مناورة نووية للديكتاتور
أعلن مبارك يوم الاثنين 29 أكتوبر الماضي عن انطلاق مسيرة الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وذكر في حفل افتتاح محطة للطاقة الكهربائية بشمال القاهرة “إنني اتخذت هذا القرار الاستراتيجي متحملا مسؤوليتي كرئيس للجمهورية”، وأعرب عن ثقته في قدرة الشعب المصري على “النهوض بتبعات هذا القرار ومسئولياته”. وكما جرت العادة، ارتفعت الأصوات للتكهن بما وراء تصريحات مبارك وقراراته، وظهر من يرى في تلك التصريحات خطوة إلى الأمام، إذا ما تثنى لها أن تتم، بمجال مواجهة أزمة الطاقة في مصر فضلا عن الفائدة المتضمنة في خطوة كهذه من تأكيد على السيادة الوطنية وتطوير قدرة البلاد على الردع وتمكنها من زيادة هامش المناورة بالشئون الدولية. الحماسة الكبيرة التي يتلقف بها البعض تصريحات مبارك، ومن قبلها تصريحات وريث العرش جمال، حول حق مصر في استئناف مشروعها النووي “السلمي” تحتاج إلى مراجعة. فبغض النظر عن مدى صدق القرار الذي أعلنه مبارك علينا أن نتساءل: هل من الممكن أن يتغير، وقد أوشكنا على الاحتفال بذكرى اليوبيل الفضي (مرور 25 سنة) على تقلده للحكم، بتبنيه لمشروع قومي ناجح ينسينا فشل مشاريع مثل شرق التفريعة وتوشكي. وهل من الممكن أن تمتلك مصر المنسحقة في عهد مبارك مشروعا نوويا مستقلا؟
أزمة الطاقة وحل “الوطني”
يمكن اختصار مشكلة الطاقة في مصر بالقول أن اعتماد مصر بنسبة 94% على مصادر الطاقة الناضبة، أي المعرضة للنفاد، في وقت ترتفع فيه أسعار البترول بمعدلات قياسية، يجعل المصريين عرضة لأزمات اقتصادية طاحنة بسبب الغلاء. ومن المتوقع، أن ينضب 95% من احتياطي النفط في الأراضي المصرية خلال 15 عاما، الأمر الذي يطرح عمليا فكرة توفير مصادر بديلة للطاقة في ظل التذبذب والارتفاع الهائل في أسعار النفط وتضاعفها ثلاث مرات خلال الثلاث سنوات الماضية، ليرتفع سعر برميل النفط من 20 دولار إلى 75 دولار خلال هذه الفترة. هذا وقد صرح وزير البترول سامح فهمي بأوائل الشهر الماضي بأنه من المتوقع أن يصل سعر برميل النفط إلى 100 دولار خلال الشهور المقبلة. كان هذا هو السياق الذي تبنت فيه الحكومة مشروعا لتعديل أسعار الطاقة التي تستهلكها المصانع كثيفة الطاقة بغرض توفير 15 مليار جنيه لخزانتها العامة. لكن، أدى هذا الإجراء، إلى جانب مجمل سياسات الدولة الاقتصادية، التي تفتح الأبواب على مصراعيها لرجال الأعمال، إلى ارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسية بالنسبة لجموع المصريين. فبحسب تنبؤات عدد من رجال الأعمال أدى هذا الإجراء إلى تحمل المستهلك لارتفاع تكلفة المنتج النهائي بنسبة 15%. وتجدر هنا الإشارة إلى نسب ارتفاع الأسعار من سبتمبر 2006 إلى نفس الشهر من عام 2007 بحسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لبعض السلع: الأرز بنسبة 21% والدقيق بنسبة 20% والعيش البلدي بنسبة 4% والزيوت بنسبة 11%. هذه الزيادة الهائلة في الأسعار تواجهها حكومة مبارك بالمزيد من الوعود طويلة الأجل، فإنشاء محطة نووية يعني دخولها الخدمة بعد وقت يستغرق 10 سنوات. هكذا وفي نفس الوقت الذي يدور فيه الحديث حول تبني مشروع استراتيجي قومي كإنشاء محطات نووية، لا تشغل حكومة مبارك بالها بإعادة توجيه التعامل مع مصدر آخر للطاقة وهو الغاز الطبيعي بحيث يفي باحتياجات مصر الآنية.
كثيرا ما يتردد أن الهدف الحقيقي وراء تبني قادة الحزب الوطني لمشروع الاستخدام النووي للطاقة السلمية، هو الترويج للحزب وبالتحديد لرموز بعينها به وأن المشروع برمته لن يخرج أبدا إلى النور. هذا التصور يحمل الكثير من الحقيقة، فمن غير الممكن تجاهل ارتباط تصاعد تلك التصريحات القومية الرنانة بموعد انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم. لقد جاء الإعلان الأول عن هذه الخطوة من جانب جمال مبارك، وريث العرش المرتقب، في افتتاح المؤتمر السنوي الثامن للحزب الذي انعقد في سبتمبر 2006. وهو ما أكده مبارك في ذكرى احتفالات أكتوبر 2006 بقوله: إن الخيار النووي يأتي “في إطار إستراتيجية شاملة لمستقبل الطاقة في مصر .. ما من أحد ينازعنا في حقنا الثابت في أن ننشغل بهذه القضية الإستراتيجية وأن نقرر بشأنها”. ومن ثم خرج علينا وزير الكهرباء والطاقة تحت قبة البرلمان ليؤكد أن مصر ليست بصدد إنشاء محطة نووية واحدة بل عدد من المحطات النووية لتوليد الطاقة، مشيرا إلى أن مصر وقعت طوال السنوات الماضية اتفاقيات للتعاون في المجال النووي مع 7 دول. ومؤخرا، وعلى مشارف انعقاد مؤتمر الحزب الوطني –الذي عُقد يوم 3 نوفمبر الحالي- أكد مبارك أنه بصدد استصدار قرار جمهوري يقضي بإنشاء مجلس أعلى للطاقة النووية يتحمل مسؤولية الدور الريادي الذي اختاره لمصر! بعدها تنشر الصحف القومية أنباء حول زيارة وفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أواخر نوفمبر الجاري للبدء بالمباحثات.
ومن الجدير بالذكر، أن الوكالة الدولية كانت قد أبدت استعدادها لمساعدة مصر في أن تبدأ برنامجا سلميا للطاقة النووية عقب تصريحات جمال مبارك العام الماضي، كما رحبت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس خلال زيارتها لمصر يوم 4 أكتوبر 2006 بما أبدته القاهرة من اهتمام بتطوير برنامج للطاقة النووية السلمية، طالما ظل هذا البرنامج قائما على أساس الاعتماد على مصدر خارجي للوقود النووي معتبرة أن هذا الشرط ضروري للوقاية من مخاطر الانتشار النووي. بلغة أخرى، ستظل معتمدة على استيراد الوقود النووي –كما هو الحال الآن باستيرادها الأنواع الأخرى من الوقود- على العكس مثلا الحالة الإيرانية التي يقوم مشروعها النووي على أساس الإنتاج الذاتي، نتيجة لتوافر احتياطي ضخم لليورانيوم في أراضيها من ناحية، وإصرارها على القيام بتخصيب اليورانيوم من ناحية أخرى.
ولقد علت بعض الأصوات، بعد أن أصدر مبارك تصريحاته الأخيرة، التي ترى أن على مصر مواجهة أزمة الطاقة عبر إنشائها لمحطات للطاقة المتجددة (غير المعرضة للنفاد)، كالطاقة الشمسية، خاصة وأن الاقتصاد المصري لا يتحمل عبء حل مشكلة الطاقة المعرضة للنفاذ (البترول) باستبدالها بطاقة أخرى معرضة للنفاد (إالطاقة النووية) خلال 64 عاما. ونقلا عن صحيفة “المصري اليوم” على لسان أحد علماء الطاقة الدوليين هاني النقراشي تواجه المحطات النووية العديد من المشكلات أهمها مسألة التخلص من النفايات النووية، وهي مشكلة لم تجد لها الدول الكبرى حل حتى الآن فضلا عن معضلات تفكيك تلك المحطات والتي تتكلف 6 أضعاف تكلفة إنشاؤها وأخيرا تكلفة مواجهة حادث نووي واحد.
المشروع النووي المصري والسياسة
كان تبني مصر للمشروع النووي منذ البداية وثيق الصلة بالسياسة الإقليمية. فقد أسس عبد الناصر هيئة الطاقة الذرية وأنشأ مركزا للأبحاث النووية بإنشاص على أثر تبني واشنطن لبرنامج “السلام للذرة” أوائل الخمسينات. ومع زيادة حدة المخاوف في بداية الستينات من أنشطة الكيان الصهيوني الجارية في مفاعل ديمونة، هددت مصر للمرة الأولى بتطوير قدراتها النووية وتقدمت بمشاريع انتهت بالرفض من طرفين هما الاتحاد السوفييتي والصين. وبعد نكسة 1967 وقعت مصر على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية في يوليو 1968 على أمل أن يقوم الكيان الصهيوني بالمثل. وبعد وفاة عبد الناصر، وفي سياق المحاولات السلمية الفاشلة لاستعادة الأراضي الضائعة في يونيو 1967، أوقف السادات محاولات مصر في الحصول على أسلحة نووية وركز على تطوير برنامج الطاقة النووية السلمية لمواجهة الأزمات الاقتصادية المزمنة في مصر، الناتجة عن ضآلة نصيبها من مصادر الطاقة.
وبعد أن وقعت مصر على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني جددت توقيعها على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وشرعت بإقامة تعاون مع العديد من الدول المتقدمة في مجال الطاقة النووية السلمية. وعندما صعد مبارك إلى السلطة عام 1981 كان من المفترض أن يستكمل سياسة إنشاء صناعة للطاقة النووية السلمية، وكانت الخطة الموضوعة -على الورق- حينها تتضمن العمل على تطوير دورة مستقلة للطاقة النووية عن طريق التنقيب عن اليورانيوم وإنشاء مصنع لتخصيبه وآخر لحرق الوقود. يجب الإشارة هنا إلى أن ما يدور الاتفاق حوله اليوم يتضمن استيراد الوقود وعدم التنقيب عن اليورانيوم.
ومن المؤكد أن في حالة شروع مصر بالدخول في مجال صناعة الطاقة النووية السلمية أنها ستعتمد لا محالة على مساعدات البنك الدولي، هذا وقد صدرت تصريحات من مسئولين به تعد بتمويل مشاريع الطاقة النووية السلمية بمصر. كما اتفقت مصر على بروتوكول للتعاون مع الحكومة الروسية بشأن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية ولم يتم التوقيع على الاتفاقية أو البرتوكول حتى الآن، لكن المثير هو أن الاتفاقية تتضمن بنود من نوع تبادل الخبرات والأبحاث دون أن يرد أي ذكر للإنشاء الفعلي لمصانع الطاقة النووية.
الحقيقة أن حلم امتلاك مصر للسلاح النووي بهدف مواجهة الإمبريالية، بعد كل الدروس المستفادة من تجارب كالاتحاد السوفيتي وباكستان، يبدو ساذجا إلى حد كبير. فلا السلاح النووي منع سقوط الإمبراطورية السوفيتية تحت وطأة تنافسها مع الإمبريالية الأمريكية، ولا هو حقق استقلال القرار للنظام الحاكم في باكستان.