قراءة في خريطة الصراع الطبقي في مصر

رغم أن عام 2008 لم يكن له، من حيث كثافة الحركة العمالية والاجتماعية، نفس الزخم الذي كان لـ2007، إلا أن الحديث عن مستقبل البلاد، في ظل التدهور غير المسبوق في كل المجالات، لا تزال له الأولوية الأولى عند الجميع، ليس فقط على مستوى النخبة السياسية والثقافية، ولكن أيضا عند رجل الشارع العادي، على المقهى وفي الشارع والمواصلات و… في كل مكان.
وفي خضم الحديث عن المستقبل، هناك أصوات عدة تتبني منظورات مختلفة لطبيعة التغيير المنشود. الملاحظة الهامة هنا أن الأعلى صوتا بين تلك المنظورات، هو ذلك الذي يرى أن التغيير القادم الذي سينقذ البلاد لا مفر أن يأتي من داخل النظام نفسه، إلى الحد الذي دعا البعض إلى طرح فكرة المؤسسة العسكرية كبديل (نظرية القلب الصلب لضياء رشوان)، هذا بينما لا نسمع كثيرا الأصوات المتبنية لمنظورات جذرية للتغيير، منظورات لا تهدف فقط إلى إزاحة مظاهر العفن والشيخوخة والصدأ التي أصابت النخبة الحاكمة، ولكن تهدف إلى إزالة الأسباب الجوهرية التي تكمن وراء هذه المظاهر بعملية تغيير جذرية على المستويين السياسي والاجتماعي.
وإذا كانت سطوة المنظورات الإصلاحية تعود من ناحية إلى الوضعية الراهنة للحركة السياسية والاجتماعية التي لم تبلور حتى الآن بديلا ولو حتى أوليا، ومن ناحية أخرى إلى حالة الاحباط والتخبط التي تعيشها المعارضة الراديكالية، فربما يكون من المفيد إلقاء نظرة أوسع على مجرى الصراع الطبقي في مصر في السنوات الأخيرة وقراءة خريطة الأطراف المتفاعلة داخله لمعرفة كيف ولماذا نتحيز لمنظور دون الآخر.
طبيعة أزمة الطبقة الحاكمة
المنظورات الإصلاحية تسعي بشكل عام إلى إحداث تغييرات في شكل النخبة الحاكمة التي أصبحت – من وجهة نظرها – عاجزة عن إدارة المجتمع ودفعه للأمام، حتى لو كان التغيير من قلب النخبة القديمة نفسها. المشكلة إذا من وجهة النظر تلك لا تكمن في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية التي يقوم عليها النظام الحاكم، وإنما في صلاحية إدارة هذا النظام لهذه المنظومة، نتيجة ما يعتريه من فساد واستبداد وشيخوخة.
لكن نظرة مدققة لطبيعة أزمة الطبقة الحاكمة في مصر خلال السنوات الأخيرة، وبالتحديد مع مطلع الألفية الجديدة، توضح عدم دقة هذا المنظور، وتكشف الجذر الحقيقي للأزمة التي تعيشها مصر الآن.
أسس نظام مبارك شرعيته على قدرته على تحقيق التنمية وإخراج مصر من دائرة الأزمة الاقتصادية الطاحنة خلال حقبة الثمانينيات. وكانت الوصفة السحرية التي روّج لها مبارك تكمن في الليبرالية الجديدة والإسراع بإدماج مصر في السوق الرأسمالي العالمي تمهيدا لتحويلها إلى نمر اقتصادي على النيل! هذه الوصفة كانت وراء ما شاهدناه من سياسات التثبيت الاقتصادي واعادة الهيكلة والخصخصة وتحرير الأسواق والتخلص من الدعم والإنفاق الاجتماعي، التي أخذت وتيرة متسارعة خلال حقبة التسعينيات.
ظل النظام قادرا على ترويج سياساته بفعل عوامل مختلفة أهمها ميراث الهزائم التي منيت بها الحركة الجماهيرية – وخاصة العمالية – منذ النصف الثاني من السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات، تحت وطأة قبضة الاستبداد والقهر اللذين مارسهما النظام، خاصة وأن معركته مع الإسلاميين في ذلك الوقت كانت على أشدها. ووسط ذلك القهر غذى النظام سياسة “الجزرة” المبنية على آمال الرخاء على يد الليبرالية الجديدة، ودعم ذلك الانتعاش الاقتصادي التي شهدته الرأسمالية المصرية في منتصف التسعينيات.
لكن مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة أنجبت هذه السياسات أمراضها الخاصة، فكانت حصيلتها تشريد مئات الآلاف من العمال في القطاع العام الذي كان بنهاية هذه الحقبة قد تم التخلص من الجزء الأكبر منه. هذا بالإضافة إلى طوابير البطالة التي تفاقمت لتصل وفقا للتقديرات الحكومية إلى 10%، لكن تقديرات اقتصادية عالمية وصلت بها إلى 20%. كما ارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة. حيث وصل عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر – أي بأقل من دولارين في اليوم – إلى ما يقرب من 48% من سكان مصر. على الجانب الآخر كانت ثروات الرأسماليين المصريين والأجانب تتضخم إلى معدلات غير مسبوقة. فعلى سبيل المثال بلغت ثروة أربعة أفراد من عائلة مصرية واحدة فقط هي “عائلة ساويرس” (الأب أنسي ساويرس وأبناؤه الثلاثة نجيب وناصف وسميح) عام 2007، نحو 20 مليار و400 مليون دولار، أي حوالي 117 مليار جنيه مصري! يساوي هذا الرقم 41.5% من الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية مصر العربية كلها.
ثم مع بداية الألفية الجديدة تضافرت عوامل عدة لوضع العصا في عجلة برنامج الليبرالية الجديدة، كان أهمها بوادر الأزمة الاقتصادية التي بدأت تضرب الرأسمالية العالمية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والحرب الأمريكية المزعومة على الإرهاب التي أحدثت اضطرابات اقتصادية إقليمية وعالمية جاءت بتبعاتها على الاقتصاد المصري، هذا بالإضافة إلى التناحر الخفي بين جناحي النظام الأساسيين، الأول الممثل للحرس القديم، خليفة بيروقراطية رأسمالية الدولة الذي بنى نفوذه وقوته من موقعه داخل القطاع العام القديم والمؤسسات الممثلة له، وبالتالي يرغب في التمهل في عملية التحول الاقتصادي، والثاني جيل الرأسماليين الجدد الذين ارتبطوا بالسلطة في مرحلة تحولها نحو السوق لحماية مصالحهم وتفعيل خططهم للمستقبل، واتخذ من أمانة السياسات بالحزب الوطني منبرا سياسيا تحت قيادة جمال مبارك، ويرغب في الإسراع بعملية التحول الاقتصادي بصرف النظر عن الضحايا أو العواقب.
والمفارقة الطريفة هنا أن النظام قرر مواجهة الأزمة الناتجة بالأساس عن سياسات الليبرالية الجديدة بالإسراع في تطبيق هذه السياسات! وهذا هو السر وراء مجيء حكومة رجال الأعمال بقيادة أحمد نظيف عام 2004، وكانت إعلانا عن التخلص من السياسات الحذرة في تطبيق الليبرالية الجديدة التي اتبعتها حكومات الحرس القديم التي ترأس آخرها عاطف عبيد. وهو ما يفسر اختراع الحكومة الجديدة لحقيبة وزراية خاصة بعملية الخصخصة والاستثمار تولاها محمود محيي الدين، أحد صقور أمانة السياسيات، الذي أعلن فور توليه الوزارة قائمة طويلة من الشركات المطروحة للبيع بأي ثمن، بالإضافة إلى خطة للتخلص السريع مما تبقى من الدعم للفقراء، وغيرها من إجراءات مسيرة تحرير الأسواق بشكل كامل.
وعلى مدار أربع سنوات، هي عمر سنوات النجاح النسبي لليبراليي مصر الجدد، لم تنجح حكومة رجال الأعمال في تحقيق تقدم نوعي ينقل الاقتصاد المصري إلى مصاف البلدان المصنعة حديثا. وهذا قطعا أمر طبيعي. حيث تحتاج النقلة النوعية إلى على الأقل عقد ونصف من النمو الكبير المتواصل.
ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في أواخر 2008 على هيئة انهيارات كارثية في النظام المالي العالمي لتعلن لأنبياء الليبرالية الجديدة، ليس في مصر فقط ولكن في العالم كله، كذب نبوءاتهم. وبدا تأثير الأزمة واضحا في مصر بشكل رسمي بعد إعلان محمود محيي الدين وزير الاستثمار عن توقف برنامج الخصخصة في شكله التقليدي وبدء طرح أصول القطاع العام المتبقية للبيع إلى الشعب على هيئة صكوك في عملية جديدة للنصب على جماهير الفقراء، ليس هنا مجال تفصيلها، وكذلك بعد التراجع الهائل في معدلات النمو وعمليات التسريح الجماعية لعشرات الآلاف من العمال في غضون شهور قليلة منذ اندلاع الأزمة، والبقية تأتي.
فقد النظام إذا جزرة شرعيته التي منّى بها الجماهير وبرر بها كل سياسات القمع والقهر التي اتبعها على مدار عقدين من الزمان. هذا الإفلاس الأخير بدأ يعتمل وسط متغيرات إقليمية وعالمية مختلفة عن أجواء الثمانينيات والتسعينيات. فتحت وطأة المنافسة الضارية بين الشركاء الرأسماليين العالميين، كانت الإمبريالية الأمريكية قد قررت اللعب بورقة الحرب لحسم، أو على الأقل تحسين، شروط منافستها دخل السوق العالمي، وهو ما تم تنفيذه تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب وما نتج عنها من احتلال أفغانستان عام 2001 ثم العراق عام 2003، الأمر الذي زج بمنطقة الشرق الأوسط بأسرها في مرحلة جديدة وحرجة. حيث بدت الأنظمة الديكتاتورية الشائخة واقعة تحت مطرقة الاحتقان الاجتماعي الداخلي نتيجة فشل سياسات الليبرالية الجديدة، وسندان الإمبريالية في طورها الجديد الذي تطلب من هذه الأنظمة المزيد من الالتزام بأجندتها الجديدة في المنطقة، ليس فقط على الصعيد العسكري والسياسي (المساهمة في ضرب حركات المقاومة ومحاصرتها ودعم المواقف الإمبريالية في البؤر المتوترة)، لكن أيضا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي عن طريق الإسراع في “روشتة” الليبرالية الجديدة، كل ذلك كان يعني في المحصلة النهائية تأجج الصراع الاجتماعي بوتيرة أعلى.
كان النظام المصري من ناحيته قد وضع خطة تستهدف على المدى البعيد استمرار بقاؤه في السلطة وتجعله يبدو أنه يتخذ خطوات نحو الديمقراطية والانفتاح السياسي وتخفيف قبضة القهر البوليسي الذي اتسم به طوال عمره. تكشفت معالم هذه الخطة بداية عام 2005 مع الإعلان عن التعديل الدستوري الذي دشن لأول انتخابات رئاسية بين متنافسين وأنهى نظام الاستفتاءات الشعبية على شخص الرئيس بنسبة 99,9% الذي بات مسرحية سخيفة من كثرة تكرارها وانكشاف زيفها. لكن تجربة الانتخابات الرئاسية عام 2005 كشفت أن المسرحية مازالت مستمرة مع بعض التغيير في الديكور والإضاءة والدعاية. وتكشفت نوايا النظام وخططه الحقيقية مع الإعلان عن التعديلات الموسعة على 34 مادة من الدستور التي استهدفت بشكل أساسي تأمين انتقال السلطة للوريث نجل الرئيس الأصغر جمال مبارك، وإغلاق الباب بالضبة والمفتاح أمام المعارضة، وخاصة الإخوان المسلمين الذين كانوا قد نجحوا في انتزاع 88 مقعدا في مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية عام 2005. ويبدو أن التعديلات الدستورية لم تكن سوى خطوة على طريق مشروع تجهيز الوريث سياسيا، ذلك المشروع الذي قد بدأ قبل ذلك بسنوات قليلة عندما تولى جمال مبارك رئاسة أمانة السياسيات بالحزب الحاكم، هذا الجهاز الذي أصبح فيما بعد المطبخ الخفي للحكم. لذلك كان مفهوما في هذا الاطار التغييرات الواسعة التي شهدتها أجهزة الحكم عام 2004 من تهميش للرموز القديمة للنظام وصعود رجال لجنة السياسات ليشكلوا أغلبية حكومة نظيف، ويتقلدوا مناصب هامة في السلطة التشريعية كممثلين للحزب.
لكن خطة النظام لم تمر بسلام بشكل تام كما كان يتوقع. حيث ساهم الهامش الديمقراطي النسبي، على خلفية الظروف الموضوعية التي سبق ذكرها، في انتعاش حركات المعارضة السياسية والاجتماعية التي كانت قد بدأت بالفعل مع مطلع الألفية الجديدة، وفتحت الأفق للبديل الجماهيري في التغيير.
صعود المقاومة الجماهيرية
شهدت بداية الألفية الجديدة انطلاقة جديدة للحركة الجماهيرية زلزلت الركود الرهيب لحقبة التسعينيات. ورغم أن الحركة تطورت من مرحلة إلى أخري وانتقلت من شكل إلى آخر خلال السنوات الثماني الماضية، إلا أنها كانت بمثابة نقاط متفرقة على منحنى صاعد للحركة. بمعنى آخر: لم تستطع حلقات الحركة المختلفة أن تنسج فيما بينها سلسلة متماسكة من المعارضة يمكنها طرح نفسها كقطب اجتماعي قادر على تقديم البديل الجذري للنظام الحاكم وحلفائه الطبقيين.
كانت الشرارة الأولى التي بشرت بالمرحلة الجديدة هي حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000. حيث شهدت مصر لأول مرة منذ سنوات طويلة اندلاع موجة ضخمة من المظاهرات اشترك فيها الآلاف من طلبة الجامعات والمدارس وامتدت لتشمل النخبة السياسية المعارضة، وكانت أجواء المعركة بين المقاومة والاحتلال في غزة والضفة تجد أصداءها بشكل مباشر في القاهرة.
وبينما كانت الانتفاضة تشعل مشاعر الشارع العربي والعالمي، كانت الولايات المتحدة تدق طبول الحرب ضد العراق، وباتت الحرب قاب قوسين أو أدنى، حتى وقعت الواقعة وبدأ غزو العراق في مارس 2003. وكانت الجماهير التي تجاسرت على نزول الشارع وكسرت قيود الخوف والاستبداد على أهبة الاستعداد. ومع أول دانة مدفع تم إطلاقها على بغداد كان ميدان التحرير يعج بآلاف البشر في مشهد لم تعهده مصر منذ يناير 1977؛ آلاف المتظاهرين يحتلون الميدان لمدة يومين في معارك مستمرة مع قوات الأمن المركزي، مع أبشع صور التنكيل بالمتظاهرين.
لم تكن نار الغضب الجماهيري التي اندلعت للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، ثم ضد احتلال العراق، مجرد مشاعر وطنية ضد المحتلين الصهاينة والأمريكان فقط. لكن كان بعض الوقود الذي أجج هذا الغضب يتمثل في السخط والنقمة الشديدين على نظام مبارك وطبقته الحاكمة الذين طالما تغنوا بأكذوبة السلام في المنطقة باعتباره الخيار الاستراتيجي أمام العرب، وسعوا طوال الوقت لتوطيد علاقاتهم بالحلف الأمريكي الصهيوني ومحاصرة المقاومة ودفعها للاستسلام، تحت شعار أن السلام والاستقرار سيوفران المناخ الملائم للاستثمار والتنمية وفقا للأجندة الأمريكية. فها هو الحليف الإسرائيلي يلقي بملف السلام في سلة مهملات البيت الأبيض، وها هو الحليف الأمريكي يغزو العراق، وها هي عملية التنمية المزعومة لم تكن سوى سراب، وها نحن أصبحنا “على الحديدة” ووصلنا إلى مشارف الموت جوعا وفقرا، فلماذا نستمر في قبولكم حكاما؟
كان هذا السؤال وراء تحول الحركة نحو مرحلة جديدة من حياتها، نحو مواجهة النظام نفسه والمطالبة بإسقاطه. كانت مصر في تلك الأثناء على مشارف معركتين انتخابيتين فاصلتين، هما معركة التجديد لمبارك لفترة خامسة من الحكم عبر أول انتخابات رئاسية في سبتمبر 2005، ومعركة الانتخابات البرلمانية في نوفمبر من نفس العام. وهكذا سرعان ما استبدلت شعارات “تسقط تسقط إسرائيل” و”اللي بيضرب في العراق بكرة حيضرب في الوراق” التي تصدرت لافتات المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي في الفترة من 2000 إلى 2003، لتصبح شعارات 2004-2005 “يسقط يسقط حسني مبارك” و”لا للتمديد لا للتوريث”، والعديد من الشعارات الأخرى التي تطالب بالحرية والديمقراطية والقضاء على الفساد والاستبداد.
وعلى غرار اللجنة الشعبية لدعم الشعب الفلسطيني التي تكونت من بعض القوى السياسية والمدنية المعارضة في أعقاب اندلاع الانتفاضة، انطلق العديد من المبادرات التي تحمل شعار “من أجل التغيير”. فتكونت الحركة الشعبية من أجل التغيير (كفاية)، والحملة الشعبية من أجل التغيير (الحرية الآن)، ومحامون من أجل التغيير، وصحفيون من أجل التغيير، وطلاب من أجل التغيير، وأدباء وفنانون من أجل التغيير.. وغيرها. وأصبح شعار “من أجل التغيير” ملهما لفئات كثيرة وجديدة. حتى أجهزة الدولة نفسها لم تسلم من تأثير هذا الشعار عليها، وأقصد هنا حركة القضاة الذين انتفض جناح منهم ليعلن رفضه لسياسات التزوير وممارسات الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وخاضوا معركة مشرفة عام 2006 رفعوا فيها – إلى جانب فضح التزوير – مطالبهم الخاصة باستقلال السلطة القضائية وكف يد السلطة التنفيذية عن التدخل في شئونها.
ورغم أن المرحلة الأخيرة من الحركة قصرت مطالبها على القضايا السياسية والديمقراطية ولم تسع إلى التحرك على مطالب اقتصادية واجتماعية، إلا أن الفئات والطبقات أصحاب هذه المطالب الأخيرة، من عمال وفلاحين ومهنيين، وحتى المهمشين في العشوائيات والأحياء الشعبية، لم يكونوا غائبين عن المشهد النضالي الذي مازالت أحداثه تتوالى. فرغم أن الطبقة العاملة لم تكف عن النضال طوال التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة، إلا أن هذه النضالات كانت على موعد مع نقطة فارقة من تاريخها في العقدين الماضيين في نهاية 2006 مع انطلاق إضراب عمال غزل المحلة.
لم تكن أهمية إضراب المحلة تكمن فقط في الحجم الهائل للمصنع، 24 ألف عامل، لكن أيضا في نوعية المطالب التي طورها العمال في مجرى الإضراب من مجرد مطالب اقتصادية بحتة – الأجور والأرباح وغيرها – ليضموا إليها مطلب الإطاحة باللجنة النقابية وتأسيس نقابتهم المستقلة بعد أقل من شهر من انتهاء الانتخابات النقابية. وبصرف النظر عن تعثر تنفيذهم لهذا المطلب، إلا أن النجاح المدوي لإضراب المحلة طرح على الأرض ولأول مرة منذ ما يقرب من نصف قرن فكرة التنظيم المستقل للعمال باعتباره أحد المطالب الديمقراطية للطبقة العاملة.
ومع انطلاق شرارة المحلة، شهد عام 2007 موجة من الإضرابات العمالية ضربت العديد من المواقع في جميع أنحاء مصر، وشملت قطاعات صناعية وخدمية متنوعة من عمال الغزل والنسيج إلى عمال السكة الحديد والمترو والنقل العام والأسمنت وموظفي الضرائب العقارية.. وغيرها من المواقع، حتى أن بعض التقارير أشارت إلى أن العام 2007 شهد ما يقرب من 500 احتجاجا عماليا، جميعها هبت لتعلن رفضها وكفاحها ضد سياسات الليبرالية الجديدة.
وكما هب العمال لصد الهجمة على أرزاقهم والدفاع عن مصانعهم، كانت هناك معركة أخرى تجري رحاها في الريف بين “الإقطاع الجديد” العائد على ظهور مصفحات الأمن المركزي، والفلاحين الفقراء المعرضين للطرد من أراضيهم. وخاض الفلاحون نضالات باسلة راح ضحيتها العشرات من القتلى والمصابين والمعتقلين في سراندو وبهوت ودكرنس وصرد.. وغيرها.
ثم انتشرت عدوى الإحتجاج كالنار في الهشيم، لتشمل فئات وقطاعات اجتماعية لم يتوقع أحد انتفاضها، مثل المعلمين والأطباء وأساتذة الجامعة، حتى بات سلاح الإضراب والاعتصام هو الشائع عند كل ذي مظلمة، من هؤلاء الذين أصبحوا مشردين بلا مأوى بعد انهيار منازلهم أو إزالة الدولة لها، إلى المحتجين على عدم توفر الخبز أو نقص الخدمات في منطقة ما، كما شهدنا في انتفاضة العطش التي شهدتها قرى الدلتا نتيجة نقص مياه الشرب والري في صيف 2007.
وصلت مرحلة المقاومة الاجتماعية إلى ذروتها في الدعوة لما أطلق عليه الإضراب العام في 6 أبريل 2008. حيث كان عمال غزل المحلة قد دعوا لإضراب جديد في نفس اليوم لاستكمال حصولهم على بقية مطالبهم المؤجلة من الإضراب الأخير في سبتمبر 2007. وتلقفت بعض القوى السياسية دعوة المحلة للتضامن مع إضرابها لتقفز بها إلى دعوة إلى الإضراب العام في مصر وإعلان العصيان المدني! ورغم التعاطف الشعبي الكبير مع الفكرة والارتباك الواضح الذي بدا في أجهزة الدولة، إلا أن التعاطف وحده لم يعن تحول الدعوة إلى المضمون الحقيقي لمفهوم الإضراب العام، ناهيك عن العصيان المدني. حتى ارتباك الدولة الواضح في أحداث مدينة المحلة يومي 6 و7 أبريل، والتي كانت أشبه بـ 18 و19 يناير 1977 على شكل مصغر، لم يعني أن الدولة تترنح أمام الغضب الجماهيري، بل على العكس تم مواجهة هذا الغضب بوحشية منقطعة النظير راح ضحيتها ما يقرب من 6 قتلى ومئات المصابين ومثلهم من المعتقلين في مدينة المحلة وحدها، ودخلت الحركة الوليدة في انهاك رهيب دفعها إلى إبطاء وتيرتها في محاولة لالتقاط الأنفاس.
التغيير الذي نريده
يبدو واضحا أن بيت الداء الذي تعانيه مصر لا يكمن في رأس النظام كما يحاول البعض تسطيح القضية، لكن المعضلة ضاربة بجذورها فيما يمثله هذا الرأس من مصالح طبقية خلقت إلى جانب القهر والاستبداد السياسي الفقر والبؤس لملايين الفقراء. ومن ثم عند الحديث عن أي تغيير سيكون من التضليل التركيز فقط على الإصلاح السياسي في هذه المؤسسة أو تلك من مؤسسات النظام، ثم إهمال الخلل الأساسي المتمثل في التركيبة الطبقية للنخبة الحاكمة والسياسات التي تنتجها وتدافع عنها.
وربما كان هذا الاستنتاج هو الدرس الأول لحركة التغيير السياسي والديمقراطي التي شهدناها خلال العامين 2005-2006، فالحركة التي ولدت بالأساس على أيدي النخبة السياسية المعارضة من أبناء الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة عجزت عن مد حدود أفقها إلى ما وراء التغيير السياسي في شكل النظام، أي إلى مطالب اجتماعية تمس جوهر المنظومة التي تفرز نظام الاستبداد والفقر معا، فكانت النتيجة أن خلقت هذه الحركة لنفسها أسوارا عزلتها عن حركة القوى الوحيدة القدرة على ترجمة هذه المطالب إلى واقع على الأرض، حركة القوى الاجتماعية من عمال وفلاحين ومعلمين ومهمشين في الأحياء الشعبية…وغيرهم ممن كانوا يتحركون بشكل عفوي للتعبير عن مطالبهم الخاصة من الحق في الأجر والعمل والسكن والمياه والخبز… وغيرها من الحقوق التي شهدت خلال حكم مبارك وطبقته هجوما عنيفا ألقى بالملايين منهم إلى هوة البؤس. فالديمقراطية بالنسبة لهؤلاء لا تعني سوى الحصول على هذه الاحتياجات الأساسية، وبالتأكيد لن يكونوا سعداء بتغيير يعطيهم مجرد برلمان حر وتداول للسلطة ويبقى لهم الفقر نتيجة عدم المساس بالمنظومة الاجتماعية للرأسمالية التي تنتج هذا الفقر.
لكن رغم أن هذا المفهوم الجماهيري للتغيير والديمقراطية يمكن تتبعه مع صعود حركة المقاومة الاجتماعية خلال العامين الماضيين، إلا أنه سيكون من التجاوز القول أن هذه الحركة في طورها الحالي بلغت من القوة والقدرة لتشكيل البديل الذي نتحدث عنه، كما حاول البعض تصوير ذلك في دعوة 6 أبريل. فالحركة الصاعدة والمرشحة للاتساع تحت وطأة استمرار النزيف في حقوق الفقراء الذي تسببت فيه سياسات الليبرالية الجديدة، مازال أمامها خطوات ومهام كثيرة عليها إنجازها لبلورة هذا البديل؛ خطوات ومهام تحتاج إلى نقاش جدي وموسع بين كل المهمومين بإحداث تغيير حقيقي في هذا البلد لصالح الأغلبية الساحقة من أبنائه الفقراء والكادحين.