قل “انفلات الشرطة” ولا تقل “انفلات أمني”

لعل من أكثر المصطلحات تداولاً بعد إسقاط مبارك، مصطلح “الانفلات الأمني”، الذي صار مملاً من كثرة تكراره على لسان محمود وجدي، وزير الداخلية السابق، ومن ثم منصور عيسوي، الوزير الحالي. ناهيك عن ترديد المصطلح، بغرض إثارة القلق، على معظم -إن لم يكن كل- القنوات الفضائية والصحف الحكومية والمستقلة على حد سواء.
وبغض النظر عن مدى مبالغة وسائل الإعلام المتعمدة في إبراز ما يسمونه “الانفلات الأمني” وانتشار أعمال البلطجة، لكن من الواضح أن وسائل الإعلام تلك تود إيصال رسالة، تظل تبثها ليل نهار، مفادها أن الهزيمة القاسية التي تلقتها الشرطة وقوات الأمن المركزي في 28 يناير هي السبب فيما تشهده بعض أحياء العاصمة والمحافظات من أعمال البلطجة تلك. أو كأنهم يريدون إقناع الشعب، الذي لم ينجز مطالب الثورة بعد، أن هذه الثورة نفسها هي التي تسببت في هذه الحالة، وما كان على الثوار تحدي الشرطة التي سقته الذل والهوان طوال عقود سابقة (!!)، وأن ما حدث قد حدث وعلينا اليوم أن نستقبل عودة الشرطة بالورود كي تخلصنا من كابوس البلطجة والانفلات (!!).
لكن هذا الإعلام نفسه هو الذي سعى جاهداً لإثناء الثوار عن الثورة نفسها طوال الثمانية عشر يوماً التي سقط فيها الديكتاتور. والأمر كله واضح كالشمس، فالشرطة تمارس اليوم إضراباً شبه تام عن العمل في محاولة للانتقام من الشعب الذي رد لها الصاع صاعين. ويكفي أن تدخل أحد أقسام الشرطة لتحرر محضراً أو لتبلغ عن حادثة، كي تدرك بنفسك مدى جدية ضباط الشرطة ومعاونيهم في التعاون معك والتعاطي مع شكواك.
يفسر لنا اللواء منصور عيسوي، وزير الداخلية، الأمر كله في تصريحه لجريدة المصري اليوم، الثلاثاء الماضي، بأن أحد أهم أسباب هذا “الانفلات” يعود إلى “حدوث هزة كبيرة لدى ضباط الشرطة، بسبب إحالة مجموعة من الضباط والأفراد إلى المحاكمة”.
الواقع أيضاً يطرح حقيقة مغايرة تماماً لما يشيعه سيادة اللواء، أحد رجال حبيب العادلي المخلصين. فعلى العكس تماماً، تجري اليوم محاكمة السفاح العادلي ومساعديه في قضية قتل المتظاهرين، ببطء السلحفاة. وجدير بالذكر أن المحاكمة قد تأجلت إلى يوم 26 يونيو القادم، وهو اليوم نفسه الذي يوافق اليوم العالمي لمناهضة التعذيب الذي كان العادلي ورجاله أبرز أبطاله في مصر وعلى مستوى العالم. وفي حين يُحال العادلي و”قليل” من رجاله لمحاكم مدنية، يُحال المتظاهرون لمحاكم عسكرية يلقون فيها عقوبات فورية لا نقض فيها ولا استئناف (!!).
أما بالنسبة لمن تتلمذوا على يدي العادلي في القتل والتعذيب، فمن الواضح أن لا نية لتوقيع أدنى عقوبة عليهم، إذ أن بعضهم يتلقى شهادات تكريم وتعلق على رقابهم ميداليات الشرف في احتفاليات تكريم فاخرة، كما كان من المخطط أن يحدث، على سبيل المثال، في مكتبة الإسكندرية حيث كان سيجري تكريم مدير أمن الإسكندرية السابق اللواء محمد ابراهيم (المتهم بقتل المتظاهرين)، والمقدم أحمد عثمان رئيس مباحث قسم سيدي جابر (ضابط واقعة مقتل خالد سعيد)، علاوة على عدد آخر من السفاحين.
القصة لا تنتهي عند هذا الحد، فرجال الشرطة المضربين عن عملهم لتركيعنا وتهديدنا بغياب الأمن، تتعامل معهم حكومة شرف كـ”مكسوري الجناح” الباحثين عن رد اعتبار. ففي حين تتجاهل مطالب العمال المعتصمين لأسايبع من أجل حقوقهم الضائعة (كعاملات المنصورة–اسبانيا أو عمال أسمنت بني سويف على سبيل المثال)، تستمر الحكومة في الإغداق على رجال الشرطة بالمنح والحوافز الإضافية على سبيل الرشوة من أجل تنفيذ واجبهم. فمنذ إسقاط مبارك، أصبحوا يحصلون على حافز “العمل المميز” علاوة على حافز “تطوير العمل”، إلخ.
يبدو هنا أن حكومة شرف تنتهج قاعدة جديدة: من يعمل وينتج يتم تجاهل مطالبه، أما من يقتل ويعذب ويلوي ذراع المجتمع لإذلال الثورة تتم مكافأته. الأدهى أن الداخلية لا تمارس، فيما بعد إسقاط مبارك، إلا دوراً واحداً ألا وهو قمع المتظاهرين. وآخر ما يُذكر أن قامت به قوات الأمن المركزي هو قمع فلاحي الأوقاف أثناء تظاهرهم الأربعاء الماضي أمام مجلس الوزراء جنباً إلى جنب مع إخوتهم من عمال النصر للسيارات والبحوث الزراعية وأوائل خريجي الأزهر.
ولقد ظن الكثيرون أننا لن نستنشق الغاز المسيل للدموع ولن يُطلق علينا النار بعد مبارك، لكن المتظاهرين أمام السفارة الاسرائيلية اختنقوا به وتلقوا رصاص قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية اللذين تعاونا لقمع المتظاهرين في 15 مايو السابق.
تعود الداخلية اليوم -أو بالأحرى تستكمل- وظيفتها القديمة/الجديدة، ليس في حماية المواطنين بالطبع، بل في القمع المنظم للنضالات المختلفة التي تستكمل الثورة. وبالنسبة لحفظ الأمن، فلم تلك مهمة الداخلية لا تحت حكم الديكتاتور ولا بعد قيام الثورة.. فقد اعتادت الشرطة على “الانفلات”، لكنها عليها أن تعلم أننا، منذ أن أسقطنا الديكتاتور، اعتدنا على الثورة.