أقباط المهجر.. عندما تكون الإمبريالية هي الحل
في ولاية شيكاغو الأمريكية اختتم مؤتمر أقباط مصر، الذي نظمه التجمع القبطي الأمريكي، خلال الفترة من التاسع عشر من شهر أكتوبر الماضي وحتى العشرين منه، تحت شعار: “القضية القبطية معالجة جديدة.. الواقع والآليات” ببيان هاجم فيه سياسة الحكومة المصرية التي وصفها بأنها تزكي نار الفتنة الطائفية، من خلال ممارسات جهاز مباحث أمن الدولة، ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية، معتبرا تصاعد تيار الفتنة الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين، مؤشراً لمدى توغل الوهابية الراديكالية المتطرفة في مختلف مناحي الحياة المصرية، بل وفي مختلف أجهزة الدولة. وجاء في البيان: لقد بات جلياً أن “التمييز وعدم المساواة” بين مواطني الوطن الواحد، هي السمة الغالبة في قضايا تغيير العقيدة، وفي تطبيق القانون المدني المصري وأحكامه، والتعامل مع الجهاز الأمني، وفي مشروعات بناء دور العبادة، وغيرها من الممارسات التي تؤثر -سلباً- على الحياة اليومية لكل المواطنين”.
وناشد أعضاء المؤتمر جميع الأقباط بأهمية توحيد الصف، والتعبير عن مطالبهم المنشودة بأنفسهم، ونزولهم إلى ميادين المشاركة السياسية، وممارسة الحقوق الدستورية المكفولة لهم، كاستخراج البطاقات الانتخابية، والمشاركة الفعالة في كافة الانتخابات بما في ذلك العامة والمحلية والنقابية، والعمل على تنمية الموارد المالية المساندة للحركة القبطية، على أن يضطلع رجال الأعمال القبط، بالدور الرئيسي في هذه الرسالة. كما أكد المؤتمر على المسئولية الشعبية (الجماهيرية) في المشاركة أيضاً، بغية تأسيس مراكز للأبحاث والدراسات القبطية، وكذا المراكز الخاصة بالرصد والتسجيل الوثائقي للأحداث والوقائع المختلفة، وجميعها تعمل على إعادة كتابة التاريخ المصري بصدق أكثر وبأمانة علمية، وكذلك ضرورة البدء في تأسيس نواة بث مرئي معني بالشأن القبطي.
وكان لافتا في المؤتمر حضور أعضاء من الكونجرس الأمريكي، وبينهم السيناتور فرانك وولف وكاترين بورتر، اللذين القيا كلمات أظهرت تعاطفهم مع القضية القبطية وحقوق الإنسان في مصر والشرق الأوسط. وردا على هذا الكرم طالب مجدي خليل، أحد نشطاء الكنيسة القبطية في المهجر، بمساندة رجال الكونجرس الأمريكي في حملتهم الانتخابية حتى يتبني هؤلاء القضية القبطية في حال نجاحهم.
هذا ما حدث في شيكاغو، أما في السنبلوين فقد هاجمت قيادات “ستة أحزاب ورقية” المؤتمر، بعقد مؤتمر مواز تحت شعار “معاً ضد التحركات المشبوهة لأقباط المهجر”، طالبوا فيه بمحاكمة أقباط المهجر المتورطين في الدعوة للمؤتمر والعمل ضد مصر.
ومن الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، بعث البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية، ببرقية شكر وتأييد للرئيس مبارك، تقديراً لسياسته الحكيمة، وتأكيداً علي حماية الوحدة الوطنية وقيادته مصر بكل حكمة واقتدار، مما جنبها الكثير من الصراعات والانقسامات. وأكد مصدر قريب من البابا أن هذه البرقية هي أبلغ رد علي المزايدين علي وطنية الكنيسة القبطية والبابا شنودة نفسه، إضافة إلي كونها رسالة إلي أقباط المهجر القائمين علي مؤتمر شيكاغو، تشديداً لرفض الأقباط مناقشة أحوالهم خارج الوطن، وتأكيداً علي ثقة الكنيسة في حكمة الرئيس مبارك.
وعلى صفحات الجرائد المصرية، قومية وحزبية ومستقلة، وصف كتاب ومفكرون من كل نوع وصنف، أقباط المهجر، بالخيانة والعمالة والصهيونية وإشعال الفتن، وتدمير مصر، وضرب الوحدة الوطنية.
هذا الشحن المعنوي حول أقباط المهجر إلى أسطورة شريرة في مخيلة كثير من المصريين، ولكن بدون فهم لماذا وصل أقباط المهجر لهذه الوضعية، وهل هم الشياطين في مواجهة النظام المصري المسكين، وبالتالي يجب على الجميع أن يقف ضدهم من منطلق دعم النظام المصري، أو الوطن كما يدعي البعض.
في البداية هناك مجموعة من الأفكار التي يجب أن نبدأ بها حتى نستطيع أن نفهم قضية أقباط المهجر فهماً صحيحاً.
أولا ليس هناك شيء اسمه مصر، هناك نظام مصري يستبد ويستغل، وهناك عدة تيارات تطرح عدة رؤى للخروج من هذا المأزق وهناك غالبية مطحونة. ثانيا الحديث عن وحدة وطنية بين المسلمين والأقباط في مصر تدليس لا يقبله عاقل. كما أن فكرة الوحدة الوطنية في حد ذاتها ليست إلا كذبة كبيرة. فبين المسلمين أنفسهم ليس هناك مصالح مشتركة يمكن أن تخلق وحدة بين مبارك، وشيخ الأزهر، وأحمد عز، بأي مواطن غلبان، نفس الشيء يمكن أن يقال عن الأقباط.
الحقيقة إنه عندما يتحدث واحد من هؤلاء الأشخاص عن الوحدة الوطنية، أو مصلحة مصر، لابد أن نتبين عن أي مصر يتحدث، فهو في الغالب يكون معني بمصلحة بعض “المصريين” وليس مجموعهم.
الأهم أن اختزال جماعة سياسية في صورة الشيطان الأعظم، يجعلنا نراها ككتلة صماء، ثم يلهينا عن تحليل نوع السياسة التي تتبناها، وبالتالي نقد هذه السياسة وتفنيدها. كما أن هذه الطريقة في الشحن، في ظل أجواء مشحونة في الأساس، تعطي انطباعا لكثير من الأقباط المصريين أن هذا الهجوم موجه للأقباط بشكل عام.
هؤلاء الأقباط الذين لا يجدون في الواقع قضيتهم على أجندة أي تيار سياسي. وفي ظل مناخ عام يتأسلم اجتماعيا وطقوسيا ورمزيا، لا يجدون أمامهم، بخلاف أقباط المهجر، سوى الكنيسة التي تحولت لفضاء مواز للطبقات الشعبية والوسطى القبطية بحثا عن الحماية بالاعتصام بالمؤسسة وقادتها.
ولكن الواقع يقول إن قادة الكنيسة ليسوا أفضل حالا فهم ينتظرون حل مشكلتهم بمنحة من السلطان، مرة يتوسلون في سبيل الحصول عليها، على طريقة برقية البابا، وأحيانا يضغطون، على طريقة اعتكاف نفس البابا، ليسارع بمنحته. إلا أن هذه المنحة لن تأتي أبدا، فالسلطان يستفيد مباشرة من توجيه سهام رعيته لبعضهم البعض، بدلا من أن يوجهوها لعرشه.
ثم أن البعض ينسى أن “أقباط المهجر” ظاهرة من غرس البابا، أعدها لتكون ورقة ضغط يضغط بها علي السلطات في مصر، عندما بدأ سياسية لي ذراع السلطة في أزمة الخانكة، بل أن البابا لايزال يطلق عليهم أبناءه ويعتمد على تمويلهم للكنيسة.
الأهم أن الخطاب الذي يطرحه أقباط المهجر في مجمله صحيح، فالدولة هي فعلا المسئولة عن الفتنة الطائفية في مصر، وتصاعد الصدام بين المسلمين والأقباط، بالفعل مؤشر “لمدى توغل الوهابية في مختلف مناحي الحياة المصرية”. كما أن الواقع يقول إن الأقباط في مصر يعانون من كافة أشكال “التمييز وعدم المساواة”.
ولكن توصيف المشكلة بدقة لا يعني في حد ذاته شيئا، ولا فالأهم هو ما يطرحه هؤلاء كحل للمشكلة القبطية، دعونا أولا نحاول أن نتعرف على رموز هذا التيار، والهيئات التي يمثلونها، فقد يؤدي بنا ذلك إلى منتصف الطريق.
من هم أقباط المهجر؟
انطلقت أولي الهيئات القبطية في المهجر باسم “الأقباط متحدون”، وبرعاية المحامي المليونير عدلي أبادير، صاحب التعليق الشهير في إحدى القنوات الفضائية عن إمكانه قيادة مصر من أمريكا بهاتفه المحمول. اعتمد أبادير في هجرته لأوروبا، وبالتحديد النمسا، علي مطالبته بالاهتمام بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات في مصر، وعلي الولايات المتحدة الأمريكية القيام بدور الأب الراعي لتلك الحقوق بالشرق الأوسط، مهما كانت الوسائل والأسلحة، وأعلن أهدافاً تتعلق بمنح دور أكبر للأقباط في السلطات التشريعية والتنفيذية والأجهزة الحساسة، كما أشار إلي رغبته تنفيذ مخطط لقبطي مصري يدعي فايز نجيب كان قد أعلن في عام ١٩٩٢ عن قيام دولة قبطية خالصة لأقباط مصر، وطالب بثلث مساحة الدولة لها، وكان ذلك في مدينة هامبرج بألمانيا.
كان هذا ما شجع المنظمة الثانية علي الانطلاق، وهي باسم “الاتحاد القبطي الأمريكي”، وأسسها المهندس وفيق إسكندر، الذي طالب بتحرير مصر من كل الديانات الأخرى، واقتصارها فقط علي الأقباط. بعدها بدأت جمعية “مسيحيو الشرق الأوسط” في الانطلاق برئاسة نادر فوزي الذي أعلن عن استعداده القيام بدور حيوي بالبرلمان، إذا أصبح رئيساً له.
وقبل ٨ سنوات في ١٩٩٩ خرج مايكل منير من مصر واتخذ قراره بعدم العودة إليها، إلا بعد إنشاء منظمة وفقاً للموضة القائمة، تكون له الحماية والصوت. وفي فترة قصيرة جداً استطاع مايكل منير أن يحصل علي شهرة واسعة بين الأقباط عن طريق منظمة “أقباط الولايات المتحدة” معتمدا على تمويل رجال أعمال مسيحيين هناك. كما سعى للتواجد القانوني داخل جمعية حقوق الإنسان الأمريكية المدعمة من البيت الأبيض بواشنطن، وفي عام ٢٠٠٢ قدم منير فكرة مشروع اتصال مباشر بين الكاتدرائية في مصر والبيت الأبيض. وكان له السبق في ابتداع وسيلة للاتصال بين أقباط مصر والمنظمة عن طريق برنامج الـ”بال توك”. وهو رجل أعمال شاب، ناجح ، أنيق ويحتفظ بعلاقات واسعة مع رجال الكونجرس، مما مكنه من الحصول على مقر دائم لمنظمته في مبنى الصحافة الوطني. وعندما خاض الانتخابات المحلية في ولاية فيرجينيا على قائمة الحزب الجمهوري، كان يتبنى برنامجا أكثر محافظة من منافسته، وأحد بنوده كان يطالب بإعادة اللاجئين السياسيين ومنع التحاقهم بالتعليم المجاني.
سياسة أقباط المهجر
في ضوء هذا العرض القصير، يتضح أن هذا التيار يعتبر أن الاستقواء بالإمبريالية، هو الطريق الممهد لحل المشكلة القبطية في مصر.
لو وصلنا لهذا الاستنتاج وأزلنا من ذهننا لافتة “أقباط المهجر”، لوجدنا أنهم يدافعون عن سياسة لا تختلف كثيرا عن السياسة التي دافع عنها سياسيون، رفعوا لافتات متباينة كل التباين، مثل رموز الأحزاب البرتقالية والوردية في أوروبا، و”الحزب الشيوعي” في العراق. و أمثال سعد الدين إبراهيم في مصر، و “اليسار الديمقراطي” في لبنان.
مشكلة هذه السياسة أنها تحتقر الجماهير. إن أصحاب هذه الرؤية لا يؤمنون أن التغيير الذي سيصب في مصلحة الأغلبية المضطهدة، سينشأ فقط نتيجة النضال الجماعي لهؤلاء المضطهدين، بالإضافة إلى ذلك فهم لا يطرحون أنفسهم كبديل للنضال الجماعي، كما يفعل الكثيرون من القوميون والليبراليون وغيرهم، بل يطرحون الإمبريالية بنفسها بديلا عن هذا النضال. أي أنهم ببساطة يطرحون استبدال الاستبداد بالاستعمار!
من ناحية أخرى فأقباط المهجر الذين يدعون التعبير عن مصالح “كل أقباط المهجر” لا يعبرون في الحقيقة إلا عن مصالح ورؤية قسم محدود جداً من هؤلاء الأقباط حيث توجد شكوك قوية حول عدد أعضاء هذه المنظمات لو صحت لاعتبرنا أنهم لا يمثلون تقريباً إلا أنفسهم.
ولكن نقد الحل الذي يقدمه أقباط المهجر، ونقد منهجهم في العمل والتفكير، لا يعني أن مشكلة الأقباط قد حلت. لا يعني أن حادثة المنيا الأخيرة لم تحدث. ولكنه يعني أن علينا أن نبحث في الكيفية التي يستطيع بها أقباط الداخل والخارج التخلص من الاضطهاد والاستبداد.