بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

انتخابات 2005 ومستقبل السياسة في مصر

هل يمكن فهم نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة بعيداً عن كل ما جرى خلال الأعوام الماضية؟ بالقطع لا.. تامر وجيه يشرح لنا علاقة نتائج الانتخابات بمأزق النظام، وتصاعد حركة التغيير بمعناها الواسع.. كما يقدم تصوره عن احتمالات المستقبل.

يبدو أن عام 2005 رفض أن يفارقنا دون أن يدهشنا لمرة أخيرة. فالانتخابات التشريعية التي أجريت على مدى حوالي شهر خلال نوفمبر وديسمبر الماضيين أكدت مجدداً على أزمة نظام الحكم ومؤسساته السياسية، لكنها أيضاً ـ وهذا هو مصدر الإدهاش ـ فضحت الأوضاع المزرية للمعارضة الشرعية، بيمينها ويسارها، وكشفت عن ضعف التأثير الجماهيري لحركات التغيير التي ملأت شوارع وسط المدينة صخباً. على أن أكثر الأمور إدهاشاً في القصة كلها، بالذات بالنسبة لمن لم يعوا حقائق السياسة المصرية، كان هو حصد الإخوان المسلمين لـ88 مقعد برغم الحصار الأمني والسياسي والإعلامي الرهيب الذي واجهوه.

السؤال الآن هو: ما هي دلالة الانتخابات؟ هل انتكست حركة التغيير كما يعتقد البعض؟ هل نحن في أزمة كما يولول الكثيرون؟ هل لازال المشهد كما هو كما يؤكد آخرون؟

بين عهدين

ربما يكون أفضل مدخل للإجابة على تلك الأسئلة هو النظر إلى الانتخابات ونتائجها في سياق تطورات الأعوام الماضية، بالذات العام الأخير. ذلك أن الانتخابات ليست سوى حلقة في سلسلة من التفاعلات السياسية التي شهدناها، وشاركنا في صنعها، على مدار السنوات الخمس الأخيرة.

تبدأ القصة بمظاهرات التضامن مع الانتفاضة. تلك المظاهرات التي مثلت مؤشراً حاسماً على بداية النهاية لمرحلة الركود السياسي التي أصابت مصر على مدى سنوات التسعينات. ديكتاتورية مبارك التي قضت على الأخضر واليابس في كل المؤسسات النقابية والمنظمات الجماهيرية (حزبية كانت أو غير حزبية)، واجهت بدءاً من أكتوبر 2000 مرحلة جديدة كانت، ولازالت، تتشكل على خلفية تطور أزمة الاقتصاد والسياسة والمجتمع في مصر.

ما واجهه نظام مبارك يمكن قراءته، من زاوية معينة، على النحو الآتي: نظام الحكم الديكتاتوري الفاسد الممثل في عصابة السلطة وشلل الحزب الوطني لم يعد كفؤاً، كما كان الأمر في السابق، في التعبير عن الحقائق الجديدة المتشكلة على أرض الواقع. بتعبير آخر: الشكل السياسي لم يعد متوافقاً مع المضمون الاقتصادي والاجتماعي المتغير.

ما هو الشكل السياسي لنظام مبارك؟ البعض أسمى هذا الشكل: التعددية المقيدة. وبالرغم من سوءات هذا التعبير، الذي يعطي انطباعاً بأنه هناك تعددية، ولكنها للأسف تعاني “بعض التقييد”، إلا أنه يشير إلى نقطة مهمة: أن ديكتاتورية مبارك، وهي وريثة ديكتاتورية السادات، قامت ليس على فكرة الحزب الواحد، وإنما على فكرة حزب السلطة الذي تلتف حوله بعض الأحزاب المعارضة الصغيرة غير الجذرية التي يعطيها النظام شرعية لإضفاء مظهر ديمقراطي شكلي على الديكتاتورية، ولوأد فرصة ظهور ديمقراطية حقيقية.

الفارق بين السادات ومبارك في هذا السياق، أن تعددية السادات المقيدة، وهو كما نعلم من زرع تلك الصيغة في التربة المصرية، أتت في لحظة ساخنة من الحياة السياسية فجرت معارضة أوسع مما قدر السادات، وهددت بأن تتحول التعددية المقيدة من صمام أمان للديكتاتورية إلى شوكة في جنبها. لكن مبارك، الذي حافظ شكلاً على نفس الصيغة، حطم تلك الإمكانية بتصفيته لأي مظهر من مظاهر “التعددية” في “التعددية المقيدة”! سنوات حكم مبارك كانت فريدة في تاريخ مصر الحديث. حيث نجح الديكتاتور فيما نجح فيه أشباهه في آسيا وأمريكا اللاتينية في مراحل تاريخية أسبق: استئصال كل مظاهر الحيوية السياسية في المجتمع.

نجاح مبارك في استئصال أي خطر يمكن أن تمثله الصيغة التي ابتكرها السادات في منتصف السبعينات، بتحويله الاتحاد الاشتراكي إلى منابر ثم أحزاب، كان له ثمن فادح دفعته الطبقة الحاكمة. عندما ينجح ديكتاتور في تحويل البرلمان إلى أضحوكة، والأحزاب إلى طراطير، والنقابات إلى ذيول، والاتحادات إلى أشباح، لا يتبقى في المجتمع مؤسسات للسيطرة والضبط الاجتماعي؛ مؤسسات تدين بالولاء للطبقة الحاكمة، ولكن لها مصداقية وجذور جماهيرية تمكنها من امتصاص الغضب الشعبي وتحويله بعيداً عن أي مسار ثوري. هذا بالقطع خطر شديد. ذلك أنه إذا انفجرت أزمة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، وترتب عليها انفجار غضب جماهيري، لن يجد نظام الحكم أداة لإحكام السيطرة سوى عصا الأمن. ولكن عصا الأمن، مهما كانت غليظة، لا يمكنها أن تحافظ على “استقرار” نظام الهيمنة الطبقية إلى الأبد.

هذا بالضبط هو جوهر الوضع الذي نعيشه. أزمة الاقتصاد والمجتمع منذ أواخر التسعينات خلقت أزمة سياسية بين نظام الحكم والإمبريالية، وبينه بين الطبقة الحاكمة، وبينه وبين الجماهير. وعصا الأمن لم تعد قادرة على إدارة الأزمة. وما نشهده الآن هو محاولات نظام مبارك مد عمره عن طريق إصلاح نفسه. لكن لأن الداء أصيل، ولأن الديكتاتور هو رمز العهد البائد، فإن نتيجة الإصلاحات كانت، وستكون في الأغلب، سبباً لتعميق الأزمة ومقدمة لانهيار الديكتاتورية.

الانتخابات في السياق

يمكننا فهم الانتخابات في هذا السياق. فعلى خلفية مظاهرات العام الماضي، وعلى خلفية تزايد الشعور بإمكانية كسر خطوط حمراء كثيرة، وعلى خلفية نزوع النظام لإظهار نفسه بمظهر ديمقراطي من خلال إصلاحاته المحدودة والشكلية، دخلت القوى السياسية المختلفة الانتخابات. وكانت النتيجة أن الفجوة الصغيرة التي فتحها النظام في جدار الديكتاتورية لإنقاذ نفسه وحل تناقضاته، سمحت للمعارضة، في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخنا السياسي، بأن تحقق ما لم تحققه طوال نصف قرن تقريباً، أي منذ تصفية التجربة الليبرالية المحدودة التي شهدتها مصر في المرحلة من 1922 إلى 1952.

في تقديرنا أن الأهم من حقيقة حصد الإخوان المسلمين لـ88 مقعد، هو حقيقة أن المعارضة والمستقلين (الحقيقيين لا الزائفين)، بغض النظر عن كونهم إخوان أم لا، حصلوا على ما يقترب من ربع مقاعد مجلس الشعب. على ماذا يدل هذا؟ يدل على أن قطاعات هامة من الجماهير استيقظت من سباتها وتحركت لتوصل معارضين للسلطة وللحزب الوطني، بصفتهم تلك، إلى المجلس. يدل على أن تلك القطاعات شعرت بأن إزاحة رجال السلطة من مواقعهم أمراً ممكناً، وتحركت في هذا الاتجاه، ونجحت نجاحاَ غير مسبوق في تحقيق ما تحركت من أجله.

إذن فتفاعلات الأزمة، والإصلاح من جانب السلطة، وبوادر حركة الشارع، أثمروا ثمرة انتخابية. ومن يقرأ الموقف على حقيقته، بدون التأثير بالعصاب المضاد للإخوان المسلمين، يمكنه أن يقول أن هذا مكسب لا يمكن التقليل من شأنه للجماهير المصرية. صحيح أن المكسب أقل بكثير مما بشر به قادة حركة التغيير، كعبد الحليم قنديل مثلاً. فلم يحدث أن أزيحت السلطة بالعصيان المدني العام كما توقع قنديل. لكن من المهم الالتفات أن هذا المكسب يوصف بأنه “أقل” فقط لو قارناه بتوقعات عشرات الآلاف من المشاركين في، والآملين في، حركات التغيير ككفاية والحملة الشعبية. لكن هذا المكسب لم يكن “أقل” من توقعات الشارع العريض الذي لم تنجح حركة التغيير في جذبه وتحريكه على مدار العام المنصرم.

على أي حال، نتيجة الانتخابات نقلت أزمة السلطة إلى مؤسساتها. فهاهي المعارضة موجودة بقوة نسبية تحت القبة. بالقطع قوة المعارضة في البرلمان ليست كافية أبداً لإحداث تغيير من خلال الأدوات البرلمانية. لكن من قال أن هذا هو بيت القصيد. بيت القصيد أن مكانة المعارضة ارتفعت في أعين الجماهير بصفتها قوة لا يستهان بها. هذا سيفتح شهية من انتخبوا المعارضة، ومن لم ينتخبوها من كارهي النظام، إلى خطوات أخرى على طريق إزاحة السلطة الراهنة.

الجماهير الآن مهيأة لتغيير أوسع. والسلطة الآن تلعق جراحها الانتخابية. إذ أنها اكتشفت أن محاولاتها ـ الجزئية والشائهة ـ لإحلال الأدوات السياسية الانتخابية محل عصا الأمن حققت فشلاً مدوياً، وكشفت عن هزال مؤسساتها الجماهيرية (الحزب الوطني، وكل الأحزاب الليبرالية). من هنا نقول أن الانتخابات كانت خطوة للأمام لحركة التغيير ـ بالمعنى الواسع لكلمة حركة التغيير ـ هذا بالقطع إذا أُحسن استثمارها.

الإخوان والبرلمان

المعنى الأهم لنتائج الانتخابات هو إصرار القطاع الأنشط من الجماهير ـ وهو قطاع يتزايد وسيتزايد ـ على إيصال المعارضة لمقاعد مجلس الشعب. لكن لا شك أن اختيار الجماهير للإخوان المسلمين بصفتهم “هم المعارضة” له دلالته الهامة هو الآخر.

لا شك أن بروز معارضة قوية لنظام الحكم الديكتاتوري أمر يساعد على خلخلته وإضعافه. لكن أداء تلك المعارضة عنصر حاسم في هذه المعادلة. فهل سيستغل الإخوان وضعهم لتعبئة الحركة الجماهيرية، وهي القوة الوحيدة القادرة على الإطاحة بالنظام جذرياً؟ هل سيستغلونه لتعميق تناقضات ديكتاتورية مبارك؟ هل سيلعبون دور رأس الحربة لجبهة واسعة نشيطة تناضل ضد الاستبداد والفساد والاستغلال؟

القضية المحورية هنا هي الآتية: الجماهير صحا لدى قطاعات هامة منها الأمل في التغيير. والتغيير الذي تنشده الجماهير هو استئصال الفساد ومحاربة الفقر وتوفير الوظائف وتحسين الخدمات ورفع الأجور والقضاء على الاستبداد. فلو أن القوة التي تتطلع إليها الجماهير لتحقيق تلك المطامح تذبذبت أو خانت أو وقفت في منتصف الطريق، فإن تلك المطامح قد تتحطم، فتنحسر الآمال وتتراجع الحركة، ونعود مجدداً إلى مربع الأزمة، مما قد ينعش بدائل أخرى تقفز على السلطة استثماراً للوضع وتصفية للأزمة.

نحن نعلم أن الإخوان المسلمين قوة متناقضة. هم يرفضون الطوارئ والاعتقالات، لكنهم يغازلون مبارك أحيانا. هم يحاربون الفساد، لكنهم لا يعارضون الخصخصة. هم يطلبون الحرية السياسية، لكنهم ينظرون للأقباط نظرة عنصرية. هم يناضلون ضد الصهيونية، لكنهم يتبذبذبون في مواقفهم من قضايا المرأة وحرية الرأي والتعبير. تفسير تناقضات الأخوان أمر ليس هنا مجاله. لكن النقطة الهامة هنا هي أننا لا يمكن أن نتوقع من الإخوان ـ بصفتهم حالياً المعارضة بتعريف الألف واللام ـ معارضة حاسمة وجذرية تستهدف الإطاحة بالنظام وتصفية سياسات الاستغلال والاضطهاد والاستبداد. لا نتوقع من الإخوان مثلاً مواقف حاسمة ضد الخصخصة وسياسات الليبرالية الجديدة.

حل هذه المعضلة ـ نعني معضلة أن حركة الجماهير نهضت جزئياً فأوصلت معارضين إلى مقاعد البرلمان، ولكن هؤلاء المعارضين لن يحققوا آمال الجماهير في الخبز والحرية ـ يكمن في وجود بديل سياسي للإخوان يستطيع أن يدفع الحركة إلى الأمام عندما تظهر ترددات الإخوان على السطح، وعندما تهدد تلك الترددات قوة دفع حركة الجماهير وانتعاش مطامحها.

الآن، هذه النقطة حاسمة. لكنها قد تكون مضللة إلى حد ما. فقد سمعنا من يقول أن حل مأزق انتصارات الإخوان الانتخابية هو خلق “الكتلة الثالثة” أو “الطريق الثالث”. هذا أمر لا غبار عليه نظرياً. لكن بالبحث وراء العبارات الرنانة تكتشف أن فكرة الطريق الثالث أساسها هو تصور يقول أن نتائج الانتخابات كانت كارثية، وليس خطوة للأمام كما نقول، وأن الإخوان لا فارق بينهم وبين السلطة، وأن الطريق الثالث على هذا الأساس ليس حلاً لمشكلة إصلاحية المعارضة الإخوانية وحدودها عندما تظهر للحركة الجماهيرية تلك الحدود، وإنما هو تكوين معادي لحلف اليمين المتمثل في وجهي العملة: الإخوان والسلطة!!

هذا تحليل كارثي. ونتائجه أكثر كارثية. مشكلة الإخوان ليست أبداً أنهم الوجه الآخر للسلطة. مشكلتهم أنهم معارضة غير جذرية وتحمل الكثير من الأفكار الرجعية. وحل المشكلة لا يكون أبداً بالعداء المجاني المطلق للمعارضة التي تلتف حولها القطاعات النشطة من الجماهير (تلتف حولها ليس لأنها تراها يمينية أو رجعية، بل لأنها ترى فيها الأمل في الخلاص من الفساد والاستغلال والاستبداد)، بل يكون بالتركيز على ضرورة العمل الكفاحي المشترك مع الجماهير الملتفة حول الإخوان من أجل تحقيق مطالبهم وأمانيهم (مع الحرية، ضد الخصخصة، الخ)، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بعقد اتفاقات عمل مشترك مع الإخوان أنفسهم. هدف تلك الاتفاقات هو النضال على ذلك القسم من قضايا العدل والمساواة والحرية الذي نتفق مع الإخوان عليه. فإن واصلوا النضال كسبت الحركة اتساعاً ووحدة، وإن لم يواصلوا تكشف للجماهير حدود حركتهم وتذبذبهم في النضال على مطالب وضعتهم الجماهير في البرلمان من أجل تحقيقها.

الحزب اليساري المفقود

اليسار هو القوة الوحيدة القادرة على دفع الحركة خطوة للأمام بعد الآمال التي خلقها صعود المعارضة الإخوانية. اليسار هو القوة الوحيدة القادرة على لعب دور القطب المتماسك الدافع لعملية التغيير في مصلحة مطالب ومطامح الجماهير العريضة. ولكن للأسف لا توجد قوة يسارية قادرة على تحقيق هذه المهمة اليوم. نحن نفتقد الحزب اليساري العريض المفتوح الذي يمكنه أن يشتبك مع المعارك السياسية والاقتصادية والاجتماعية القادمة بطريقة العمل المشترك مع الإخوان وغيرهم، وبطريقة ربط التغيير السياسي بالمطالب الاقتصادية للجماهير. في مقال آخر في هذه المجلة نتحدث عن مهمة بناء حزب اليسار العريض. هذه مهمة الساعة. فإن كانت الانتخابات قد كشفت عن شيء، فهي كشفت عن إمكانيات واسعة للنضال الجماهيري ضد السلطة وسياسات السلطة. بقي أن يهيئ اليسار نفسه للاشتباك مع هذا النضال، ولدفعه إلى الأمام على طريق العدل والمساواة والحرية.