بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

مسلسل اضطهاد الأقباط.. من الجاني؟

في الفترة الأخيرة أصبحت العلاقة بين المسلمين والأقباط في أسوأ حالاتها. وبالرغم من أن اضطهاد الدولة للأقباط يمتد لعقود طويلة مضت، فإن الخطير هذه الأيام هو أن الاضطهاد امتد إلى الشعب ممثلاً في فقراء المسلمين الذين أصبحوا يرون في فقراء الأقباط متنفساً لتفريغ القهر الواقع عليهم.

تصاعدت أحداث العنف ضد الأقباط بشكل غير مسبوق مؤخرا. فلقرابة الإسبوعين تعرض الأقباط لاعتداءات متعددة بدأت في قرية بمها بالعياط، إلى العليقات في قوص، فالأسكندرية ثم الواسطى في بني سويف ثم الأقصر. وتنبع خطورة هذه الحالة في التأثير الذي تحدثه على مستقبل الصراع الاجتماعي في مصر. فالمسالة ببساطة أنه بدلاً من أن يتحد الفقراء مسلمين وأقباطاً في مواجهة المتسببين في شقائهم، نجد أن الصراع يتحول إلى صراع بين المسلمين والأقباط، أو بالأحرى ممارسة المسلمين للعنف تجاه الأقباط.

عقود من التمييز

مثلها مثل مشكلات الأقليات الدينية في العالم، فإن مشكلة الأقباط في مصر عمرها قرون. لكنه مع نشأة الدولة الحديثة والانفتاح على العلم والثقافة الغربيين في عهد محمد علي، تطور اندماج الأقباط في المجتمع عبر مشاركتهم في عملية التحديث. وكان إلغاء نظام الجزية نهائياً في عام 1815 تعبيراً عن أنهم أصبحوا يعتبرون مواطنين مثلهم مثل المسلمين. ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية ثم ثورة 1919 التي وحدت المصريين في مواجهة الاحتلال، بدأ عهد جديد من المشاركة والتآلف عززه النزوع الوطني العلماني للحزب الأكثر شعبية، حزب الوفد. ومن ثم كانت الفترة من 1919 إلى 1952 هي العصر الذهبي للعلاقة بين المسلمين والأقباط وللتسامح الديني في مصر بشكل عام. ومع ذلك ظلت مشكلة بناء الكنائس بلا حل، حيث ظل الالتزام بما يسمى بالخط الهمايوني الذي جعل التصريح ببناء وترميم الكنائس والأديرة من سلطة الحاكم. ومما زاد الأمور سوءاً هو الشروط العشرة التي وضعها العزبي باشا—وزير الداخلية في إحدى حكومات الأقليات— عام 1934 والتي وضعت قيوداً صارمة على بناء الكنائس. ومن المدهش أن هذه الشروط لازالت مطبقة حتى اليوم.

وعقب يوليو 1952 وأفول عصر الديمقراطية البرلمانية، حدثت درجة من التراجع في وضع الأقباط، وإن كانت لا تقارن بما حدث في عهد السادات ومبارك. يرى الكثير من المهتمين بالمسألة القبطية أن توجه النظام نحو العرب كان السبب الرئيسي في حدوث نوع من الاغتراب بين الأقباط والمجتمع، وبينهم وبين الدولة. ويحتاج هذا الرأي إلى المراجعة، لأن عبد الناصر كان علمانياً، وبني شرعيته على الإنجازات الاجتماعية والدور القيادي في العالم العربي، لا على الدين. والأكثر من ذلك، أن علاقة عبد الناصر بالكنيسة ممثلة في البابا كيرلس كانت طيبة للغاية، حتى أنه اتفق مع البابا على بناء 25 كنسية جديدة سنوياً، وهو ما لم يتكرر بعد ذلك. وتبدو مشكلة النظام الناصري مع الأقباط في موضع آخر. فالنظم الديكتاتورية عامة لا تولي ثقة كبيرة في الأقليات الذين عادة ما يكونون خارج النخبة الحاكمة. لذلك فقد قامت البيروقراطية الحاكمة، المتصلة عبر شبكة من العلاقات الشخصية والمصالح باستبعاد الأقباط. لذلك تم ابتداع تقليد جديد هو تحديد نسبة للأقباط في الشرطة والجيش (5%) ومنع الأقباط من دخول جهاز المخابرات كلية. كما أن تولي الأقباط لمناصب قيادية في مؤسسات الدولة انحسر بشكل كبير مقارنة بالعصر الديمقراطي السابق.

غير أن عصر السادات مثل منعطفاً جديداً في علاقة الدولة بالأقباط. في البداية، حاول السادات أن يوحي بالاهتمام بحقوق الأقباط فوعد بالسماح ببناء 50 كنيسة سنوياً، لكنه لم ينفذ هذا الوعد ولعبت السلطات الأمنية دوراً مهماً في إعاقة عمليات بناء وترميم الكنائس. من ناحية أخرى، فقد سعى السادات إلى اللعب بورقة الدين في مواجهة خصومه السياسيين، وذلك عن طريق تشجيع الجماعات الإسلامية (لمواجهة نفوذ اليسار) التي رأت في الأقباط عدواً رئيسياً، ومارست ضدهم عديدا من الاعتداءات التي وصلت إلى السرقة والقتل، ومع ذلك قوبلت بصمت الدولة في معظم الأحيان. وبالتوازي مع ذلك استمرت، بل وتعمقت عملية استبعاد الأقباط فيما يتعلق بالوظائف القيادية. وكان الصراع بين السادات –في أيامه الأخيرة— وبين البابا شنودة الثالث، والذي وصل إلى حد تحديد إقامة البابا، سبباً إضافياً لشعور الأقباط بالاغتراب، الذي تم التعبير عنه في تصاعد تيار الهجرة لدى أعداد كبيرة من مهنيي الطبقة الوسطى.

هناك اعتقاد شائع بأن مبارك أعطى الكثير للأقباط، فهو الذي قمع بلا رحمة الجماعات الإسلامية وقرر في سابقة هي الأولى من نوعها أن يكون عيد الميلاد أجازة رسمية وأصدر مرسوماً يفوض المحافظين اتخاذ القرار فيما يتعلق بترميم الكنائس، وأدخل مادة المواطنة في الدستور. لكن هذا التصور هو الوهم بعينه، حيث أنه ليس من المبالغة القول بأن عهد مبارك هو أسوأ عهد مر على الأقباط في التاريخ الحديث. فبلغ الاستبعاد من الوظائف العامة حداً غير مسبوق، فلم يعد قاصراً على المناصب القيادية، بل أن تعيين قبطي في مصلحة حكومية أصبح عملية شديدة الصعوبة. وبلغ التعنت في تعطيل بناء الكنائس أقصى مدى له. والكارثة الأكبر أن عصر مبارك شهد موت روح التسامح وتصاعد التعصب الديني لدرجات لم تكن معهودة لدى المصريين في العقود السابقة. وأصبح الانتماء الديني عنصراً أساسياً في العلاقات بين الناس، في المدارس والجامعات وأماكن العمل، والجيرة. وقد تُرجم هذا المناخ في أسوأ صوره خلال عشرات من أحداث العنف ضد الأقباط.

فقراء المسلمين وفقراء الأقباط

لكن بالرغم من أن التعصب أصبح سمة عامة في المجتمع المصري، فأن تأثر الفقراء بهذه الروح كان أكثر حدة. ومنذ حادثة الخانكة عام 1972 وحتى أحداث محرم بك بالأسكندرية في أكتوبر 2005، حدث نحو 120 اعتداء على الأقباط استدعى تدخلاً أمنياً واسعاً – وذلك بخلاف الأحداث الصغيرة التي تم احتواؤها بسرعة وجرى التعتيم عليها. وبالنظر إلى هذه الحوادث نجد أن غالبيتها الساحقة، إن لم يكن جميعها، كان أبطالها المسلمون والمسيحيون الفقراء.

وفي عشرات الحالات كانت الاعتداءات تندلع عقب صلاة الجمعة وفى سيناريو يكاد يكون واحدا. فتبدأ المسألة بانتشار خبر صحيح أو كاذب، ثم يجري توزيع منشور على المصلين يدعو إلى الجهاد ونصرة الإسلام والمسلمين والاقتصاص من الصليبيين، في الوقت الذي يقوم فيه أئمة المساجد بتوجيه خطب تحض على الكراهية والانتقام. وعلى أثر ذلك تندفع الحشود لتبدأ أعمال العنف التي تصل إلى حرق الممتلكات وأحياناً القتل.

ومن اللافت للنظر أن الكثير من محفزات العنف ضد الأقباط تكون الشروع في إقامة كنيسة أو تحويل منزل أو مركز خدمي إلى دار للعبادة. وتطرح هذه الأحداث تساؤلاً بسيطاً هو ما الضرر الذي يمكن أن يلحق بالإسلام والمسلمين إذا تم بناء كنيسة لتلبي احتياجات الأقباط المشروعة للصلاة مثلهم مثل المسلمين؟ وحتى في ظل وجود نوع من الحساسيات الموروثة فيما يتعلق ببناء الكنائس، ما الذي يجعل الأمور تتطور إلى حد النهب والحرق والقتل؟

من الخانكة إلى الزاوية الحمراء

كان لهزيمة 1967 أثر مدمر على روح المصريين. فقد عبرت الهزيمة عن فشل، بل انهيار مشروع آمن الشعب به وعلق عليه أمالاً عريضة. وكان طبيعياً أن يعود المشروع الإسلامي بقوة كبديل للمشروع القومي، وأصبح من التفسيرات الشائعة للهزيمة أنها كانت نتيجة الابتعاد عن الدين. وهنا بدأت روح التعصب تكتسب قوة جديدة، لأنه في فترات الانكسار والعجز عن التصدي الإيجابي لأزمات الواقع عادة ما تنقلب الشعوب على القطاعات الأضعف المتمثلة في الأقليات الدينية والعرقية.

وبعد مدة قصيرة أصبحت مصر تشهد عنفاً طائفياً غير مسبوق منذ فترة طويلة. وكان عام 1972 هو البداية، ففي يوم الجمعة 8 سبتمبر تم حرق جمعية النهضة الارثوذكسية في دمنهور. غير أن حادث الخانكة في نفس العام كان له أثر مدوي. فقد اتخذ الأقباط في مدينة الخانكة الواقعة على أطراف القاهرة منزلا للاجتماع وأنشأوا الدكاكين حوله. وفي يوم دشن أحد الأساقفة كنسية في هذا المنزل وتمت الصلاه بها. ورداً على ذلك، تم حرق المنزل ونهب محتوياته. وفي اليوم التالي أرسل البابا شنودة عدداً كبيراً من الأساقفة والمطارنة استقلوا أتوبيساً قاصدين الخانكة ليباشروا الشعائر الدينية. وساروا في شوارع المدينة إلى أن وصلوا إلى المنزل المهدم وأقاموا القداس على أطلاله. وبعد انتهاء مسيرة الأساقفة تم الاعتداء على منازل ومحلات الأقباط.

وقع في الأعوام التالية عدد من حوادث الاعتداء على الأقباط في القليوبية وسمالوط والإسماعيلية. غير أن الحادث الأكبر شأناً كان الزاوية الحمراء عام 1981. فمنذ منتصف ذلك العام ساد توتر في منطقة الزاوية بسبب خلاف بين المسلمين والمسيحيين على قطعة أرض يريد المسيحيون إقامة كنيسة عليها. ووصل هذا التوتر ذروته في سبتمبر بسبب مشاجرة بين جارين أحدهما مسيحي والآخر مسلم، فتم على أثرها حرق عشرين منزلاً مملوكة للمسيحيين وقتل تسعة أقباط وفقاً للرواية الرسمية آنذاك بينما ذكرت مصادر أمنية بعد ذلك أن عدد القتلي بلغ 80 قبطياً.

مبارك: العصر الذهبي للطائفية

خلال ما يزيد عن قرن من الزمن، يعد عهد مبارك هو الأسوأ على صعيد العلاقة بين المسلمين والمسيحين. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة. فإزاء إفلاس النظام وعجزه عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات الجماهير من جهة، وصعود تيار الإسلام السياسي من جهة أخرى، تزايد اعتماد النظام على الدين كمصدر للشرعية. ومن ثم حدث تغيير مهم في مناهج التعليم والمواد الإعلامية للتأكيد على الهوية الدينية لمصر. من ناحية أخرى، فإن تفشي الفساد وتصاعد القمع أدى إلى سيادة روح التعصب داخل مؤسسات الدولة مما أسفر بدوره عن تفاقم مشاكل الأقباط فيما يتعلق بالكنائس والوظائف. لكن الأكثر أهمية من ذلك كان سوء الأوضاع الاقتصادية. فقد انتهت فترة الرواج الناجمة عن الهجرة إلى البلدان النفطية. وأدى تخلي الدولة عن وظائفها الاجتماعية وترك المسألة للقطاع الخاص إلى تصاعد البطالة والفقر والهجرة من الريف إلى المدينة. وتزايد سكان العشوائيات الذين أصبحوا ملايين يعيشون في ظروف لا يتوفر بها الحد الأدنى من سمات الحياة الآدمية، ويتعرضون بشكل يومي إلى القمع والتعذيب من جانب الأمن. وفي الريف لم يكن الحال أفضل. فمع تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي على الفلاحين ساءت أوضاعهم بشكل حاد مقارنة بعهدي عبد الناصر والسادات. وفي ظل مناخ الظلم هذا، وفي ظل عدم الثقة في إمكانية التغيير –لأسباب عديدة لا مجال هنا لتناولها– لا تجد الأغلبية الفقيرة كبش فداء للتنفيس عن غضبها سوى في الأقلية، الفقيرة أيضاً. لذلك فأنه في عهد مبارك تزايدت أعمال العنف ضد الأقباط بشكل هائل، حيث وقعت عشرات من الحوادث الكبرى كان أهمها إمبابة 1991 وأسيوط 1994 والكشح 1998 والكشح 2000 ومحرم بك 2005 والعديسات 2006 وبمها 2007. وبشكل عام اتخذت هذه الحوادث شكلين. في عقد التسعينيات كانت الجماعات الإسلامية مصدراً أساسياً للهجوم على الأقباط. وعقب نجاح جهاز الأمن في القضاء على الجماعات بالتعذيب والقتل والاعتقال، أصبحت معظم أحداث العنف ضد الأقباط تشتعل بشكل تلقائي استناداً على أسباب واهمية

من المستفيد من اضطهاد الأقباط؟

في النهاية ربما تنبغي الإشارة إلى عدد من الحقائق. فأولا، لا يجني المسلمون أية مصلحة من العنف والتمييز ضد الأقباط. بل أن ذلك يضر بمصالحهم بشكل مؤكد لأنه بدلاً من أن يقوم المسلمون والأقباط بالتكاتف من أجل مواجهة التحالف الشيطاني للدولة والرأسماليين، يسير الاثنان في طريق من العداء يحرق الأخضر واليابس. الحقيقة الثانية هي أن الدولة هي أكثر المستفيدين من هذا الوضع المأساوي لأنه يمثل متنفساً للجماهير لتفريغ الظلم الذي تشعر به في اتجاه بعيد عنها. وليس من المصادفة أن الأمن لا يتحرك إلا عندما تبدأ الأمور في الخروج عن السيطرة. الحقيقة الثالثة أن الكنيسة هي أحد المستفيدين المهمين من الوضع الحالي لأن الظلم الذي يعانيه الأقباط يؤدي إلى زيادة نفوذها باعتبارها حامي حماهم، وهو ما يعوق قدرة الأقباط على الانخراط في المجتمع. وأخيراً فإن التصور الشائع لدى الكثير من الأقباط بأن أمريكا تشكل عنصر حماية هو وهم قاتل، لأن مسألة الأقباط لا تمثل بالنسبة لأمريكا سوى ورقة للضغط على النظام المصري عند اللزوم. والأخطر من ذلك أن هذا التصور يجعل الأقباط يظهرون في عيون المسلمين بمظهر الموالي لأمريكا التي لا تتوقف جرائمها في حقوق الشعوب.