بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ساحة سياسية

الصحافة في مصر الآن

قتل الحريات بمقصلة التراكم

تشهد الفترة الحالية الكثير من الجدل واللغط في الصحافة وأجهزة الإعلام البرجوازية حول حرية الصحافة و”حدود النقد المباح”، وذلك في أعقاب أحكام الحبس التي صدرت على بعض الصحفيين. هذه الضجة المثارة تدعونا لفتح ملف حرية الصحافة وحرية التعبير بشكل عام لنفهم معًا حالة هذه الحريات وحدود ممارستها في ظل ديكتاتورية مبارك القمعية.

خلال عام 1998 رصدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان صدور أحكام نهائية لأول مرة بحبس ستة صحفيين، أما في 1999 فأحكام الحبس والغرامة ضد صحفي جريدة الشعب في قضيتهم مع يوسف وإلى لا تزال موضوعًا مثارًا في الصحف حتى الآن. رصدت المنظمة كذلك في 1998 ثمانين حالة اتهام لـ80 صحفيًا في 35 قضية سب. كما تعرضت بعض الصحف لمنع الطبع والتوزيع في مصر، وبالطبع فإن أشهر مثال على ذلك هو جريدة الدستور التي أنهى تصريح طباعتها اعتراضًا على بيان الجماعة الإسلامية الذي نشرته. ولا يقتصر انتهاك الحريات على حرية الصحافة بل يتعداها إلى مختلف أشكال التعبير. ففي العام ذاته، توسعت الجهات الإدارية في مصادرة الكتب لبعض المؤلفين، وعلى مدار تسعة أشهر فقط طلبت الرقابة على المطبوعات الواردة من الخارج مراجعة 450 كتابًا أرسلت في طلبها من الخارج الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث تم مصادرة 70 كتاب من هذه الكتب مؤخرًا. ولعل أهم هذه الكتب، والتي أثارت مصادرته ضجة شديدة، كتاب النبي للشاعر اللبناني جبران خليل جبران، وهو كتاب متداول في مصر منذ 70 سنة.

هذه المعلومات، عن أحداث العامين الأخيرين فقط، تؤكد أن حرية الصحافة والتعبير مهدرة اليوم في مصر أكثر من أي وقت على مدى الـ18 عامًا الماضية منذ تسلم الديكتاتور مبارك الحكم. ولكن ربما تكون المفارقة الآن هي أن تزايد قمع حرية الصحافة مصحوب بسحابة تضليل كثيفة تدفع بكتاب مستقلين ومعارضين، بنوا سمعتهم دفاعًا عن الحرية، وتدفع بأحزاب المعارضة المدجنة إلى تمييع القضية وطرحها كقضية “صحافة صفراء تجاوزت الحد” أو كقضية “حدود النقد المباح”. فبينما نرى الصحفيين يساقون إلى السجون في قضايا النشر، نجد أنصار الحرية البرجوازيين يشيدون بمبارك الذي منحنا الحرية ولم يصادر صحفنا، ناسين أنه سمح بالوجود فقط للمعارضين المعتدلين الذين يجملون نظام حكمه وذلك بالضبط كي يهللوا له بينما يقمع بوحشية معارضيه الإسلاميين الجذريين والمعتدلين وغيرهم.

وحتى نفهم طبيعة الوضع في مصر اليوم، تعالوا بنا نبدأ من نظرة سريعة على تاريخ حرية الصحافة في مصر في نصف القرن الأخير.

الصحافة والحريات.. نظرة تاريخية:

لعل عهد عبد الناصر كان من أكثر العهود التي شهدت تقييدًا لحرية الصحافة والصحفيين. بداية، تم تقييد حق إصدار الصحف. فبعد أن كانت الصحف قبل الثورة تصدر بمجرد إخطار دائرة المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية بخطاب مسجل بعلم الوصول، تم إلغاء هذا الحق. كذلك أغلقت العديد من الصحف، وأممت أهم الصحف المصرية لتكون لسان حال الحكومة العسكرية القمعية. وبالطبع فتقييد حق إصدار الصحف لم يكن هو الشكل الوحيد من أشكال انتهاكات حرية الصحافة، حيث كانت هناك الرقابة الصارمة على كل ما ينشر في الصحف. وقبل هذا وذاك كان هناك اعتقال الصحفيين المعارضين أو المخالفين لحكومة عبد الناصر. لم يكن تقييد النظام للصحافة بقبضة من حديد نابعًا من شخص عبد الناصر أو من موقف شخصي من الصحافة، بل ببساطة كانت هذه القبضة الحديدية ضرورة حتمتها وضعية الصراع الطبقي في مصر وضرورات التراكم الرأسمالي آنذاك. فأولاً كانت حكومة عبد الناصر ترى حتمية تثبيت دعائم حكمها بعد استيلائها على الحكم عن طريق انقلاب عسكري، هذا في ظل وجود قوي داخلية وخارجية متعددة رافضة لهذه الحكومة (بريطانيا، الطبقة الارستقراطية المصرية، وغيرهما). بسبب هذا الوضع المتأزم إذن، أصبحت هناك ضرورة من وجهة نظر استقرار النظام لإسكات أي أصوات معارضة. ثانيًا، نرى أن نظام رأسمالية الدولة الناصرية كان يقتضي تركز الملكية والسلطة في يد الحكومة، وهو ما كان يتطلب أيضًا منع ظهور أي آراء معارضة أو أي انقسامات داخل الطبقة الحاكمة يمكن أن تهدد دعائم هذه القبضة الحديدية. فالمهمة التي كانت حكومة عبد الناصر ترى أن عليها القيام لها، ألا وهي فتح الطريق أمام الرأسمالية المصرية للنهوض، تطلبت تهيئة المناخ المناسب للاستثمار الرأسمالي ووجود درجة عالية من الاستقرار، وهو ما كان يعني في هذه التي تكتسب أولوية على ما عداها خاصة في ظل الصراعات الداخلية والخارجية الحادة التي ميزت هذه الفترة.

ومع مجيء السادات الحكم، واجهته تحديات من نوع آخر. فما تركه له عبد الناصر هو تركة مثقلة بالأعباء بعد فشل نظام رأسمالية الدولة الذي تبناه عبد الناصر في حل أزمة التنمية الرأسمالية في مصر؛ في نفس الوقت الذي عاني فيه عبد الناصر في آخر سنواته من هزيمة عسكرية ثقيلة. كان على السادات حسم الصراع السياسي داخل الطبقة الحاكمة لصالح التوجه تجاه السوق العالمي ضد خصومه المحبذين لاستمرار سياسات عبد الناصر. ومن هنا، وحتى يحسم الصراع داخل أجنحة السلطة كان عليه البطش بكل معارضيه ومؤيديهم. بدأ السادات عهده بما سمي بثورة التصحيح التي كان من نتيجتها الزج بالكثير من الصحفيين في السجون والقضاء على الأجنحة المعارضة داخل الطبقة الحاكمة. استخدم السادات سياسة هادفة للتعبئة الواسعة نسبيًا ضد هؤلاء الخصوم السياسيين ولصالح سياسات الانفتاح الاقتصادي، وذلك عن طريق إحداث إصلاحات سياسية محدودة وشكلية تسمح للجماهير بقر أوسع نسبيًا من المشاركة لإعطاء صبغة ديمقراطية لنظام حكمه. لكن هذا الهامش الضئيل من الحرية لم يحقق لنظام السادات ما كان يبتغيه من تعبئة جماهيرية لصالحه. فعلى العكس من ذلك، استخدم هذا الهامش للتحريض ضد نظام السادات واتسعت المعارضة الشعبية لنظامه، حتى جاءت انتفاضة يناير 1977 لتمثل تتويجًا جذريًا لهذه المعارضة التي ازداد نطاقها بعد زيارته لإسرائيل. و من هنا جاءت ضرورة شطب هذا الهامش من الحرية، بل وضرورة استخدام درجة أعلى من القمع. وفي هذا السياق أصبح بديل تقييد الصحافة والصحفيين ملحًا، فكان أن صدرت قوانين العيب وسلطة في تقرير سياسات الصحف وتقييد الصحفيين. وهكذا، فقد شهد أواخر عهد السادات قمعًا متزايدًا للصحفيين توجته أزمة سبتمبر 1981 والتي أدت إلى الزج بالعشرات من الصحفيين والمعارضين السياسيين داخل السجون.

في سياق هذه الخلفية من التوتر، جاء مبارك إلى الحكم بعد اغتيال السادات. جاء مبارك بمحاولة لاستيعاب واحتواء هذه القوى المختلفة ولتهدئة الأجواء، وقد استخدم في ذلك عدد من الأدوات من ضمنها إعطاء ضوء أخضر للصحف المغلقة والصحفيين المستبعدين بالعودة للصدور وممارسة النشاط. انتهج مبارك إذن سياسة جديدة تهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام المعارضين غير المهددين له (مثل اليسار، الأحزاب، الخ..). ومن ناحية أخرى، ضرب نظام مبارك الحركة الإسلامية بعنف وهو ما يظهر على سبيل المثال في درجة التعذيب الوحشية وغير المسبوقة البساط من تحت أقدام المعارضين كان من آلياته السماح بدرجة بسيطة من الحرية للصحافة والصحفيين، والتي كان من أمثلتها ظهور صحف حزبية جديدة أو عودة صحف قديمة للظهور (مثل جريدة الأهالي).

ثم مع بداية التسعينات والتسارع الشديد في تطبيق السياسات الرأسمالية الهادفة لسيادة اقتصاد السوق والخصخصة، وفي هذا السياق الذي برز فيه الرأسماليون المصريون وتزايد نفوذهم بشكل واضح، بدأ ظهور نوعية مختلفة من الصحف. فهذه الطبقة الصاعدة أصبحت بحاجة لأداة تعبر من خلالها عن مصالحها واحتياجاتها، ومن هنا برزت الصحف المستقلة لأداء هذه المهمة. وهكذا، نجد أن عهد مبارك شهد ظهور العديد من الصحف الحزبية والمستقلة وهامش أعلى من الحرية لهذه الصحف المدافعة عن مصالح الرأسماليين، وهو ما جعل الدولة تمطرنا بدعايتها عن حرية الصحافة التي تدعي أنها شهدت طفرة غير مسبوقة في عهد مبارك. لكن تعالوا بنا لنرى مدى وقاحة وأكاذيب هذه الدعاية في ضوء أحداث الواقع.

الدولة وأكذوبة حرية الصحافة

يمثل تعامل الدولة مع الصحافة والصحفيين نموذجا ناصعًا لكذب وقمعية هذه الدولة. فالدعاية المفضلة للأبواق الحكومية والتي تطاردنا ليل نهار في كل مكان هي مدى ديمقراطية مبارك ونظامه، متخذين من الصحافة وحريتها برهانًا على مسلحة الديمقراطية والسماحة التي يتمتع بها المصريون في هذا العهد. صفاقة وكذب هذه الدعاية تظهر واضحة كالشمس إذا نظرنا لبعض الحقائق والأرقام.

فالصحافة المصرية تحكمها حاليًا شبكة متكاملة من القوانين المقيدة للحريات. أولاً قانون العقوبات وتعديلاته، حيث تجرم أغلب مواده حرية الرأي والتعبير وتفرض قيودًا مانعة على تداول المعومات. كما يتم توصيف هذه الجرائم من خلال عبارات مطاطة غير محددة المعالم من الممكن أن تفسر بمختلف التفسيرات. ثاني القوانين المقيدة للصحافة هو قانون سلطة الصحافة رقم 148 لسنة 1980 ولائحته التنفيذية، وهذا القانون يقيد حرية إصدار الصحف. ثالثًا، هناك قانون المخابرات أو قانون الإجراءات الجنائية، وهو القانون رقم 113 لسنة 1956 والذي يحظر نشر أي أخبار عن القوات المسلحة والمعدل بالقانون 14 لسنة 1967. ثم أخيرًا هناك قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996 والذي تشدد في تطبيق عقوبة الحبس للصحفيين في قضايا النشر. وإذا كانت هذه هي القوانين التي تحكم الصحافة في الوقت الحالي، فإننا لا يمكن أن نتجاهل القانون 93 لسنة 1995 والذي كان نقطة فاصلة في علاقة الدولة بالصحافة بل يمكن أن تلقي لنا ملابسات إصداره الضوء على كيفية تعامل الدولة مع الصحافة والصحفيين.

على هذا شهد أشكالاً مختلفة من الحصار لحرية الصحافة والصحفيين تبدأ من تعرض الصحفيين لحملات قبض واعتقال وإحالة للمحاكم العسكرية، وتتضمن إغلاق ومصادرة الصحف. فعلى سبيل المثال في سنة 1991 وبسبب معارضة التدخل العسكري الدولي ضد العراق قدم اثنان من رؤساء تحرير الصحف المعارضة واثنان من صحفييها إلى التحقق أمام النيابة العسكرية، كما ألقي القبض على العديد من الكتاب والصحفيين. وبسبب إصدارهم لكتاب بعنوان لماذا نقول لا بمناسبة الاستفتاء على رئاسة الجمهورية لفترة ثالثة، احتجز عدد من الصحفيين بجريدة الشعب ووجهت لهم اتهامات عديدة من بينها إهانة رئيس الجمهورية والترويج لأفكار الجماعات المتطرفة ونشر أفكار تضر بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي إلى غير ذلك. وبالطبع غنى عن القول أن الكتاب قد تمت مصادرته.

وهكذا، ففي عهد مبارك “الذي لم يقصف فيه قلم”، على حد تعبير أبواق دعاية النظام، تعرض الصحفيين للاعتقال وتعرضت الصحف أيضًا للإغلاق والمصادرة. فعلى سبيل المثال، تم التحفظ على عدد جريدة الأهالي الذي صدر أبان تجديد انتخاب مبارك لفترة رئاسة ثانية بدعوى أن الصحفية قد نشرت خبرًا يتعلق بتنظيم ثورة مصر المحظور النشر فيه وقتها. كذلك وفي أغسطس 1988، تمت مصادرة العدد 107 من جريدة صوت العرب لسان حال الناصريين قبل السماح لهم بتشكيل الحزب الناصري، ثم تم وقف إصدار الجريدة نهائيًا. تعرضت أيضًا جريدة مصر الفتاة لسان حال مصر الفتاة للإغلاق وتبع ذلك إغلاق الحزب نفسه بعد افتعال خلافات على رئاسته.

درجة القمعية لحرية الصحافة تتزايد بالتأكيد في حالة الصحف الحزبية وهو ما يلقي الضوء على كذب النظام فيما يتعلق بالتعددية الحزبية والحربة الممنوحة لهذه الأحزاب. فالصحفيون في الصحف الحزبية المعارضة كما توضح الأمثلة السابقة هم الأكثر تعرضًا للتحرشات الأمنية ولانتهاك حريتهم في التعبير (وذلك بالرغم من انتهازيتهم ودفاعهم عن مبارك)، والصحف الحزبية أيضًا هي أكثر الصحف تعرضًا للمصادرة والإغلاق. فعندما يتعلق الأمر بالتعبئة السياسية المباشرة ضد النظام وأهم رموزه، تتوارى تمامًا رطانة حرية الصحافة والحق في التعبير ليظهر الوجه القمعي للنظام وتظهر التهم المطاطة من نوعية تهديد السلام الاجتماعي ونشر أفكار هدامة. وكلها في الحقيقة تعبر عن معنى واحد من وجهة نظر الدولة وهي تهديد النظام وتعبئة الجماهير وهذه بالطبع هي الخطيئة الكبرى التي لا يمكن السماح بها. ومن هذا المنطلق، نجد أن التشريعات الحاكمة لإصدار هذه الصحف تحتوي على قيود هائلة. فلقد منح قانون الأحزاب للجنة الأحزاب الحق في إيقاف إصدار الصحف الحزبية. ثم جاءت توصيات المجلس الأعلى للصحافة المعتمدة في أكتوبر 1994 لتعطي صلاحيات إضافية للجنة شئون الأحزاب تتيح لهذه اللجنة تتبع الصحف الحزبية لتقييم مدى التزامها ببرامج أحزابها. وهكذا نجد أن سيف التوقف والمصادرة يسلط على رقاب الصحف الحزبية في أي وقت تتجاوز فيه الخطوط الحمراء وذلك بدعوى خروجها عن التوجهات المعلنة لأحزابها.

ولا تتوقف انتهاكات حرية الصحافة على حبس الصحفيين ومصادرة وإغلاق الصحف، بل تتعداهما إلى وضع قيود شديدة على حق إصدار الصحف ذاته. فبعد السماح للشركات المساهمة الصحفية بتأسيس الصحف، وبسبب تزايد الطلبات التي قدمت لتأسيس صحف بموجب هذا الحق قامت الحكومة بتعديل المادة 17 من قانون الشركات المساهمة في يناير 1997 وأصدرت القانون رقم 5 لسنة 1998. هذا القانون يعطي لمجلس الوزراء الحق في رفض الترخيص للشركات المساهمة الصحفية وشركات الأقمار الصناعية، مع عدم جواز الطعن القضائي على قرار رفض الترخيص. وهكذا تمنح الدولة حقًا بيد وتملاً الدنيا صخبًا وصياحًا متباهية بهذا الحق الذي منحته لكنها تفرض باليد الأخرى القيود على هذا الحق المزعوم لتضمن السيطرة التامة.

حرية الصحافة والتراكم:

القسم السابق يكشف بوضوح كذب الدعاية الحكومية عن أزهى عصور الحرية الصحفية الذي نعيشه الآن. فلا يمكن لمن ينظر لحالة الصحافة المصرية أن يصدق هذه الدعاية الوقحة إلا إذا كانت الحرية تعني الاعتقالات والمصادرات. ولكن هذا الملمح الجوهري من ملامح وضعية الصحافة في مصر يقابله عنصر آخر يعد من العناصر التي تميز وضع الصحافة في مصر يقابله عنصر أخر يعد من العناصر التي تميز وضع الصحافة عن العهود السابقة. فعلى الرغم من القيود المفروضة على الصحافة والصحفيين والتي لا يمكن إنكارها، إلا أننا في نفس الوقت لا نستطيع تجاهل المساحات المسموح بها للانتقاد والهجوم والتي تطالعنا عند قراءة الصحف سواء القومية أو الحزبية وهو ما يعني أن هناك هامش ضئيل من الحرية رغم كل القيود المفروضة. فالصحف المصرية تشن حملات تتضمن هجومًا مباشرًا وسخرية من هؤلاء المسئولين وأدائهم. فمثلاً يثار في الصحف بشكل مستمر هجوم شديد على مجلس الشعب وأعضائه والفساد المستشري داخل هذا الكيان، ولا يواجه هؤلاء الصحفيين المهاجمين أي تحرشات أو مطاردات حكومية. فلماذا يوجد هذا الهامش المحدود والشكلي من الحرية؟ ولماذا لا تقيد الصحافة وبدرجة مطلقة؟

حتى نجيب على هذه الأسئلة لا بد أن نوضح حقيقة أساسية، وهي أنه يوجد منطق معين يحكم تعامل السلطة مع الصحافة والحريات. فكغيرها من القضايا تخضع الصحافة وحريتها لهدف أساسي هو مصلحة الرأسمالية والتراكم الرأسمالي. ففي إطار سعيه لدفع الرأسمالية المصرية إلى الأمام بخطوات واسعة كان على نظام مبارك، ليس فقط القيام بإصلاحات اقتصادية، ولكن أيضًا محاولة إعطاء الإيحاء للجماهير المستغلة بأن هذا النظام الاقتصادي الحر الذي يشجعه والذي يضاعف من إفقارها مقترن بوجود حريات على الأصعدة الأخرى وخاصة الصحافة. من المفيد لمبارك ونظامه أيضًا أن تعتقد الجماهير أن الصحافة تمثل متنفسًا للتعبير عن مشاكلها وعن غضبها المكتوم من الاستغلال الذي تتعرض له طالما بقي هذا التنفيس في الحدود (الليبرالية) المعقولة الذي لا يؤدي لأي تعبئة جماهيرية حقيقية. فهذا الهامش مفيد لتسريب الغضب المكتوم بدلاً من أن يتحول لفعل عنيف ضد هذا النظام المستغل. من ناحية أخرى، وهذا هو الأمر الأهم، فإن الطبقة الرأسمالية المتنامية في مصر أصبحت تحتاج لقنوات للتعبير عن نفسها كقوة ونفوذ وأيضًا للدفاع عن مصالحها. فالصحافة في وقاع الأمر هي أداة من أدوات التعبير للقوى السياسية المعرقلة للتطور الرأسمالي، فنجد الصحف تمتلئ بانتقادات لمسئولين في الدولة وللبيروقراطية المصرية والروتين طالما يقفا عائقا في طريق رجال الأعمال.

ولكن لا يمكن أن نتجاهل أيضًا أن حدود هذه الحرية تتمثل فقط في مصلحة التراكم والاستقرار المطلوب من أجل تحقيق هذا التراكم. فالصحافة تعلب – كما هو معروف وكما يدرك مبارك وطبقته الحاكمة جيدًا – دورًا تعبويًا جوهريًا يمكن أن يحرض الجماهير ضد مبارك ونظامه. ومن هذا المنطلق يولي هذا النظام للصحافة أهمية كبرى، فمن غير المسموح أن يمتد هامش الحرية ليسمح للصحافة بتعبئة الجماهير ضد النظام وضد بعض رموزه الأساسية، وعلى رأسها بالطبع حسني مبارك. تقف الطبقة الحاكمة المصرية بأجنحتها المختلفة ضد أي مساحة تسمح للصحافة بالقيام بالتعبير عن المصالح الحقيقية لطبقة المقهورين والمستغلين وتعبئة هذه الطبقة ضد النظام الرأسمالي وضد كل ما من شأنه أن يهدد استقرار النظام. على ضوء ذلك يمكن مثلاً أن نفهم إغلاق الدولة لصحفية الدستور المستقلة. فبسبب نشر بيان الإسلاميين هدد ساويرس بنقل نشاطه وسحب استثماراته الضخمة إلى الخارج؛ ومن الناحية الأخرى فإن نشر مثل هذه البيانات يهدد مناخ الاستقرار الضروري لجذب الاستثمارات الأجنبية. من هنا وبسبب الآثار السلبية على الاستثمار كان التنكيل بالدستور عقابًا لهم ولردع أي حادثة مماثلة من غيرهم في المستقبل. فعندما يتعلق الأمر بمصلحة رأس المال لا يمكن أن تتهاون حكومة مبارك.

لا يمكن أن نفهم تعامل الدول مع الصحافة أيضًا بدون الانتباه لنقطة هامة أخرى وهي توازنات القوى داخل الطبقة الحاكمة نفسها. فكما هو معروف هناك أجنحة داخل الطبقة الحاكمة تتمتع بنفوذ أعلى من أجنحة أخرى وهناك صراعات بين هذه الأجنحة وبعضها البعض. فعلى سبيل المثال يمكن أن تكون القمعية الشديدة والتنكيل اللذان تعاملت بها السلطة مع جريدة الدستور ومن يصدرونها نابعة من درجة النفوذ الكبيرة التي يمتلكها ساويرس داخل الطبقة الحاكمة. أيضًا تطور قضية صحفيي جريدة الشعب مع يوسف والي إلى حد صدور أحكام بالحبس ينبع من نفوذ والي وعلاقاته الواسعة مع دول مثل أمريكا وإسرائيل التي حققت للدولة مبالغ طائلة إلى جانب استثمارات مهولة في قطاع الزراعة.

أما إذا بدأت الصحافة تتحول لأداة من أدوات الصراع داخل الطبقة الحاكمة، فالسلطة تواجه هذا الأمر أيضًا بالقمع. فمثلاً جاء القرار بإغلاق الصحف التي تصدر في المحافظات المختلفة لأنها بدأت تتحول لساحة للصراع والتنافس بين رجال الأعمال في هذه المحافظات.

خاتمة

مما سبق، نستطيع فهم سعي الدولة لإصدار القانون 93 لسنة 1995. ففي الفترة التي سبقت صدور هذا القانون تخطت الصحافة الخطوط الحمراء وامتلأت صفحاتها بالحديث عن التحالف بين بعض كبار رجال الأعمال وأبناء حسني مبارك، والفساد داخل الطبقة الحاكمة واستغلال بعض أولاد المسئولين لنفوذ آبائهم. هذه الحملات تجاوزت كل الحدود المسموح بها وأصبحت تمثل تهديدًا للمصالح الرأسمالية المباشرة لدورها السلبي – من وجهة نظر هذه المصالح – في هروب المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية من الاستثمار في مصر في ظل هذا الجو غير المستقر والذي لا توجد فيه منافسة رأسمالية حرة، حيث يقف النفوذ السياسي داعمًا للبعض من رجال الأعمال وهو ما يتناقض مع قواعد التنافس الرأسمالي. وهكذا أصبحت الصحافة والصحفيين خطرًا يجب إيقافه والسيطرة عليه بدعوى انتهاك الصحافة للحياة الشخصية للشخصيات العامة وتشهيرها بالأبرياء. هذه الادعاءات نفسها ساندها بعض الصحفيين الذين توجد فيما بينهم نفس الانقسامات والمصالح الرأسمالية الموجودة داخل الطبقة الحاكمة. على الجانب الآخر، جاء إصدار هذا القانون في فترة تصاعد المواجهة بين الدولة والإسلاميين والتي شهدت تزايدًا ملحوظًا في قمعية الدولة لوقف هجوم الإسلاميين الذي بدأ يمثل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الرأسمالية. في هذا السياق كان من الطبيعي أن تشدد الدولة قبضتها وتتشدد في مواجهة أي معارضة من شأنها أن تمثل إزعاجًا وتهديدًا إضافيًا للمصالح الاستثمارية.

صدور القانون 93 إذن كان ضرورة ملحة من وجهة نظر الدولة التي أرهقها صراعها مع الإسلاميين والتي بدأت في تمتين آلة القمع وتقليل هامش الحرية لو أد أي معارضة محتملة في هذه المرحلة التي تحتاج فيها للتركيز في صراعها مع الإسلاميين وعدم فتح جبهات إضافية للصراع. على الجانب الآخر، كان هذا القانون استجابة من الدولة لمطالب واحتياجات رجال الأعمال والمستثمرين الذين عانوا من عدم الاستقرار الناتج عن الصدام بين الإسلاميين والدولة.

ولكن في ظل المعارضة الشديدة التي وجهها أغلب الصحفيين وحتى لا يفقد النظام الصورة الديمقراطية الزائفة تم إسقاط القانون 93 واستبداله بالقانون رقم 96 لسنة 1996 والذي يمثل في الحقيقة التفافًا حول القانون 93 لأداء نفس المهمة.

لقد أثبت الواقع العملي أن حرية الصحافة والصحفيين في مصر هي مجرد وهم كبير. فعلى مدار العهود المختلفة أدركت السلطة الدول الذي يمكن أن تلعبه الصحافة في تعبئة الجماهير وفي التعبير عن مختلف القوى السياسية. هذا الدور الخطير والمؤثر هو بالضبط الدافع وراء الاهتمام الكبير الذي توليه لها السلطة. فالتعامل مع الصحافة بميزان دقيق يضع مصلحة رأس المال واستقرار النظام في المقدمة هو البوصلة التي ترشد السلطة في علاقتها بالصحافة. ومن هذا المنطلق محكومة بهذا الميزان وستظل مكبلة بمختلف الأشكال والأنواع من القيود. الصحافة الحرة الحقيقة لا يمكن تواجدها سوى في مجتمع تضغط فيه الجماهير من أسفل على النظام من أجل انتزاع هذه الحرية بالقوة في أثناء نضالها تجاه تحررها الكامل من مجتمع رأس المال.