عن حرب أكتوبر و«الانتصار الأسطوري»

السادات كان بطل الحرب والسلام، ثم جاء صاحب الضربة الجوية، ثم أتى المجلس العسكري الذي تشكل من جيل أبطال أكتوبر، ثم جاء مرسي الذي قرر أن انتصار أكتوبر العظيم كان من صنع الشعب كله (ليجد لنفسه مكانا فيه)، ثم.. “تسلم الأيادي.. تسلم يا جيش بلادي”. كل هذه الحلقات المتتابعة من الأنظمة بنت شرعيتها الأساسية على “نصر أكتوبر المجيد”. فالجوع يستشري في المدينة، والبطش خانق، والدولة فاشلة في كل شيء، والجيش يهاجم المتظاهرين ويدهسهم، ولكننا يجب أن نفخر بأنفسنا فقد صنعنا نصر أكتوبر، ويجب أن نفخر بالذات بجيشنا البطل صانع المستحيل وعابر قناة السويس (التي تقع داخل الحدود المصرية بالمناسبة).
إن نصر أكتوبر جزء أساسي، بل محوري، في خطاب الدولة الذي نحكم به. وعلينا في سعينا إلى التغيير أن نفضح كل أكاذيب الدولة، بما فيها أكبر أكذوبة تقوم عليها: انتصارنا في أكتوبر.
الاحتفال هذا العام بالتأكيد أعلى حسا وأكثر فجاجة من أي وقت مضى، لأن الجيش بنفسه يقف في الواجهة، ويحتاج إلى كل ما يتسنى له من شرعية لوأد الثورة. وماذا أفضل من أن جيشنا حقق “أسطورة عسكرية” منذ 40 عاماً. وهو بالفعل نصر أسطوري، بمعنى أن ليس له أساس من الواقع!
فللأسف، كانت حرب أكتوبر هزيمة مدوية للجيش المصري. ولكن بدلاً من مصارحة الشعب بما حدث، والتخطيط بشكل أفضل والتعلم من الدروس والاعتذار لكل أهالي الشهداء، لم يستطع النظام في أي لحظة من اللحظات، حتى والحرب مستعرة، المصارحة بالحقيقة. لأنه كان يعلم إنه ولا محالة ساقط مع الهزيمة. فاختار ما اختاره الطغاة في التاريخ وتفننوا فيه: قلب الهزيمة المدوية نصرا “أسطوريا”.
لقد كانت هزيمتان متتاليتان، 1967 و1973، أكثر مما كان سيتحمله الشعب، وكانت شرعية ذلك النظام ستنهار تماما، وكانت الثورة عليه ستوضع على جدول الأعمال. وهو كما نعرف أسوأ الشرور من وجهة نظر الطبقة الحاكمة. وعليه فقد استمرت جميع فئات الطبقة الحاكمة والدولة في ترديد كلمة “النصر” على أسماعنا من المهد إلى اللحد كأنه السحر. ولكن جزءاً من العملية الثورية هي أن نستفيق من هذا “العمل” ونواجه الحقيقة كما هي. لا شيء نحتفل به في أكتوبر.
وفيما يلي بعض رؤوس الأقلام في هذه المناسبة:
1) بدأت حرب أكتوبر بداية عظيمة ولكنها انتهت والجيش الإسرائيلي غرب القناة، وهو ما لم يستطع فعله حتى في 1967. لقد بدأت الحرب بدعاوى تحرير سينا وانتهت بأن الجيش المصري “حرر” شريطا ضيقا موازيا لقناة السويس في سيناء، بينما عضد الجيش الإسرائيلي مواقعه بأن عبر لأول مرة إلى “بر مصر” وتوجهت دباباته (في حركة استعراضية بالتأكيد) إلى القاهرة، حتى أن هنري كيسنجر اضطر إلى محادثة جولدا مائير بالتليفون وقال لها إن أي كيلومتر زيادة سيسقط نظام السادات، وهو لا يريد إسقاط السادات. إن من يرى في تفاصيل الهزيمة في الجزء الثاني من حرب أكتوبر ولا يزال يتعبرها انتصارا أو “تعادلا” أو نصرا منقوصا كما يقال في الكثير من الأحيان فإنه في الواقع دون أن يدري يقلل من شأن جيشنا وشعبنا. لسان حاله يقول: نعم النتائج النهائية كانت سيئة ولكننا بمعنى ما “أدينا أداء مشرفا” وانظر إلى العبور.
لا، إن مثلي، من يؤمنون بعظمة وقدرة الشعب المصري لا يعتبرون أقل من تحرير الأرض وهزيمة جيش الاحتلال نصرا.
2) إن الحروب، مثلها مثل كل الأعمال، بخواتيمها وليست ببدايتها. فبالتأكيد جاءت عمليات العبور وتحطيم خط بارليف في الأيام الأولى من الحرب انتصارا مبهرا وعظيما، ولو كان استمر الأداء على هذا الحال لكانت فعلا حرب أكتوبر نصرا عظيما، ولكنه لم يستمر.
3) أحد آليات تمرير أكذوبة أكتوبر، ويمكن أن نسميها “خفة يد لغوية”، هي تقليص الحرب كلها واختصارها في هذه المعركة. فنقول “بطل العبور” (في حين أن العبور ما كان إلا مفتتح الحرب)، ونقول حرب 6 أكتوبر، في حين أن 6 أكتوبر كان يوم بداية الحرب. لماذا لا نقول حرب 24 أكتوبر؟ لأن القيادة السياسية الفاشلة استسلمت في 24 أكتوبر وأعلنت “قبول وقف إطلاق النار”.
السادات هو من دعا إلى وقف إطلاق النار، لا إسرائيل. ولذلك وجب غرس “العبور” فقط في الوعي الشعبي باعتباره الحرب بأكملها. وهذا خداع بيّن.
4) بعد العبور ونتيجة لإدارة السادات للحرب كأنها حوار مع أمريكا (وبالذات هنري كيسنجر الذي أرسل له السادات ثاني يوم الحرب رسالة تشرح له محدودية الحرب!!) تلقى الجيش المصري وابلا من الضربات الموجعة التي عكست تأثير العبور وعكست اتجاهه. ولأول مرة يعبر الجيش الإسرائيلي قناة السويس إلى الغرب ويتجه إلى الإسماعيلية والسويس والقاهرة !! شيء لا يصدقه عقل! نحن نتحدث عن “عبور قناة السويس” باعتباره نصرا. ولماذا لا نذكر سماح السادات بإدارته الفاشلة ومعارضته لسعد الشاذلي للجيش الإسرائيلي أن يطأ بقدمه غرب القناة! ويقول القائلون بإن المعركة كانت دائرة بشكل جيد ثم “حدث الثغرة”. وهذه أيضا آلية أخرى للتعمية والتغمية.هذه هي الكلمة التي تم استئصالها من عبارة مؤلمة تحوي الحقيقة، هي: ثم عبر الجيش الإسرائيلي من سيناء إلى البر الغربي للقناة من خلال ثغرة بين الجيشين الثاني والثالث وأصبح لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يمكنه السير إلى القاهرة.
5) مرة أخرى نتيجة لسوء الإدارة السياسية للمعركة ترك السادات مدن القناة دون حماية. فدعونا نتذكر أننا في 24 أكتوبر من كل عام نحتفل بعيد المقاومة الشعبية في السويس. وذلك احتفالا بتصدي أهالي السويس العزل للجيش الإسرائيلي الذي غزا المدينة فاستطاع البواسل من أهلنا في السويس صد بعض القوات على مشارف المدينة وتدمير الجزء الذي دخل. ولنا أن نفخر بأبطالنا ونحتفي بهم ونقبل أياديهم كل 24 أكتوبر من كل عام، ولكن السؤال الجلي الذي يطرح نفسه علينا جميعا كل عام دون أن ننتبه له هو: وأين كان الجيش المصري؟ ماذا يعني في الحرب أن الشعب المدني نفسه هو الذي اضطر أن يحمي نفسه من القوات المسلحة للبلد المعادية؟ (هل هذا أيضا جزء من النصر أو التعادل).
التعادل في هذه الحالة (حالة أن الجيش الإسرائيلي يحاصر السويس) هي أن يكون جيشنا محاصراً تل أبيب!
6) دعونا أيضا نتذكر أن مفاوضات فض الاشتباك جرت في الكيلو 101 طريق القاهرة السويس. نعم! التقى الجيشان للتفاوض في المسافة بين السويس والقاهرة!! وذهب الجمسي 3 مرات إلى مكان الاجتماع ورفض الإسرائيليون دخوله (هذا في مصر) ثلاث مرات، وكل مرة يبرق السادات لكيسنجر ويشتكي. وفي المرة الأخيرة سمحوا له بالدخول بعد أن أتى بجاسوس إسرائيلي كان في السجون المصرية. كان هذا تعمدا غريبا، يمتاز به الصهاينة عن غيرهم، للإذلال. التعادل هنا كان أن يكون جيشنا على مشارف تل أبيب معسكرا ويأتي إليه موشي ديان ثلاث مرات ونرفض دخوله المعسكر حتى يتوسط له هنري كيسنجر، فحتى عندئذ نطالبه أن يأتي معه بجاسوس مصري مقبوض عليه في إسرائيل، ويفعل.
7) لمعرفة مقدار الخطر الذي كان نظام السادات سيتعرض له (من ناحية قيام ثورة شعبية ضده أو على الأقل انقلاب عسكري) في حالة انفضاح التطورات على الجبهة وكيف اضطره هذا إلى نسج واحدة من أكبر الأكاذيب، علينا فقط أن نعرف أنه اضطر حتى لمخادعة جيشه نفسه أثناء الحرب وفضل هذا على إخبار جنوده وضباطه الصغار بالحقائق العسكرية على الأرض. لقد أخفى السادات عن الجيش عبور الجيش الإسرائيلي إلى غرب القناة. ونتيجة لهذا مثلا تمكن القوات الإسرائيلية من أسر المئات من الضباط والجنود المصريين غرب القناة. نعم. أسرى مصريون وقعوا في يد إسرائيل غرب القناة. ومن نتائجه أيضا أن مدرعات إسرائيلية ذهبت لتدمير ميناء الأدبية في السويس ورآها الضباط والجنود قادمة فكانوا يحيونها على أنها مصرية حتى اكتشفوا هول المأساة في آخر لحظة!!! لأن القيادة السياسية رفضت أن تقول لهم إن هناك قوات إسرائيلية غرب القناة. من يفعل هذا لجيشه في المعركة يفعل أسوأ منه آلاف المرات لشعب بأكمله.
أنا لن أخوض في المزيد من التفاصيل وسأترك هذا في مقال قادم، ولكني سأنهي بنقاط قصيرة:
1) حرب أكتوبر وما حدث في بدايتها من نصر تكتيكي مبهر وتحوله إلى هزيمة مشينة يدل على شيء واحد: عظمة الشعب المصري، عظمة مقاتليه، عظمة ضباطه الصغار الذين ابتكروا واخترعوا وقادوا على الأرض، ويدل أيضا على المستوى الذي يمكن أن تصل إليه القيادة السياسية لهذا الجيش وهذا الوطن في التبرير والأكاذيب للحفاظ على دولة رأس المال واستمرار سياسات القمع والجوع.
2) علينا أن نخلع الغماية من على أعيننا ونرى الواقع، حتى وإن كان موجعا، بل بالأخص لو كان موجعا، حتى نستطيع أن نتعلم من تاريخنا، ونعرف كيف ننتصر.
3) إن حكم هذا النظام الذي ثرنا عليه، ولانزال نخوض ثورتنا ونعمقها، قد حكمنا بالأكاذيب وعلينا كجزء من هذه الثورة كشفها وفضحها. فلمن لا يعرف المعلومات عن حرب أكتوبر أن ينقب عنها ويعرفها، ويقرأ مثلا مذكرات قائد المعركة العسكرية الناجحة الفريق سعد الشاذلي الذي سجنه مبارك 3 سنوات لأنه “أفشى أسرارا عسكرية” في مذكراته. وبالمناسبة كل المعلومات أعلاه واردة في هذه المذكرات. واعتبرها نظام مبارك “إفشاء للأسرار العسكرية” لا تأويلا أو تزييفا.
ولمن يوجعه أن يعرف أننا هزمنا في نهاية المطاف أن ينظر إلى الأمام ويعمل من أجل انتصار الثورة حتى لا يحدث لنا المزيد من المصائب. وكل عام والشعب المصري المقاتل الثائر بخير.