بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

مراجعات الجماعات الإسلامية وأزمة نظام مبارك

شهدت نهاية حقبة التسعينات انتهاء الحرب بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة، هذا الصراع الذى دام ما يقرب من عقدين من الزمان، وكانت نتيجته الواضحة للعيان انتصار ساحق للدولة وهزيمة منكرة لهذه الجماعات، تجسدت هذه النتيجة في الخسائر الهائلة التى منيت بها الجماعات الإسلامية من آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين الذين امتلأت بهم سجون مبارك بهم، مذبحة حقيقية قام بها نظام مبارك ضد هذه الجماعات، أدت فى النهاية إلى رفع الأخيرة للراية البيضاء عام 1997 عندما ظهرت لأول مرة فكرة المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية والتى أعلنها أحد قادتها أثناء إحدى المحاكمات العسكرية لأعضاء الجماعة.

هذه المراجعات التى أعلنت خطأ الجماعة ومنهجها فى الخروج على الحاكم والنظام ومقاومته بقوة السلاح، ودعت إلى وقف العنف بشكل نهائي، والعودة إلى العمل الدعوى فقط، استناداً إلى تأويلات جديدة معتدلة للأحكام الفقية فيما يتعلق بفكرة الحاكمية والطائفة الممتنعة وغيرها من المفاهيم التى كانت الجماعة تتبنى بشأنها في الماضي تفسيرات متطرفة أدت بها إلى مواجهة مسلحة مع النظام.

ورغم انطلاق هذه المراجعات عام 1997 إلا أن الدولة لم تعيرها إهتماماً ولم تثق بها، حتى جاء عام 2002 وبدت الدولة أكثر قبولاً لتغيير موقفها، والدخول فى صفقة مع الجماعة الإسلامية، بناء عليها تقوم قيادات الأخيرة بمراجعات شاملة وجذرية للأفكار القديمة ونبذ العنف، فى مقابل الإفراج عن أعضائها.

ولم تكد تنتهى مراجعات الجماعة الإسلامية حتي دخلت الدولة فى صفقة جديدة مع جماعة الجهاد، التى كانت ترفض المراجعات في الماضى، حيث يعكف قادة الجهاد فى المعتقلات الآن على استكمال كتابة البحوث الفقهية الخاصة بمراجعاتهم، والتى بناء عليها بدء بالفعل الإفراج عن مجموعات من أعضاء الجهاد، ومن المنتظر الإفراج عن مجموعات أخرى مع التقدم خطوات جديدة فى عملية المراجعات.

ومع بدء حديث المراجعات والإفراج عن أعضاء الجماعات الإسلامية أخذت أبواق دعاية النظام في التهليل والتسبيح بديمقراطية نظام مبارك وسعة صدره، فها هو مبارك يتسامح مع أعداء الأمس ويخرجهم من المعتقلات إعمالا لكل مبادئ حقوق الإنسان!، فهل كانت المراجعات مصالحة حقيقة بين الجماعات الإسلامية ونظام مبارك نابعة من ديمقراطية الأخير، أم ماذا؟

الجماعات الإسلامية من المواجهة المسلحة إلى المراجعات:

شهدت حقبتى السبعينات والثمانينات نمو سريعاً وواسعاً للجماعات الإسلامية الجهادية فى مصر، فى شكل ثلاث تنظيمات رئيسية هي الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وجماعة التكفير والهجرة، كانت الجماعة الإسلامية أكثرها نفوذاً وأوسعها انتشاراً حتى يقدر البعض أعضاء الجماعة في نهاية التسعينات بما يقرب من 40 ألف عضو، في حين يأتي في المرتبة الثانية تنظيم الجهاد الذي بلغ عدد أعضائه في نفس الفترة مايقرب من 6 آلاف عضو، وأخيراً تنظيم التكفير والهجرة وهو بالمقارنة بالجماعتين السابقتين فهو أصغرهم حيث بلغ عدد أعضائه ما يقرب من ألفين من الأعضاء.

ويعود هذا النمو السرطاني لهذه الجماعات منذ نهاية السبعينات لجملة من العوامل يمكن تلخيصها في حالة الإحباط والإنكسار التي عاشتها مصر في أعقاب نكسة 1967، فمع تحطم الحلم الناصري، وإنهيار كل الآمال في الإستقلال عن الإستعمار والتنمية المستقلة والوحدة العربية …إلخ، انزلق جيل كامل إلى حالة من اليأس والإحباط والغضب، خاصة مع اتجاه نظام السادات إلى التراجع عن مكتسبات الفترة الناصرية وتحوله نحو التحالف مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، والإندماج بخطوات متسارعة في الرأسمالية العالمية، وما أن أتت حقبة الثمانينات حتى طفحت مظاهر هذا التحول بفجاجة، التى تبدت على الصعيد الإقتصادي في انتشار الفقر والبطالة إلى معدلات غير مسبوقة، وعلى الصعيد السياسى أصبح أعداء الأمس من الإمبريالية والصهيونية حلفاء اليوم في ظل استمرار إحتلال الأراضي الفلسطينية والسورية ولبنان وسيادة منقوصة لمصر على سيناء، وفي الوقت ذاته أنجز النظام المصري هذه التحولات بالقبضة الحديدية التى قمعت وهمشت كل المعارضة السياسية.

هذه التحولات لم تطل كل مصر بالتساوى، فبينما استفادت حفنة صغيرة على صلة بدوائر الحكم والرأسماليون الجدد الذين أفرزتهم مرحلة الإنفتاح، كان هناك الملايين من فقراء الريف (خاصة في الصعيد) وفقراء المدن في الأحياء الشعبية، وسكان العشوائيات النازحون من الريف تحت وطأة الفقر بحثاً عن فرصة للحياة، حتى أصبحت القاهرة مطوقة بحزام من العشوائيات يعيش فيها ملايين البشر في ظروف حياتية أقل ما يقال عنها أنها غير آدمية.

ومع تحطم المشروع الناصري على صخرة 1967، وإفلاس اليسار المصري الذي اختار الإندماج مع الدولة الناصرية سواء عضوياً أو فكرياً، وتفكيك جماعة الإخوان المسلمين خلال الحقبة الناصرية، أصيبت الساحة السياسية المصرية بحالة من الفراغ المميت، سرعان ما تقدمت الجماعات الإسلامية الجهادية لإحتلاله، وكانت الأرض ممهددة تماماً، سياسياً وافتصادياً وإجتماعياً كما ذكرنا، لذلك لم يكن غريباً أن كانت الأغلبية العظمي من أعضاء هذه الجماعات من فقراء الريف والمدن ومهمشي العشوائيات التي أحاطت بالقاهرة كالحزام الناسف، ولم يكن غريباً أيضاً أن يكون الصعيد الأفقر والأقل حظاً من التنمية نقطة الإنطلاق لهذه الجماعات ومقراً لقيادتها ومسرحاً لمعظم عمليات المواجهة بين هذه الجماعات والدولة.

لقد تقدمت هذه الجماعات –في ظل إفلاس المشاريع السياسية الأخرى- بمشروع للمقاومة الإجتماعية تستمد شرعيتها من تأويلات وتفسيرات متطرفة لأحكام الدين الإسلامي، تقوم في جوهرها على أنه لا مناص للخلاص من الظلم والقهر والفقر سوي بالرجوع إلى الدين وأحكامه التي يبتعد عنها الحكام، ومن ثم وجب قتالهم لإجبارهم على الرجوع إليها، وهكذا انحرفت هذه الجماعات بطاقة الغضب الإجتماعي التي تعتمل فى صدور الفقراء نحو الإرهاب والعنف المسلح الموجه ضد الدولة.

خاضت الجماعات الإسلامية الجهادية حرباً شرسة ضد الدولة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، اتخذت شكل أعمالاً إرهابية استهدفت رجال الشرطة وبعض رموز الدولة والمثقفين العلمانيين، لكن المعركة لم تكن متكافئة بالمرة، فقد استخدمت الدولة كل قواها ومؤسساتها لمواجهة خطر هذه الجماعات، بدء من عمليات التصفية الجسدية لأعضائها وحرب الإبادة التي شنتها قوات الأمن ضد عناصرها، وحتى الحرب الإعلامية والفكرية التى استخدمت فيها الدولة مثقفيها وأجهزة إعلامها ومؤسستها الدينية لمحاربة الأفكار الجهادية.

المراجعات وأزمة مبارك

مع نهاية التسعينات خرجت الدولة من المعركة –رغم الخسائر التى منيت بها- منتصرة، ومنيت الجماعات الإسلامية بهزيمة ساحقة، بعد تصفية الآلاف من عناصرها جسدياً في المواجهات مع الأمن، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين.

اكتظت سجون مبارك بمعتقلي الجماعات الإسلامية، وكما كانت تجري التصفية الجسدية لأعضائها في الخارج بالمواجهات مع الأمن، كانت تتم تصفية أخري معنوياً وجسدياً داخل المعتقلات، حيث مارس جلادو مبارك أبشع أنوع التعذيب والتنكيل بمعتقلي هذه الجماعات طوال العقدين الماضيين، حتي عدداً كبيراً منهم قُتل من جراء التعذيب، ومن بقى حياً منهم أصبح بقايا إنسان، الأمر الذي مهد الطريق لفكرة المراجعات التى بدت هي المخرج الوحيد من جحيم المعتقل، وبالفعل انطلقت المباردة الأولي من أحد قيادات تنظيم الجماعة الإسلامية أثناء إحدى المحاكمات العسكرية، حيث أعلن عن نية الجماعة للقيام بمراجعة شاملة للأفكار الجهادية ونبذ العنف نهائياً والعودة للعمل الدعوي فقط، لكن المبادرة توقفت بعد حادثة الأقصر والتى راح ضحيتها 57 سائحاً وتبنتها مجموعة أطلقت على نفسها كتائب الخراب والدمار التى حسبت على تنظيم الجماعة الإسلامية.

مع بداية الألفية الثالثة وبالتحديد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأت مرحلة جديدة من حياة نظام مبارك، فالإمبريالية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بدأت هجومها على منطقة الشرق الأوسط لإحكام قبضها على المنطقة بذراعها العسكرى في مواجهة منافسيها الصاعدين في منطقة شرق آسيا والسيطرة على منابع البترول، وقد خاضت أمريكا حربها تحت غطاء مواجهة الإرهاب ونشر الديمقراطية في بلدان المنطقة، وبدأت في استخدام أوراق حقوق الإنسان ومواجهة الديكتاتورية للضغط على نظم الحكم في المنطقة لمساندة خطتها، وبالطبع فنظام مبارك في مصر الحليف الأول للولايات المتحدة في المنطقة أصبح مطلوب منه دور أكبر في تعزيز الخطط الأمريكية، ولا مانع من التلويح بهذه الأوراق في وجهه لقبول مزيد من التنازلات.

وبالتزامن مع ذلك كانت حالة من الحراك السياسي والإجتماعي تتصاعد في مصر مختلفة عن حقبة التسعينات، تجسدت في التحركات الشعبية التى بدأت مع حركة التضامن مع الإنتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000 ثم 2002 ثم مظاهرات 20و21 مارس مع بدء الحرب على العراق، حتي بزوغ حركات المطالبة بالتغيير واسقاط الديكتاتورية، ومؤخراً موجة الإحتجاجات الإجتماعية التي شملت كافة فئات وطبقات الجماهير المصرية من عمال وفلاحين ومهنيين وسكان الأحياء الشعبية وغيرهم.

في ظل هذه التغيرات أصبحت جرائم نظام مبارك ومظاهر استبداده هدفاً للجميع، وكانت أبرز هذه القضايا قضية المعتقلين السياسيين والتعذيب والمعاملة الحاطة بالإنسانية التى يتلقاها المعتقلين على يد جلادى مبارك، واستخدمة الإمبريالية تستخدم هذه الورقة للضغط على مبارك لتقديم المزيد من الدعم للخطط الأمريكية في العراق ومواجهة المقاومة الفلسطينية واللبنانية من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأت حركة التغيير تطرح قضية المعتقلين والتعذيب في السجون وأقسام الشرطة على أجندتها، وتنظم الحملات للضغط من أجل الإفراج عن المعتقلين ووقف التعذيب.

في هذا السياق تم إحياء مبادرة وقف العنف التى تقدمت بها الجماعة الإسلامية، ففي عام 2002 تم الإعلان عن صفقة بين النظام وقيادات الجماعة تقوم فيها الأخيرة باتمام البحوث الفقهية الخاصة بالمراجعات الفكرية للجماعة، في مقابل الإفراج عن معتقليها على دفعات، وبالفعل أصدرت الجماعة أربعة كتب شكلت النواة الأولى للمراجعات والتى استبدلت فيها تفسيرات الأحكام الدينية المتطرفة التى بنيت عليها فكرة الجهاد والخروج على الحاكم بتفسيرات أخرى على النقيض تحرم العنف وتكفير الحاكم، وبدأت المرحلة الثانية والأصعب من عملية المراجعات وهي إقناع أعضاء الجماعة في المعتقلات بالفكر الجديد، وبالفعل أخذت قيادات الجماعة تجوب المعتقلات لإقناعهم بنقيض ما يعتقدون، ورغم أن أفكار المراجعات ووجهت برفض شديد من قواعد الجماعة في البداية، إلا أنه تحت وطأة جحيم المعتقل لسنوات دامت في بعض الحالات لأكثر من عشرين عاماً، لم يجدوا أمامهم سوى الإستسلام للأمر الواقع وقبول الإستسلام، وعلى حد قول د. ناجح إبراهيم أحد القيادات البارزة للجماعة الإسلامية رداً على سؤال من أحد المعتقلين أثناء إلقائه محاضرة عن المراجعات «هل نحن بذلك نستسلم؟» فكان رده «إن الإستسلام ونحن مقتنعين أفضل من الإستسلام ونحن غير مقتنعين!»

هكذا جاءت مراجعات الجماعة الإسلامية في سياق التغيرات الكبرى التي وقعت على المستوى الإقليمي والمحلي والتي شكلت ضغطاً كبيراً على نظام مبارك دفعه دفعاً لفتح ملف من أخطر ملفات استبداده يخص عشرات الآلاف من المعتقلين الإسلاميين اكتظت بهم معتقلاته على مدار أكثر من عشرين عاماً، وأصبح يشكل له نقطة ضعف أراد التخلص منها، عكس ادعاءات أبواق النظام أنها خطوة تنم عن ديمقراطية مبارك وسعة صدره، فشروط الصفقة تقول عكس ذلك تماماً، فلم يكتفي النظام بالمراجعات الفكرية التي قدمتها الجماعة، بل اشترط أيضاً عدم انخراط أعضاء الجماعة المفرج عنهم في أي تنظيمات أو تشكيل أي أحزاب سياسية، ما هو مسموح لهم فقط

هو العمل الدعوي فقط، كما أن ذات النظام الذي يدعي الديمقراطية هو من يعتقل الإخوان المسلمين اليوم ويقدمهم للمحاكمات العسكرية ويرفض تأسيس حزب سياسي شرعي لهم، القضية إذن هي أن نظام مبارك لا يقبل بأي معارضة حقيقية ولن يتواني عن ضربها بكل أدوات قمعه وبطشه، وبالتالى فما المانع من إطلاق سراح الجماعات الإسلامية بعد تقليم أظافرها طوال فترة الإعتقال، طالما أنه يضمن عدم تحولهم مرة أخرة لقوة في مواجهته، وفي نفس الوقت يبدو وكأنه يغلق ملف من أسوأ الملفات التي لطخت سمعته.