مصر زمان: أكذوبة الزمن الجميل!
انتشرت في الآونة الأخيرة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" الكثير من الصفحات والمجموعات التي تتغنى بمصر القديمة كنوع من الحنين إلى الماضي. تقوم تلك الصفحات بشكل أساسي على عرض صور قديمة تغطي مختلف نواحي الحياة في مصر منذ أوائل القرن العشرين وحتى ستينيات القرن ذاته أو ما عرف بالحقبة الناصرية. تتنوع الصور بين صور شخصية تشي بانتماءات أصحابها الطبقية فنجد صور للزفاف وأخرى لعائلات مصرية، صور لبهوات وهوانم وأفندية، صور لشوارع القاهرة والإسكندرية حيث النظام والنظافة والهدوء وحتى صور الفلاحين والحرفيين والباعة الجائلين نجدها صور مبهجة يعلو البشر وجوه من بها. فهل كانت الحياة بمصر في العهد الملكي بهذا الجمال حقاً، إلى الدرجة التي تجعلنا نبكي ونترحم عليها، بل وربما يسعى البعض لعودتها مرة أخرى.
الملكية والتقسيم الطبقي
انقسم المجتمع المصري في ظل الملكية إلى ثلاث طبقات اجتماعية. الطبقة العليا وهم رجال الحكم والبلاط والعائلات المصرية والأجنبية القريبة منهم وهؤلاء كانوا يمثلون نسبة 1% من المجتمع. الطبقة الوسطى والتي كانت تمثل 20% من المجتمع وتتكون من كبار موظفي الدولة وأصحاب المؤهلات العليا وكبار التجار وأصحاب رؤوس الاموال المتوسطة. الشريحة الباقية كانت الأغلبية الساحقة من الشعب المصري المعدم من الصناع والفلاحيين وصغار الموظفين والأجراء ممن يكدون ويعملون لكسب رزقهم اليومي.
كانت أوضاع الغالبية العظمى من المصريين متدنية بشكل حاد في العهد الملكي يقول المؤرخون في وصف حالة الفلاح المصري في فترة ما بعد 1930: (تدنى مستوي معيشة الفلاح المصري الي درجة لا يمكن أن تقاس بها حالة الفلاح في العالم المتمدن لانحطاطها . ولم يقف بؤس فلاح مصر عند انحطاط مستوي معيشته فحسب بل أن الوسائل التي أتبعت لتنمية ثروته ـ وهي مشروعات الري ـ عملت علي أنتشار البلهارسيا والأنكلستوما وبجانبها أنتشر مرض البلاجرا لسوء التغذية والتراخوما لانحطاط مستوي المعيشة). وما ينطبق على حال الفلاح المصري ينطبق على فقراء الحضر والمدن، كانت نسبة الأمية حوالي 80%، وكانت نسبة البطالة 46% من تعداد السكان، وكان المشروع القومي لحكومة الوفد الأخيرة قبل ثورة يوليو 52 هو مشروع "مكافحة الحفاء"، وقد استمرت الدراسات والمناقشات حول كيفية التخلص من الحفاء طوال الفترة من الهزيمة فى حرب فلسطين عام 1948 وحتى قيام الثورة فى عام 1952. وكانت صراعات الأحزاب وتنافسها لحل هذه المشكلة أمراً مؤلماً حقاً، كانت تقدم الدراسات والأبحاث ثم تقدم الدراسات من الأحزاب المعارضة، كل هذا والمواطن المصرى المسكين يمشى حافياً معرضاً لكل أنواع الأمراض.
تحولات الطبقة الوسطى
والطبقة الوسطى في العهد الملكي وإن كانت لا ترقى إلى حد البزخ والإسراف الذي كان ترفل فيه عائلات الطبقة العليا وتابعيها من الأجانب والمقربين إلا أنها كانت تتمتع بإمتيازات كثيرة كانت تميزها عن الأغلبية الساحقة المعدومة من الشعب. كانت الطبقة الوسطى تحظى برعاية صحية وإجتماعية وتعليمية بل وترفيهية جيدة إلى حد ما، وتعلقهم بإذيال العائلات الكبرى ممن لهم صلة بالأسرة الملكية أو بكبار الرأسمالين زاد من تميزيهم عن عامة الشعب وأسبغ عليهم خصوصية ووجاهة اجتماعية. ورغم هذا لا نستطيع الإدعاء بأنها لم تكن طبقة وطنية تسعى لتحرير مصر من قبضة الاستعمار، بل وكان شبابها يقود المظاهرات ضد الإقطاع والاستبداد، كما نادت الطبقى الوسطى في ذلك الوقت بحرية المرأة. وقدمت جيلاً من الفقهاء والكتاب والأدباء والمبدعين في شتى الفنون ممن ساهموا في نهضة الشرق ككل وليس مصر فحسب.
أختلف التكوين الاجتماعي للطبقة الوسطي المصرية فيما بعد على مرحلتين الأولى في الحقبة الناصرية والثانية في مرحلة الانفتاح الساداتي. فالطبقة الوسطى التي تلقت تعليمها بعد الثورة أي في الحقبة الناصرية، والتي تسيطر على المؤسسات إلى الآن هي طبقة من الموظفين، لم تعد طبقة برجوازية مستقلة عن الدولة، وإنما هي طبقة بيروقراطية تعيش في ظل الدولة، لا تتحداها، بل تتحايل على أوضاعها. فضعف رواتب المدرسين على سبيل المثال لا يرفض بالتظاهر والاعتصام بل بالدروس الخصوصية. وموظفي الحكومة والقطاع العام يعوضون ضعف رواتبهم أيضاً بالرشاوى وسياسة الدرج المفتوح. ومن هنا أصبحت هذه الطبقة أداة حفاظ علي الوضع الراهن أكثر من محاولة تغييره لأن لديها دائما حلولا للتكيف مع الواقع لا أن تواجهه. فهي طبقة التماهي مع الدولة ورفض الخروج عليها والأكثر عزوفا عن المشاركة في الحق المدني. الكل في قبضة الدولة والحراك يخضع لإملاء الدولة، وأصبحت كما وصفها بعض المراقبين (الطبقة الوسطي، تقايض الشق السياسي في المواطنة بالمكاسب الاقتصادية علي تواضعها لأنها تتعامل مع الدولة بمنطق "البقشيش" وبطاقة التموين وانتظار العلاوة، ومن خلال الإكراميات والتزكية، والنوم في أحضان الحزب الحاكم).
ثم جاءت مرحلة الانفتاح الاقتصادي مع بداية عام 1974 وهجرة العمالة المصرية إلي الدول النفطية مما فرض حالة غير معهودة من الصعود الاجتماعي في مصر، فأضيفت أعداد هائلة من الطبقة الدنيا إلي الوسطي مع نمو المصادر الريعية جراء الانفتاح وعوائد العمالة المحوّلة، كما انضمت إلي صفوفها مجموعات ارتبطت بقوي جديدة لسوق العمل في مجالات التكنولوجيا والفنون الإعلامية والاتصال والسياحة والخدمات العقارية، مما أدى إلي تضخم الطبقة الوسطى وفقد بعض من تميزها التي اتسمت به في المراحل السابقة فأصبحت حضرية وريفية، مؤهلة وغير مؤهلة في آن واحد طالما إمكانيتها المادية تتيح ذلك، فتراجعت في المستويات المعرفية والثقافية والتعليمية، وأخذت الطبقة الوسطى تنهار تحت وطأة البطالة والغلاء والمنافسة والإحباط ولم يعد أمام أبنائها إلا السقوط إلي عالم الطبقة الدنيا الأكثر تعاسة أو الهجرة إلي الخارج.
هذه النظرة السريعة على أحوال الطبقة الوسطى وتغيرها عبوراً من الملكية وحتى الآن يظهر لنا كيف نعمت عبر العصور بمكتسبات كبيرة ميزتها عن بقية المجتمع. وإذا ما لاحظنا ان أكثر الباكين على تلك الفترة من المشاركين في تلك الصفحات والمجموعات تشي مفرداتهم اللغوية على إنتمائهم للشرائح العليا من الطبقة الوسطى حيث الحرص على استخدام ألقاب عفى عنها الزمن مثل "بك" و"هانم"، أو ألقاب تشي بمكانة صاحبها الاجتماعية المتميزة مثل "دكتور" أو "باشمهندس"، فإن هذا يفسر لنا تباكيهم وحنينهم إلى ماض نعموا فيه بالتميز والتفرد عن المجتمع. ويفسر لنا أيضاً اكتفائهم بهذا القدر من الديمقراطية المزيفة ودعوتهم للاستقرار والتهدئة ومواصلة العمل والبناء، طبقة أسيرة الحاكم "المستبد العادل"، الطبقة التي تجد ألف عذر ومبرر للاستبداد، لذلك لا تدهشنا دعوة البعض البعض منهم للاكتفاء بهذا القدر، بل ونعي تماماً خوفهم وخشيتهم من الثورة الاجتماعية التي يهددهم بها إعلامهم الحكومي تحت أسم "ثورة الجياع" فهي الثورة التي ستقضي تماماً على مكتسابتهم وتميزهم، الثورة التي ستمهد لمجتمع جديد ينعم فيه الجميع بالعدل والمساواة.