دردشة عن المظاهرات (1)
قراءة في مظاهرات الماضي والحاضر
سلسلة مقالات للمناضل الاشتراكي كمال خليل، الذي شارك في وقاد مئات المظاهرات على مدار ما يزيد عن الثلاثين عاماً، يطرح فيها رؤيته للحركة الجماهيرية منذ السبعينات وحتى الآن.
فرق كبير بين المظاهرات المتحركة والمظاهرات المعلبة والمحاصرة:
مظاهرة الخميس 25 نوفمبر 1976، والتي بدأت بحوالي ثلاثمائة طالب تحركوا من الحرم الجامعي لجامعة القاهرة نحو تمثال نهضة مصر، وحينما وصلوا إلى مشارف كوبري الجامعة لم يكن هناك أي جندي من قوات الأمن المركزي فعبروا إلى الكوبري متجهين نحو شارع القصر العيني إلى مجلس الشعب. كان المتظاهرون في البداية ثلاثمائة، وبعد أن ساروا مئات الأمتار من بداية شارع القصر العيني وصلوا بسهولة إلى ثلاثة آلاف متظاهر.
كانت المظاهرة تسير وتقوم فرقة خاصة من المتظاهرين بتوزيع البيانات (التي تشرح أهداف المسيرة ومطالبها) على المواطنين الواقفين على محطات الأتوبيس، أو المارين بالشارع أو الجالسين على المقاهي. فالمظاهرة تسير تاركة من خلفها مطالبها ووجهة نظر متظاهريها، بل إن بعضنا كان يدير حلقات نقاش على الأرصفة والمقاهي. فمظاهرة لا توزع بيانات هي مظاهرة لا تترك خلفها سوى صدى شعاراتها، ومظاهرة توزع البيانات تظل مطالبها ورؤيتها محل نقاش وتفاعل بين الجماهير وخلفها.
أما المظاهرة المعلبة والمحاصرة فإن بياناتها تقتصر على أعداد المحاصرين بداخلها، والذين غالباً لا يتفاعلون معها لأن أغلبهم من قوى سياسية تعرف أطروحات بعضها. أما شعاراتها فإنها تختزل في جملتين على شاشات الفضائيات إن وجدت.
دائما المظاهرة المتحركة تظل قوية الأثر والتأثير حتى بعد انتهائها:
فمظاهرة 25 نوفمبر وصفتها الصحف الحكومية الصادرة صباح يوم الجمعة بأنها “مظاهرة ضمت قلة منحرفة مكونة من ثلاثمائة طالب”. ووصفتها جريدة روزاليوسف الصادرة مساء يوم الأحد بأنها “مظاهرة ضمت ثلاثة آلاف طالب من اليسار المغامر وعملاء المخابرات المركزية الأمريكية”. ولكن الصحف التي أطلقت اتهامات القلة المنحرفة وعملاء المخابرات المركزية، لم تجب على السؤال التالي: “إذا كان منظمو هذه المظاهرة عملاء وقلة منحرفة، فلماذا تعانق عمال النقل العام وصفقوا للمتظاهرين حينما هتفوا: يا عمال النقل العام .. إضرابكم خطوة لقدام، و: التأيييد التام التام .. لعمال النقل العام.
وكان عليهم أن يوضحوا أين الانحراف أو المغامرة اليسارية لطلاب يطالبون في بياناتهم بربط الأجور والأسعار، ورفع الحد الأدنى للأجور، وحق الإضراب والاعتصام وحرية تشكيل الأحزاب، ورفض الاعتراف بالعدو الصهيوني.. الخ.
ولم يسأل كتبة روزاليوسف ومتحذلقوها لماذا صفق عمال مطابع روزاليوسف في شارع القصر العيني للمتظاهرين، حينما هتفوا: “يا عمال أنا وأنتم واحد .. واللي سارقني وسارقك واحد”.
مظاهرة متحركة بدأت بـ300 طالب وانتهت بـ3000 طالب، ظل أثرها في الشارع وداخل الجامعة لمدة شهر ونصف حتى قامت واشتعلت انتفاضة 18 و19 يناير 1977، فخرج علينا رأس النظام وحاكم مصر المحروسة ليعلن كذبا أن مسيرة 25 نوفمبر 1976 كانت بمثابة البروفة لانتفاضة يناير 1977!!!
أما مظاهرة طلاب جامعة عين شمس مساء الأحد 17 يناير 1977، والتي سارت من كلية هندسة عين شمس وحتى مجلس الشعب بميدان التحرير مخترقة ميادين القاهرة، فقد كان لها أثر هائل وعميق في تفجير حركة المظاهرات في منطقة شمال القاهرة يومي 18 و19 يناير. كما كانت مظاهرة مصنع عمال حرير حلون، والتي اخترقت مدينة حلوان متجهة نحو المصانع الحربية، العامل الرئيسي في تفجير الانتفاضة يوم 18 يناير بمنطقة حلوان الصناعية في جنوب القاهرة.
كذلك كان للمظاهرة المتحركة يوم 21 مارس 2003، والتي اخترقت شوارع القاهرة من جامع الأزهر، أثرها الكبير في انتفاضة شوارع القاهرة في ذلك اليوم.
المظاهرات السيارة والمتحركة والتي تمتد من الشوارع والميادين، وتنتقل من شارع إلى آخر، ومن ميدان إلى آخر، ومن الشوارع والميادين إلى الحواري والأزقة، هي التي يمكن أن نطلق عليها بجد تعبير مظاهرات. وتكون هذه المظاهرات أكثر تأثيراً وفاعلية حينما تكون حاملة للبيانات والمنشورات الثورية واللافتات.
أما المظاهرات المحاصرة داخل علبة من جنود الأمن المركزي، والتي لا تسير خطوة واحدة فهي ليست مظاهرات, يمكن تسميتها تجمعات سياسية محاصرة. تظاهرة بمعنى تصغير لكلمة مظاهرة، أو مظاهرة معلبة.
المظاهرة المتحركة هي حالة تفاعل بين المتظاهرين والجماهير، هي حالة من العشق المتبادل.
المظاهرات التي كانت تخرج في السبعينات من الحرم الجامعي وتطوف بحواري وأزقة حي بين السرايات كانت حالة فريدة من التظاهر:
تبدأ المظاهرة طلابية وتنتهي شعبية. تبدأ بشعارات الحرية والديموقراطية وتمتزج بشعارات المظلومين والمقهورين:
“أصل الوالي يا ناس مش داري … بهم الفقرا في الحواري” “شربوا الفقرا المر سنين …. يا ما ليالي باتوا جعانين” “شربوا المر وشربوا القهر … وبيستلفوا طول الشهر”
كنا في مظاهرات حواري بين السرايات نقرأ بين الناس البسطاء عمق الأشياء. نقرأ الذي لا يكتب في الكتب. عمق الأشياء الذي لن نجده إطلاقاً في المظاهرات المعلبة. كانت الشعارات تخرج من الفم بشكل تلقائي وعفوي. كانت المظاهرات في الحواري الفقيرة تستقبل بزغاريد النساء، وما أجملها من زغاريد. كانت الزغرودة تعبير عن لحظة من لحظات انتصار الفقراء لأنفسهم، وكانت بمثابة تحية لشعارات وكلمات ليست جروح وآلام عميقة بداخلهم.
“سرقوا الكستور عروا الملايين … سرقوا الدوا من العيانيين” “يضحكوا مرعي وعثمان …وينهبكوكي يا خزانة” ويرقصوكي شمال ويمين … ويمصوا دمك ودمانا”
لقد كانت مظاهرة 11 فبراير 1973 عبارة عن مقطوعة موسيقية رائعة، جاءت من العزف الجماعي لتفاعل المتظاهرين:
حوالي ثلاثة آلاف طالب يتجمعون أمام النصب التذكاري لجامعة القاهرة بعد أن طافوا بالحرم الجامعي، وكان هناك المئات من الطلاب معتقلين داخل السجون. وقف الطلاب يرددون شعاراتهم: “أصل معدش فيها رجوع … جه ميعادنا للطلوع”. وكان الطلاب محاصرين من جميع الجهات. حاصرت قوات الأمن منطقة بين السرايات، ووضعت آلاف الجنود على مشارف كوبري الجامعة ومنطقة تمثال نهضة مصر وحديقة الأورمان. لم يخطر في بال رجال الأمن أن هناك منفذ آخر يمكن أن يخرج منه الطلاب، فهم قد تعودوا منذ مظاهرات 1968 إما أن تتجه المظاهرات لحي بين السرايات أو حي الدقي من عند حديقة الأورمان أو من ناحية كوبري الجامعة. فقادة الأمن ما هم إلا بيروقراطيون يحركون قواتهم حسب ما اعتادوا وتعودوا، وبالتالي فالمفاجأة المدروسة والممكنة يمكن أن تشتت شملهم. لذا فحينما انطلق الشعار أمام النصب التذكاري: “مصر يا خلق علينا عزيزة … بينا ياله ميدان الجيزة”، كانت المفاجأة الكبرى وبدأ عزف السيمفونية. توجه الطلاب بسرعة البرق ناحية ميدان الجيزة، وأثناء توجههم خرجت مجموعة من بينهم واستطاعت أن تضم للمظاهرة طلاب مدرسة السعيدية، ومجموعات أخرى لذات الغرض توجهت إلى كلية الزراعة وكلية طب بيطري. وفي خلال ربع أو ثلث ساعة اجتذبت المظاهرة حوالي ستة آلاف مواطن بميدان الجيزة. حاول الطلاب التوجه لعمال الشركة الشرقية للدخان والسجائر بالجيزة، فطاردتهم قوات الأمن التي كانت قد استيقظت من غفوتها ووجهت قواتها تجاه ميدان الجيزة. توجهت المظاهرة نحو حواري الجيزة الشعبية وحاول الجنرالات وجنودهم دخول الحواري وراء المتظاهرين، فكانت الأحجار نصيبهم، لا من قبل الطلاب ولكن من قبل النساء فوق أسطح المنازل. في هذه المرة كانت النساء يطلقن الزغاريد والحجارة في آن واحد. واستمرت المظاهرة حتى العاشرة مساءاً.
في المظاهرات المتحركة يستطيع المتظاهرون التوجه ناحية الجمهور والتفاعل معه ويصبح الجمهور هو قوة المظاهرة، أما في المظاهرات المحاصرة فإن المتظاهرين لا يملكوا سوى الصراخ من داخل العلبة:
“سيبوا الناس ماتمشوهاش … ياللي بعتوا بلدنا بلاش” “حاصروا شارون ماتحصروناش … ياللي بعتوا بلدنا بلاش”
المظاهرة المتحركة حينما تسير بحرية وفاعلية وتحدد مسارها بين الكتل البشرية فإنها تستطيع إذا بدأت بمئات أن تصبح آلاف بسهولة، وإذا بدأت بالآلاف يمكن أن تتحول إلى عشرات ومئات الآلاف، طالما أن المظاهرة في توجهها السياسي تتجاوب مع مشاعر الجماهير ومطالبها.
يصعب حصار المظاهرات وتعليبها بقوات الأمن حينما تكون المظاهرات نابعة من حركة جماهيرية محددة (حركة طلابية، حركة عمالية،…الخ). أما حينما تكون التجمعات تجمعات قوى سياسية والمتعاطفين معهم فإنه يسهل تعليب وحصار التظاهرة بقوات الأمن. المظاهرات المتحركة والتي تشارك فيها الجماهير هي مظاهرات جماهيرية بحق. أما المظاهرات المعلبة والمحاصرة فهي مظاهرات بالإنابة عن الجماهير، وهي مظاهرات استبدالية تستبدل حركة الجماهير بحركة القوى السياسية النشطة. الاستبداد الشديد والقمع وانحسار الحركة الجماهيرية هما البذور الحقيقية للمظاهرات المعلبة والمحاصرة.
والسؤال المطروح: إذا كان هذا هو حال المظاهرات المتحركة، وهذا حال المظاهرات المحاصرة، فهل يجب علينا أن نشترك في المظاهرات المتحركة ونقاطع المعلبة أو المحاصرة؟
الإجابة بالطبع لا. علينا أن نشترك في كلا منهما.
فالمظاهرة المتحركة أو المعلبة نتاج للحالة السياسية العامة ونتاج للحالة الجماهيرية ونتاج لموازين القوى ونتاج لأوضاع القوى السياسية وعلاقتها بالجماهير في لحظة ما. كلا النوعين من المظاهرات إفراز للظروف الموضوعية العامة في فترة تاريخية ما. صحيح ينبغي علينا أن نقف ضد الاستبدالية والإنابة دائماً، لكن في ظروف الحصار الشديد والاستبداد الطاغي تفرض علينا تلك الظروف القاسية نوعاً ما من استبدالية مؤقتة لكسر حاجز الخوف ولإعلان الموقف السياسي، مثل التضامن مع شعب يتم غزوه كالشعب العراقي، أو مع شعب يفجر انتفاضته مثل الشعب الفلسطيني.
ولا يجب أن ننكر أن المظاهرات المحاصرة بالأعداد الغفيرة من قوات الأمن، والتي نظمت لدعم الانتفاضة الفلسطينية كانت تتم ضمن عمل شعبي يتسم بالاتساع في القرى والمدن لجمع التبرعات من أجل القوافل. كانت هذه المظاهرات المحاصرة والمعلبة عاملاً رئيسياً في تفجير حركة المظاهرات العامة في إبريل 2002، عقب حصار مخيم جنين، أمام جامعة القاهرة.
ولا ينبغي أن ننكر أن المظاهرات المحاصرة والمعلبة أمام سفارة قطر وفي السيدة زينب، وأمام جامعة القاهرة كانت أحد العوامل العامة التي أوجدت مظاهرات 20 و21 مارس 2003. ولا ينبغي أن ننكر أن المظاهرات المحاصرة والمعلبة لحركة كفاية كانت ملهماً لكسر حاجز الخوف أمام فئات شعبية أخرى لاستخدام نهج التظاهر.
فالمظاهرات كانت تعلب بحكم الحصار الأمني المكثف، وبحكم أن جميع القوى السياسية بدأت في الخروج وهي في حالة ضعف، ولم يكن أمامها لكي تقوى ويشتد عودها إلا الاشتراك في مثل هذا النوع من التظاهرات.
الخطأ الشديد الذي يقع فيه البعض هو النظر إلى المظاهرات المعلبة والمحاصرة بقوات الأمن كدليل على أننا انتزعنا حق التظاهر.فهذا ليس تظاهر حر، هذا حصار وتعليب لحق التظاهر. التظاهر هو السير بالمظاهرة وسط الجماهير وأماكن التجمعات الطبيعية. التظاهر قد يبدأ بقوى سياسية لكن شرطه الجوهري هو أن تصبح الجماهير طرفاً فاعلاً فيه.
انتزاع حق التظاهر هو انتزاع حق السير وسط الجماهير، وأن تكون المظاهرة بالآلاف ورجال الشرطة بالعشرات، لا أن يكون المتظاهرون بالمئات وأعداد الشرطة تحاصرهم بالآلاف.
أخيراً، المظاهرة المعلبة والمحاصرة هي مصادرة لحق التظاهر، وليست انتزاع لحق التظاهر.