34 عاما من التبعية
مواجهة كامب ديفيد.. مسار حتمي للثورة المصرية

في 26 مارس 1979 تم توقيع معاهدة كامب ديفيد، سيئة الصيت، لتبدأ مصر عهدًا جديدًا من التبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار الصهيوني – الأمريكي، وتفقد مكانتها ونفوذها السياسيين وحتى سيادتها على أراضيها. فمن الخطأ الاعتقاد أن اتفاقية كامب ديفيد مجرد اتفاقية حدودية لإنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل.
انتهت حرب 1948 باستيلاء الصهاينة على أكثر من نصف مساحة فلسطين، وإعلان دولة إسرائيل عليها، لكن إسرائيل ظلت تمارس دورها الذي صُنعت من أجله في التوسع الاستعماري، خاصة بعد نجاح حركات التحرر الوطني في أكثر من بلد عربي في الوصول إلى السطة، وتبنيها سياسة مواجهة الاستعمار، والتنمية الاقتصادية المحلية وقضية العدالة الاجتماعية.
وكان اعتداء إسرائيل على قطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية في 1955، بمثابة جرس إنذار لعبد الناصر بحجم وطبيعة الكيان الصهيوني وعلاقته بالأمريكان، وتطور الأمر عقب العدوان الثلاثي، الذي شاركت فيه إسرائيل كل من انجلترا وفرنسا، ويبدأ عقد من التوتر والتصعيد المحسوب، حتى قرر الأمريكان ضرورة القضاء على نظام ناصر، فزاد تدفق الأسلحة على إسرائيل مقابل وقف شحنات القمح لمصر، ثم بتقديم إنذارات مباشرة لعبد الناصر، تقتضي:
1- خروج مصر من المعركة العربية
2- تصفية الاتحاد الاشتراكي
3- إعادة تنظيم الهيكل الإداري، وتحديد عدد الموظفين بـ 180 ألف
4- تحديد عدد الجيش بخمسين ألف عسكري
5- إلغاء التأميم وتصفية القطاع العام
كانت الإنذارات تعني ببساطة تصفية المشروع الناصري تماماً، فكان حتمياً أن يرفضه. لكن المشكلة الحقيقية كانت في عدم رغبة عبد الناصر في خوض حرب شعبية، وتأثير أجنحة في السلطة مالت إلى ملاينة الأمريكان، حتى بعد الهزيمة. وبعد وفاة عبد الناصر، صعد السادات رجل الأمريكان لينفذ كل ما رفضه عبد الناصر.
حرب تحريك.. وتمهيد الاستسلام
تحت ضغط حركة الشارع المصري في 1972، اتخذ السادات قرار الحرب، لكن القرارات غير المنطقية التي اتخذها عقب “نصر 6 أكتوبر” تفضح نواياه المبيتة. ففي يوم 10 اكتوبر أعطى السادات أوامره بعودة كتيبة كاملة من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، وتباطأ (أو تواطأ) عندما قامت كتيبة إسرائيلية بقيادة “شارون” بفتح ثغرة واحتلال السويس والوقوف على مسافة 101كم من القاهرة. وتم إعلان وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر، ثم بدأت المفاوضات التي أصر الإسرائيليون على عقدها في الكيلو 101، بينما كانت القوات المصرية في سيناء 80 ألف جندي وثلاثة آلاف دبابة، تم إعادة 90% من القوات والمعدات التي عبرت خلال الأيام الأولى للحرب.
في زهوة الانتصار، الذي أكسبه الشعبية، بدأ السادات في تنفيذ كل ما يريده الاستعمار، وسبق أن رفضه عبد الناصر، حيث أعلن السادات قوانين الانفتاح الاقتصادي، ثم تمثيلية مبادرة السلام وزيارة القدس، وإجراءات توقيعه على معاهدة كامب ديفيد، التي صاغها الصهاينة والأمريكان. في غضون ذلك حدثت انتفاضة يناير 1977، وبينما كان الجيش كالأسد في قمع الانتفاضة وإعادة السادات من جحره، كان كالنعامة حين مرغ السادات أنفه في حبر المعاهدة.
في أسبوع واحد فقط (ما بين 4 و10 أبريل 1979) يفترض أنه تمت مناقشة المعاهدة (بالملحقات والمراسلات والخرائط) في مجلس الوزراء، ثم لجان العلاقات الخارجية والشئون العربية والأمن القومي والتعبئة القومية بمجلس الشعب، على التوالي ثم في جلسة مجلس الشعب حيث مرت بموافقة 329 عضو ومعارضة 15 وامتناع واحد وتغيب 13 عضو. وفي 11 أبريل قرر السادات حل مجلس الشعب وطرح الاتفاقية وقرار حل المجلس (الذي وافق على الاتفاقية) وعشرة موضوعات أخرى للاستفتاء، الذي أجري في 19 أبريل، وأعلنت نتيجته في اليوم التالي بموافقة 99,5%!!
عسكرياً
نصت المعاهدة على تقسيم سيناء إلى ثلاثة قطاعات:
منطقة (أ) المحصورة بين قناة السويس والخط 58 كم، وغير مسموح لمصر بوجود أكثر من فرقة مشاة – ميكانيكي واحدة، بحيث لا تزيد تحديدًا عن 22 ألف جندي مشاة و230 دبابة و126 مدفع ميداني و126 مدفع 37 مم مضاد للطائرات و480 مركبة.
منطقة (ب) تقع شرق المنطقة (أ) بعرض 109كم. غير مسموح لمصر فيها بأكثر من 4000 من حرس الحدود بسلاح خفيف.
منطقة (ج) تقع شرق المنطقة (ب) بعرض 33 كم وتنهي عند الحدود الغربية بين مصر وفلسطين المحتلة. وتسمح فيها المعاهدة بوجود “شرطة” مصرية، وغير مسموح نهائياً بوجود أي فرد من القوات المسلحة المصرية.
والأخطر هو تحويل الجيش من استخدام السلاح الروسي إلى الأسلحة الأمريكية، حيث يظل ميزان التفوق لصالح إسرائيل، ويظل تحكم الأمريكان في قطع الغيار والذخيرة والتدخل في التدريبات والمناورات.
اقتصادياً
شرع السادات في الانقلاب على المكتسبات الاقتصادية الاجتماعية للشعب المصري، بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة. وقد وعدت أمريكا بمعونة سنوية، تقدر بثلاثة مليارات. اقترنت المعونة بنمو طبقة جديدة من البرجوازية المصرية الطفيلية، التي راكمت شيئاً من الثراء خلال العهد الناصري، من أنشطة وعمولات ورشاوى، وكان الانفتاح فرصة لإخراج ثرواتها، ولتستفيد من المعونة الأمريكية، وقد شكلت طبقة ذات مصالح مباشرة مع الاستعمار الصهيوني الأمريكي، فما من أحد من حيتان نظام مبارك، ممن راكموا المليارات من علاقتهم الفاسدة بالنظام ومن تقطيع أوصال البلاد وبيعها، إلا وارتبط بأنشطة اقتصادية مع الصهاينة بشكل مباشر أو غير مباشر.
بعد شهر عسل قصير من التطبيع، قبيل وبعد مصرع السادات، توقف “مولد التطبيع” السافر لكنه استمر في معظم مجالات الأنشطة الاقتصادية. وكانت اتفاقية الكويز، وصفقة الغاز، تصعيداً للشراكة بين الاستعمار الصهيوني، والبرجوازية المصرية، فالفساد الذي فاح من تلك الصفقات والاتفاقات، هو شرط مرتبط بالمعادلة، التي تؤدي إلى المزيد من الارتباط بين البرجوازية المصرية وعلى رأسها مبارك وابنه، وبين المشروع الصهيوني، برعاية امريكية.
سياسياً
بعد مصرع السادات، انتقلت السلطة لمبارك برعاية أمريكية وطمأنينة إسرائيلية، حيث استكملت خطة الانسحاب المتباطئة من سيناء. وقد استكمل مبارك مسرحية الديمقراطية الورقية التي بدأها السادات، مقترنة بأغاني الرخاء والسلام، من ناحية، مع اتخاذ بعض المواقف المائعة تجاه القضية الوطنية، على الصعيد المصري، والفلسطيني والعربي ككل. بسحب السفير المصري بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، بعد أربعة شهور من إتمام انسحابها من سيناء، وبالقرقعة الإعلامية حول قضية طابا، التي مهدت لإعادة السفير المصري لإسرائيل في 1986، حتى قبل إتمام الانسحاب، وقبلها بقضية تنظيم ثورة مصر.
لكن العصا الإسرائيلية كانت هي الأعلى، فلم يستطع مبارك أن يذهب أبعد من ذلك، كما تم قمع المظاهرات التي تدين التطبيع، وقتل سليمان خاطر الجندي لمصري الذي قتل مجموعة من الإسرائيليين تعدوا على منطقة خدمته في 1986 وادعاء انتحاره. ولم تتوقف السياحة الإسرئيلية، حتى بعد حادث إطلاق النار على أوتوبيس سياحي في 1989.
علاوة على توجيه مناهج التعليم والإعلام الحكومي، الذي ظل مسيطرا، ثم الإعلام الخاص نحو ثقافة التطبيع، وتمييع الحس الوطني، بينما ظلت الجعجعة ضد إسرائيل للاستهلاك المحلي فحسب، وكثير منها اضطلع بها عمرو موسى رجل النظام اللبق.
2000 – 2010 تواطؤ مفضوح
انفضحت أبعاد العلاقة الإسرائيلية – المصرية أكثر منذ صعود شارون للسلطة، فاتخذ مبارك رد فعل شديد البرود إزاء المذابح الإسرائيلية للفلسطينيين، خلال الانتفاضة الثانية. بينما تودد مبارك للإسرائيليين بإطلاق سراح الجاسوس عزام عزام، وتعيين سفير مصري جديد لديهم، وازداد الأمر سوءاً بعد انفضاح أمر النظام خلال الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، والذي انتهى لسوء حظ مبارك بهزيمة إسرائيل.
وخلال عملية الرصاص المصبوب 2008 – 2009، التي شنتها إسرائيل على غزة، ساند النظام المصري العملية، بشكل غير مباشر، وحمّل حكومة حماس المسئولية. ثم شرع في بناء جدار فولاذي بتوجيهات أمريكية إسرائيلية لمنع تهريب الأسلحة والمواد التموينية لغزة المحاصرة. وقد صرح وزير المالية الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، أن التنسيقات الأمنية مع مصر بلغت قمتها خلال العامين الأخيرين على سقوط مبارك.
مبارك.. العسكر.. الإخوان.. لا تغيير
لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الجنود المصريين منذ توقيع المعاهدة، بينما لم يحاول نظام مبارك، ولا حتى من خلفه من العسكر ثم الإخوان، الاستناد إلى تلك الحوادث باعتبارها خرقاً للمعاهدة؛ فبعد أن قتل الإسرائيليون ستة من الضباط والجنود المصريين داخل الأراضي المصرية في أغسطس 2011، لم تتحرك بنادق العسكر إلا في اتجاه الشباب المطالب بالثأر أمام مقر السفارة الإسرائيلية المحمية بالمدرعات المصرية.
ومن الواضح أن جماعة الإخوان ظلت تستخدم ملف المعاهدة فقط للضغط على نظام مبارك، بينما لم ولن تقوم بأية خطوة حقيقية في مواجهة الأمريكان والصهاينة، وهو ما اتضح خلال الأشهر السابقة. لكن مقاومة معاهدة كامب ديفيد وتبعاتها، مسار حتمي للثورة المصرية، لا يجوز بأية حال استبعاده أو حتى تأجيله.