طريق حتمي وليس شعار أجوف
مصر أولًا.. وفلسطين أيضًا

ترددت مؤخرا النداءات القديمة/ الجديدة للكف عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وتركيز الاهتمام على القضايا المصرية. ولكن هل القضية الفلسطينية بالنسبة للشعب المصري شعارات مجردة، أو رواسب عاطفية ترجع إلى العهد الناصري؟
مشروع استعماري واحد
لا تمتلك فلسطين من الموارد الطبيعية ما يجعلها مطمعا للاستنزاف، لكنها تمتلك موقعا يجعل احتلالها شوكة في ظهر الوطن العربي، ومرتكزا استراتيجيا للسيطرة على مصائر الشعوب العربية.
لم تكن مصادفة أن تتلاقى مصالح النخبة والنظام الحاكمين لمصر في النصف الأول من القرن العشرين مع مصالح المشروع الصهيوني، فكلاهما تمتد أحباله السُرية بـ”صديقتهم بريطانيا”، القطب الاستعماري آنذاك، ولذلك لم يكن من الغريب أن يسمح الأمن المصري بالنشاط الصهيوني السِري والعلني بينما يعتقل اليهود المصريين المناهضين للصهيونية.
بعد انتفاضة شعبية أوشكت على التحول لثورة في 1946، أتت حرب فلسطين لتكشف هشاشة الجيش والنظام الملكي التابع للاستعمار، وبدأ العد التنازلي لوجوده حتى قضى نحبه بعد حركة الضباط في يوليو1952.
تحرير القدس يبدأ من القاهرة.. وتحرير مصر يبدأ من فلسطين
بالرغم من العبارة المقتبسة من مذكرات عبد الناصر التي ذكر فيها أنه اكتشف خلال حصار الفالوجا في 1948 أن القضية حلها في القاهرة، إلا أن تبنّي عبد الناصر للقضية الفلسطينية جاء كرد فعل منطقي للواقع الذي كشف عجز أية محاولة لبناء “نهضة مصرية” طالما هناك كيان استعماري في الجوار يسمى إسرائيل، حيث عرت الاعتداءات الاسرائيلية على غزة – التي كانت تحت السيطرة المصرية – في 1955، وامتناع الأمريكان عن تسليح عبد الناصر، عدم جدوى التقارب مع القطب الاستعماري الجديد، الذي لن يضحي بكلب حراسته “إسرائيل” من أجل دعوات الحرية والعدالة للشعوب الضعيفة. كما كشفت لعبد الناصر مجددا عن الحقيقة التاريخية أن فلسطين هي عمق استراتيجي لمصر، وفق أكثر الرؤى السياسية برجماتية.
ظلت اسرائيل مخلب استعماري موجه ضد حركة التحرر الوطني، ليس في دول الطوق، مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق وحسب، بل وضد أي حركة تحرر أخرى – مثل الجزائر ودول أفريقية أخرى – وقد أدت عمليات العدوان المتكررة إلى استنزاف طاقات دول الطوق، ويتضح التشابك بين مواجهة الاستعمار وحماية مشروعات بناء الدولة، في التهديدات الأمريكية السابقة على عدوان 1967، التي أصرت على خروج مصر من القضية الفلسطينية، وعلى تقليص قوة الجيش وتصفية القطاع العام، ما يؤكد تشابك الأهداف الاستعمارية، وبالتالي حتمية تشابك مسارات النضال.
مالم يحققه الاستعمار بالقوة، حققه السادات بجرة قلم عندما وقع اتفاقية كامب ديفيد، التي لم تكن مجرد معاهدة لوقف صراع حدودي، وتحرير قطعة من الوطن، عادت بالمناسبة منزوعة السيادة، بل كانت عقد ارتباط مؤبد بين النظام المصري والاستعمار الصهيوني – الأمريكي، عقد يقتضي هدم مصر طوبة طوبة وتشكيلها على الطريقة الأمريكية، بالتخلص من كل ما يعوق مشروع الهيمنة الاستعماري والاحتفاظ فقط بكل ما يضمن السيطرة على الجماهير.
وهكذا تمت تصفية القطاع العام لصالح عصابة رجال الأعمال الطفيلية التي ارتزقت من “مهر المعاهدة” أو من المعونة الأمريكية التي استُعبدت بها مصر. وتم فك وتركيب المؤسسة العسكرية المصرية، بدءا من الزي الأخضر مرورا بالتسليح والتدريب الأمريكي، انتهاءا بالهيمنة التامة على الجنرالات، و”تأهيل” الكوادر السياسية والبيروقراطية وحتى الفكرية والإعلامية للنظام في الحضّانات الأمريكية “هارفارد” وما شابهها.
ألفية الانفجارات الجماهيرية
عقد من الانفجارات الجماهيرية التي اندلعت عقب الانتفاضة الفلسطينية 2000، ثم عقب احتلال العراق2003، العدوان على لبنان 2006، العدوان على غزة 2009، وغيرها. لم تكن مجرد مظاهرات تضامن مع الضحايا أو شجب للعدوان، ولكن كانت انفجارات في وجه نظام عميل بأكمله، رموزه ونخبته، بيروقراطيته وجهازه الأمني ورجال أعماله.
ولا يحتاج الأمر منا بلاغة مفرطة في ربط القضية الفلسطينية بالثورة المصرية، بل يحتاج فقط بعض التدقيق في الأحداث والمواقف، فالترقب الأمريكي الإسرائيلي لم يكن ترقب عدو بوطن ينهار كما ادعى – ولا يزال يدعي – الإعلام النظامي، بل ترقب عدو بشعب يثور على عميله الوفي، ويحاول أن يحافظ على مصالحه، حتى لو تخلى عن رجله القديم مبارك، مع الحرص على استقرار مصالحه مع أي وجه يأتي.
والمسألة ليست أسطورية أو حلقة من “بروتوكولات حكماء صهيون”، ولكن مجرد تغييرات تكتيكية في استراتيجية بدأت منذ توقيع كامب ديفيد، فقد تم تكييف نظام الدولة بالكامل لخدمة مصالح الاستعمار الصهيوني الأمريكي.
وبالتالي فإن الثورة على نظام الإفقار والاستبداد لا تتم فقط بمهاجمة أحد جدرانه بحثا عن “العدالة الاجتماعية” أو “الحرية”، فالجدار الأقوى يستند إلى دعم الاستعمار للنظام الذي لم يتغير كثيرا.
في محاولته الفاشلة للسيطرة، كان المجلس العسكري مضطرا (وربما حريصا) لكشف ولائه وانتمائه للأمريكان ودفاعه عن السفارة الصهيونية، وقمعه للشباب الثائر الذي خرج من أجل دماء الجنود الذين قتلتهم اسرائيل.
وقد كشف العدوان الأخيرعلى غزة أن سياسات نظام الإخوان نحو القضية الفلسطينية هي تغييرات شكلية لا أكثر. وليس من العجيب أن الجماعة التي طالما اتخذت القضية الفلسطينية كارت ضغط برلماني وشعبي “محسوب” على نظام مبارك، قد قامت بإزاحة الراية التي ملأت بها الأعين من قبل، لتختذلها شيئا فشيئا بينما تغازل الأمريكان والصهاينة وتأخذ منهم العهد.
لا يحتاج الأمر منك أن تكون اشتراكيا ثوريا تؤمن بأممية النضال، ولا أن تكون قوميا تحتضن قضية التحرر العربي، فقط بعض التفكير المنطقي يكشف أن الاستغلال والاستبداد والتبعية هي أعمدة النظام المصري الذي لم يتغير للأسف، والثورة لن تستمر سوى بالنضال من أجل تقويض تلك الدعائم.
“مصر أولا”.. حقا.. و”فلسطين أيضا أولا”.