بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عن الإرهاب والدولة وأحمد الغلبان

رن هاتفه المحمول في وسط القهوة ليسمع الجميع تلك الأغنية الركيكة التي تتغنى بالجيش العظيم.. “تسلم الأيادي.. تسلم يا جيش بلادي”.. ابتسم أحمد الغلبان في خجل وهو ينظر حوله في الوجوه المتجهمة فلم يعد الكثير من أصدقائه يستخدمون نفس الأغنية ولكنه مقتنع أنه لا يوجد ما هو أفضل في الظروف التي تمر بها البلاد من الوقوف إلى جانب الجيش في حربه على الإرهاب..

لا يعرف الغلبان الذي تجاوز عامه الأربعين كثيرا عن الإرهاب الذي يحدثونه عنه ليل نهار سوى ما تحمله ذاكرته من ذكريات التسعينيات.. تفجيرات هنا وهناك وخطاب وطني يعلن أن الجميع “يد واحدة” في مواجهة العدو الكاره للناس والحياة، ولهذا لم يجد الغلبان أي مشكلة في النزول إلى الشارع في السادس والعشرين من يوليو لتفويض الجيش في حربه ضد الإرهاب ولم يجد أيضا أي مشكلة في تصديق الإعلام أن الإخوان المسلمين وراء هذا الخطر.. ألم يقل محمد البلتاجي أن الإرهاب في سيناء سيتوقف بمجرد أن يعود مرسي للحكم..

وعلى الرغم من الحملة الضخمة التي خرجت في كل وسائل الإعلام تطالب النظام الجديد القديم بفض اعتصام رابعة العدوية ’المسلح‘ إلا أن سرعان ما ارتبط الإرهاب في ذهن الغلبان بمقتل 25 جندي في سيناء على يد الإرهابيين في أغسطس.. لقد حصل الجنود على جنازة مهيبة باعتبارهم ماتوا دفاعا عن الوطن، وترغرغت عيون الغلبان بالدموع وهو يسمع ما قالته أسر الضحايا التي وصلت جثامينهم ملفوفة بعلم مصر وسط سيل من الأغاني الوطنية في كل مكان.. لم يجب أحد وقتها على السؤال الذي خطر بذهنه: لماذا يموت الفقراء دائما؟ حتى عندما حاول الإرهابيون اغتيال وزير الداخلية كان الطفل الصغير ابن حارس العقار والجندي الذي لا يقل عنه فقرا هما الضحية.. لم يقل أحدا للغلبان أن الفقراء لا ثمن لهم في هذه الحرب.. فلا هم رقما لدى النظام ولا هم ذو قيمة لدى من قرروا استهداف الأهداف السهلة ليرسلوا رسائل للجنرالات الكبار..

قد يكون خوف الغلبان من تكرار ما حدث في التسعينيات هو الشيء الوحيد الحقيقي والمؤكد في حديث المعركة التي لا يجب أن يعلوا على صوتها صوت آخر. فكل شيء كما في التسعينات صار مقبولا في هذه الحرب ويمكن تمريره.. الحلول الأمنية.. القمع.. استفحال الدولة البوليسية.. قتل المساجين في سيارات الترحيلات.. إلقاء القبص على الفقراء بالشبهة.. تصفية الخصوم السياسيين بالحبس تارة وبالتشويه تارة.. وبالطبع تأجيل أحلام الفقراء بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، فالتاريخ لا يمل السيناريوهات المكررة..

لم يكن نظام مبارك منذ اغتيال السادات يبحث عن تفاهما ما مع الشعب المصري بقدر ما كان يبحث عن صيغة لتسويق رئيس جاء بالصدفة.. في البداية كان الخطاب القومي حول ضرورة العودة إلى الصف العربي والإسلامي بعد القطيعة التي تسبب فيها السادات باتفاقية كامب ديفيد هي اللغة الغالبة وعادت الأغاني الناصرية التي تتغنى بالعروبة والاستقلال الوطنى إلى الظهور مرة أخرى في محاولة لتبييض وجه نظام كاد ينهار مع انتفاضة الخبز في 1977 ثم اغتيال رئيسه في 1981، وامتلأت الصحف بالمقالات التي تؤكد تمسك الرئيس الجديد بمكتسبات ثورة 23 يوليو.. وبالطبع كانت انتخابات 1986 “اول انتخابات ديموقراطية تشهدها مصر” والتى شارك فيها الأخوان المسلمين جزءا من عملية غسيل السمعة التي تمت باقتدار طوال ست سنوات..

وما أن تمكن مبارك من فرض شروط جديدة على الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل ونجح في تحجيم الاحزاب السياسية “المعارضة” بصورة تضمن بقاءه على مقعد السلطة حتى بدأ النظام في إظهار وجهه القبيح..

لا يعرف الغلبان كيف أن أغنيات شبيهة بتلك التي يسمعها اليوم كانت قادرة على تمرير الكثير من القمع في السنوات الاولى لحكم مبارك دون أن يلتفت الكثيرين ودون معارضة حقيقية اللهم إلا أقلية من القابضين على الجمر.. تلك الأقلية التي أدركت أن ذلك النظام “الوطنى” الذي “يتمسك بمكتسبات ثورة يوليو” إنما يكمل ما بدأه نظام السادات فازداد الناس فقرا على فقر وقُمعت كل التحركات العمالية بالحديد والنار وفُتحت ابواب السجون التي لم تغلق يوما لتستقبل المزيد.. وبدأ النظام “الرافض للتبعية” في استغلال حتى اعمال العنف المسلح ضد المصالح الأمريكية والاسرائيلية في مصر للمقايضة على المزيد من المكاسب في رسم العلاقة الجديدة مع أمريكا واسرائيل..

ثم جاءت التسعينيات وبدأت المواجهة المكشوفة مع الحركات الاسلامية الجهادية التي رفعت سلاحها في وجه الدولة وبدأت راية الحرب على الإرهاب ترفرف لتجمع تحتها النظام بأدوات البطش والقمع والوقى التي كان عليها أن تقف ضد هذا النظام لا أن تقف خلفه وتدعمه خوفا من “الفاشية الدينية”.

لم يكن وجود الجماعات الاسلامية المسلحة في مصر أمرا جديدا ولكنه كان مرحبا به في عهد السادات لأن سلاح هذه الجماعات كان موجها صوب معارضته كما كان جزءا مهما في صفقة نظامه مع الولايات المتحدة الامريكية في إطار الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في افغانستان.. لقد كان شيوخ الجماعات الاسلامية (الذين أصبحوا مع بداية التسعينيات مطاردين ومطلوبين للعدالة) يذهبون إلى القرى والأحياء الفقيرة يحشدون الشباب الغاضب ليحارب في بلاد لم يسمعوا عنها من قبل باسم “الحق والعدل ونصرة الضعيف” ولم يكن أمام الشباب المحبط بسبب الإفقار والاضطهاد والقمع سوى راية الجهاد للإعلان عن غضبه في وقت كانت باقي القوى السياسية وعلى رأسها اليسار تعاني من احباطات متتالية..

لا يعرف الغلبان سوى أن من عادوا من أفغانستان في بداية التسعينيات جاءوا لتحقيق حلمهم المؤجل لإعلان دولتهم الإسلامية التي سعوا لاعلانها منذ عام 1974 من خلال محاولة الانقلاب الفاشلة فيما عرف بعد ذلك بقضية الفنية العسكرية.. لم يقل له أحد أن من ثاروا على السادات العميل الخائن كانوا سببا في مزيد من القمع الذي مورس على يد وريثه وأن قيادات هذه التنظيمات نفسها دخلت مع السادات والمخابرات الأمريكية في صفقات ضمنت لهم البقاء والاستمرار حين تلاقت المصالح أحيانا.. كل ما عرفه وقتها أنهم عادوا ليرفعوا السلاح في وجه الدولة.. عرف الكثير ممن فتنتهم راية الجهاد ولم يجدوا غيرها راية في مواجهة النظام الذي توحش أكثر فأكثر.. كان من الصعيد وهناك كانت المعركة..

تؤكد الدراسات التي اعتمدت على التحليل الاجتماعي لموجة التسعينيات في مصر أن أسباب ظهوره وانتشاره لا تختلف كثيرا عن اسباب انتشار الموجة التي سبقتها او تلتها والتي يمكن تلخيصها في ثلاثية المظلومية والصراع وغياب الدولة.. وقد كان الصعيد في التسعينيات نموذجا مثاليا لهذه الثلاثية. ففي ظل مركزية التنمية في الشمال ازداد الصعيد فقرا على فقر ولم يكن للدولة أي وجود يذكر كدولة راعية لمواطنيها، كما لم يكن هناك أي تنظيمات اجتماعية أو سياسية تعبر عن واقع الأزمة التي يعيشها الصعيد ليلتف حولها المضطهدين.. وعندما قررت الدولة أن يكون لها تواجد في الجنوب كان التواجد أمنيا بل واجراميا بامتياز..

لقد نجحت هذه التيارات في التسعينيات في جذب الأصغر سنا والأقل تعليما وكان معظمهم من قرى ومناطق شديدة الفقر في المدن سمع عنها السواد الأعظم من المصريين لأول مرة في ذلك الحين وانخفضت أعمار من ألقي القبض عليهم وحوكموا في معظم الأحداث التي وقعت منذ 1992 وحتى 1997 إلى 21 عاما..

سمع الغلبان أيضا عما كان يحدث داخل السجون من تعذيب واغتصاب وقتل.. عرف عن مزارع القصب التي كانت تحرق في الجنوب بمن فيها بالشبهة، وعن أمهات وزوجات يعتقلن ويعذبن حتى يسلم ذويهن أنفسهن.. وسرعان من تحولت المظلومية العامة إلى ثأر مع الدولة لا يعتدم في حشده للمتعاطفين إلا على دماء من يقتل ومأساة من يسجن ويعذب.. ثلاثون ألف معتقل أو أكثر وآلاف القتلى..

يلحو للبعض أن يعتبر أن حرب الدولة على الإرهاب في التسعينيات قد كللت بالنجاح بعد أحداث الأقصر في 1997 واعلان الجماعة الاسلامية عن مراجعاتها الاستسلامية في السنوات التالية ولكن ذلك ببساطة ليس صحيحا خاصة وان نهاية التسعينيات شهدت قد شهدت انتعاش انقضاض الدولة على الفقراء وبالتحديد الطبقة العاملة من خلال برنامج الخصخصة الذي شهد تشريد مئات الآلاف من العمال في وقت كانت حرب الخليج الثانية التي عرفت بحرب تحرير الكويت قد أضافت المزيد من العاطلين إلى طوابير البطالة.. لم تختف المظلومية لكي يختفى الإرهاب ولم تقدم المعارضة بديلا حقيقيا لأصحابها في مواجهة الدولة التي بدورها وبمباركة امريكية من خلال المشاركة في برنامج الاستجواب خارج البلاد الذي تبنته امريكا منذ منتصف التسعينيات والذي عرف بعدها ـ وحين اعترف به رئيس وزراء مبارك أحمد نظيف ـ في 2005 ببرنامج التعذيب بالوكالة.

لم تكن احداث شرم الشيخ وطابا في منتصف العقد الماضي سوى الإعلان عن انتقال الصراع من الصعيد الى إلى أرض جديدة وهي سيناء.. أرض لم تفرض عليها الدولة الأمنية سلطتها بعد وبسرعة تحول الصراع مع الجماعات المسلحة في سيناء وبفضل البطش والقمع الذي تعاملت به داخلية حبيب العادلي مع البدو إلى ثأر مع سكان المنطقة الذين عانوا ومازالوا يعانون من التهميش والافقار والاضهاد..

لا يعرف الغلبان أن الحرب على الإرهاب في سيناء التي طالب الفريق عبد الفتاح السيسي ـ وزير الدفاع ورئيس المخابرات الحربية في عهد مبارك ـ تفويضا بشأنها هي حرب دائرة منذ عام 2008 وانها تتم بدرجة عالية من التنسيق مع اسرائيل التي التعتبر أن اعادة انتشار الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء يصب في المقام الاول في مصلحتها خاصة وانها هي الهدف الأول لهذه الجماعات على اختلاف قياداتها ومصادر تمويلها..

لا يعرف الغلبان أيضا لماذا طلب قائد الجيش تفويضا للاستمرار في حرب يخوضها منذ خمس سنوات على الأقل، سمحت له إسرائيل فيها ضمن التعاون المشترك في إطار الحرب على الإرهاب والهجرة غير الشرعية أن يقوم بادخال أعداد من الجنود وعتاد لم تدخل إلى سيناء ولا يمكن ان تدخل في ظل اتفاقية كامب ديفيد.. ولم يتوقف الغلبان كثيرا عند شكل وحجم التنسيق بين مصر واسرائيل والذي يسمح بأن تدخل بعض القوات الاسرائيلية إلى الاراضي المصرية للقيام بعمليات نوعية.. كما انه لا يعرف أن اسرائيل أصبحت تتكلم في العلن عن علاقة جديدة تربطها بالقاهرة ـ في ظل وجود “الجنرال” ـ أكثر قوة ولا تحتاج لأول مرة منذ نصف قرن إلى الشريك الأمريكي ليحافظ على استمرارها..

لا يعرف الغلبان ولا يجرؤ أحد على إخباره أن الحرب التي يخوضها الجيش اليوم في سيناء إنما تفتح الباب أمام خطر أكبر لأنه كما حدث في الصعيد تحولت المواجهة إلى ثأر بين البدو والجيش الذي اعتبر أن تواجد الدولة في سيناء هو التواجد الأمنى وأنه قادر على تكرار ما حدث في التسعينيات في سيناء متناسيا أن الدولة الامنية مهما اتسع جبروتها وزادت قدرتها على القمع لن تستطيع أن تبسط سيطرتها على كل مكان في البلاد وأن حجم التنازلات، التي قدمها مبارك ثم مرسي ثم يقدمها اليوم السيسي لاسرائل لحماية أمنها من داخل سيناء أو بحصار حركة حماس في غزة، حجم هذه التنازلات سيستمر في الصعود.

ولكن الأهم من ذلك كله أن من باركوا توحش نظام مبارك في التسعينيات باسم الحرب على الإرهاب واصطفوا خلفه يكررون نفس الجريمة فيغضون الطرف عن الجرائم التي ترتكب باسم الحرب العظيمة ويعيدون للدولة البوليسية قوتها وتوازنها بل ويشرعنون للانقضاض على الحركة الاجتماعية وعلى مكاسب الحراك الجماهيري طوال السنوات العشر الماضية.

إن السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب أو على الأقل تحجيمه هو تجفيف منابعه وهو ما لن يتم طالما أنه لا توجد حركة اجتماعية سياسية قادرة على تقديم نفسها كبديل في مواجهة الدولة البوليسية القمعية.. بديل في مواجهة افقار الفقراء وإثراء الأغنياء.. حركة قادرة على أن تفرض شروطا من أجل حياة أفضل لا ترتضي تذيل دولة مبارك مرة أخرى وتنتظر فتات الديموقراطية المدجنة ليتساقط عليها.

في نهاية يومه يقف أحمد الغلبان ليعد ما تبقى معه من جنيهات قليلة قبل ذهابه إلى البيت.. عليه أن يسرع قبل موعد حظر التجول الذى بدأ يعتاد عليه كما بدأ الاعتياد على أمور كثيرة.. صلف وغرور الضابط الذي يمنعه من المرور إذا تأخر وهواجسه أن يتعرض للسجن والضرب بسبب لحيته وزبيبة الصلاة في رأسه.. الأسعار التي أصبحت ترتفع بمعدل يومي ودخله الذي أصبح ينخفض يوما بعد يوم.. ولأن أحمد الغلبان أرزقى على باب الله لا يملك إلا متجره الصغير في الشارع الضيق في أحدى أحياء القاهرة الفقيرة فإنه حين يفيض به صبره والهم وحين تعود الشرطة إلى سابق عهدها بجبروت وعنف فإنه لن تفكر كثيرا في سيناء والحرب على الإرهاب بل لعله لن يجد سوى راية الجهاد المسلح الوحيدة المرفوعة في مواجهة النظام ليبدأ دائرة جديدة من المظلومية والصراع.