما أدى لتسرب غاز الفريون فاحترقت القاعة في ثوان قليلة.
- القاعة لا يمكن أن تستوعب أكثر من خمسين متفرجًا ولكنها ضمت أكثر من مئة وخمسين.
- لم يعثر أحد على طفايات الحريق إلا بعد فوات الأوان، كانت الطفايات راقدة داخل خزانة مغلقة وعندما أخرجوها أخيرًا لم تعمل سوى اثنتين منها.
- وصلت أول سيارة مطافئ بعد خمسة وأربعين دقيقة من الحادث وكانت معطلة فأرسلوا ليجلبوا غيرها بعد نصف ساعة إضافية!
- وصلت أول سيارة إسعاف بعد نصف ساعة رغم أن المستشفى لا تبعد أكثر من عشر دقائق، واضطر الناس إلى تكديس الضحايا داخل السيارتين الوحيدتين اللتين وصلتا.
- مستشفى بني سويف كانت خالية من الأطباء باستثناء طبيب أو اثنين، وخالية من أية أجهزة طبية تساعد في إنقاذ الضحايا.
- وصل وزير الصحة بعد ساعتين فحضرت معه عشرين سيارة إسعاف وعندما رحل رحلت السيارات معه.
- استمر الإهمال في المستشفيات التي نقلوا إليها المرضى فاستمر وقوع حالات الوفاة، حتى أن الراحل صالح سعد لم تكن نسبة حروقه تزيد عن ثلاثين بالمئة.
- نقل المصابين تم بطريقة نقل الجثث دون مراعاة لإصاباتهم مما أدى لوفاة كثير منهم نتيجة النقل الخاطئ والتعامل العنيف.
- في المشرحة كوموا الجثث على الأرض فوق بعضها البعض لحين حضور المحامي العام الذي لم يحضر إلا في الساعة الثانية من عصر اليوم التالي.
القمع:
لم يصدق أهالي الضحايا أنفسهم عندما وجدوا جحافل المن المركزي تصطف أمام المشرحة التي تضم أبدان ذويهم، ظن البعض أنه مجرد إجراء وقائي. ولكن عندما تأخرت الإجراءات وتعطلت، وشهد البعض المعاملة الغير إنسانية لأجساد الضحايا وبدأوا في الاحتجاج، انهالت عصيان الأمن المركزي فوق رؤوس الأهالي، انهالت العصيان بعنف محدثة إصابات جديدة، ومبرهنة على لا إنسانية هذا النظام الذي كان يستعد ليلتها لانتخابات الرئاسة معتمدًا على إنجازاته!
لم تكن عصي الأمن المركزي هي الطريقة الوحيدة التي انتهجها النظام للقمع، وإنما كانت التصريحات التي أطلقها وزير الثقافة ومحاسيبه وسيلة أخرى لا تقل ضراوة، تخللتها اتهامات للمكلومين باستغلال المأساة سياسيًا، وعدم احترام ضحايا المأساة والزج بهم في تصفية الحسابات! وكان أشر أدوات القمع هي ما تردد عن تهديدات لبعض المصابين في المستشفيات بتجنب الحديث لوسائل الإعلام وبضرورة دفع مبالغ تحت الحساب خوفًا من أن تتخطى تكلفة العلاج مبلغ الثمانية آلاف جنيه التي حددتها الدولة كسقف لعلاج المصابين.
مثقفو الوزير (حكماء السلطان):
الحوادث الكبرى من نوع مأساة بني سويف تحدد المواقف، وترسم الحدود الفاصلة التي تميعها مراحل الجمود واللافعل، وتفضح الذين استكانوا في حضن السلطة متناسين أن السلطة تحتفظ بهم كي يساندوها في مواقف كهذه ليضيعوا تاريخهم النضالي والثقافي ويمسحوه بأستيكة.
كان البيان الذي وقعه العديد من المثقفين لتأييد فاروق حسني مفاجأة كبرى، حتى أنه طغى لبعض الوقت على الحادثة الأصلية، لم يتخيل أغلبنا أن هناك من يملك من الجرأة أن يؤيد الوزير في لحظة كهذه تتصاعد فيها صرخات أهالي الضحايا وتتساقط دموع الثقافة المصرية. وكانت الفاجعة هي الأسماء الكبيرة التي وضعت اسمها على البيان الذي صدر لإنقاذ الوزير وشق صفوف المثقفين المصريين. وكانت العجلة بارزة في إصداره حتى أنهم ضموا إليه أسماء لم توقع عليه، ومن ثم أنكرت مسئوليتها عنه بكل قوة. وكانت المفارقة أن النسبة الغالبة من الأسماء هي لموظفي وزارة الثقافة الذين يعيشون من خير الوزير، كأن هؤلاء المثقفين الموقعين شاءوا أن يضعوا أنفسهم في حكم الموظفين الذين هم ملك يمين فاروق حسني. وكانت المأساة الأكبر أن تضم القائمة أسماء كبيرة في المسرح المصري وكان أولى بها أن تنتصر لأبناء مهنتها المغدورين.
غير أن لهذا البيان فضل في بيان الخيط الأبيض من الأسود، وتحديد قاعدة المثقفين الحقيقيين الذين ضمتهم جماعة أدباء وفنانون من أجل التغيير، في مقابل مثقفي الوزارة. رغم الخسارة الكبرى فإن مصر ولادة، ولن تلبث أن تنجب سريعًا ما يعوض الخسارة. غير أن الكارثة هي أن تتبلد جلودنا وتسمك حتى يمسي ما وقع مجرد حادثة كغيرها. ساعتها فقط سوف يصاب الوطن بالعقم.