بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رياح 77 تهب من جديد

الاحتفال بانتفاضة يناير 1977 يأتي هذا العام في ظل ظرف مختلف. فقد شهد العام الماضي أكبر حركة جماهيرية منذ 1977، وتشير كافة الدلائل إلى أننا بصدد تصاعد في الحركة الجماهيرية خلال العام الجديد. فالبداية كانت رفع سعر المازوت، والحديث لا يتوقف عن نية الحكومة اتخاذ المزيد من الإجراءات لرفع الأسعار، ومن ثم قد لا يكون مستبعداً أن يشهد هذا العام أحداثاً جسام. لذلك فاستعادة ذكرى الاتنفاضة والوقوف على الدروس التي تقدمها يصبح أمراً شديد الأهمية إذا كنا نرغب في حدوث تغيير حقيقي.

بداية الانتفاضة
بدأ الأمر بخطاب نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية، الدكتور عبد المنعم القيسوني، أمام مجلس الشعب 17/1 بمناسبة تقديم مشروع الميزانية عن 1977 حيث أعلن إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، ومنها تخفيض الدعم للحاجات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50 % والسكر 25 % والشاي 35 % وأنابيب البوتاجاز 50 %، وكذلك بعض السلع الأخرى ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر. وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة. وقد بدأ التنفيذ الفعلي في نفس اليوم، أي قبل الإعلان أمام مجلس الشعب، فرفع التجار وبعض المحلات أسعار المواد الغذائية، وكذلك فعلت المطاعم الصغيرة على الفور، فأحست الجماهير بالكارثة مباشرة فضلاً عن إذاعة الخبر في الراديو والتلفزيون. فقامت تجمعات جماهيرية وعمالية، في بعض أحياء الإسكندرية والقاهرة ومنطقة حلوان الصناعية خاصة، منذ مساء يوم 17/1 وتوقفت المواصلات بين حلوان القاهرة في نفس الوقت.

لكن المظاهرات اندلعت بصورة هائلة من صباح يوم 18/1 عندما فوجئ الناس بشكل ملموس بالسعر المضاعف للرغيف. وكان عمال حلوان هم الذين بدءوا التحرك. فقبل الساعة التاسعة صباحًا، خرج عمال شركة مصر / حلوان للغزل والنسيج في مظاهرة طافت الضاحية الصناعية، وانضم إليهم عمال مصانع أخرى ومنها المصانع الحربية. وكانت الهتافات موجهة ضد زيادة الأسعار ومنادية بسقوط الحكومة وتحمل عداءً صريحا للسادات وعائلته. وقامت قوات الشرطة بمحاولة عزل منطقة حلوان عن القاهرة لمنع العمال من النزول إلى العاصمة، في نفس الوقت الذي وضع فيه العمال الحواجز على قضبان القطار وعلى الطرق لمنع وصول قوات الأمن. وأُلقيت الحجارة على السيارات التي رفضت تهدئة السير. ووصلت مظاهرة العمال إلى القاهرة فتشكلت بهم وبغيرهم مظاهرات أخرى في الأحياء الشعبية، كما انضم بعضهم إلى مظاهرة لطلبة جامعة عين شمس. وفي شبرا الخيمة المنطقة الصناعية العريقة بتاريخها النضالي، أضرب العمال واعتصموا في بعض المصانع فتوقف الإنتاج.

واجتمع طلبة هندسة عين شمس في مؤتمر يندد برفع الأسعار، ثم خرجوا في مظاهرة انضم إليها طلبة من الكليات الأخرى واتجهوا نحو مجلس الشعب لتقديم احتجاج على قرارات القيسوني. أثناء مرورهم بشارع الجيش انضم إلى المظاهرة نساء الأحياء الشعبية وفي ميدان التحرير انضم إليهم موظفون وطلبة جامعة القاهرة. وتلاقت المظاهرة الواحدة بالأخرى وذهبت هذه الكتل في معظمها إلى مجلس الشعب، مرددة هتافات عدائية للحكومة والنظام، ودخل وفد من الطلبة إلى رئاسة المجلس لتقديم المطالب. وعندما غاب الوفد، تصدرت النساء وحاولن الهجوم على حرس المجلس ظناً منهن أن أفراد الوفد قد اعتقلوا، فقام البوليس بتفريق المظاهرة، وتشتتت في مجموعة من المظاهرات في الأحياء المجاورة.

الانتفاضة والعنف
قال بعض الصحفيين إن المظاهرات كانت سلمية تمامًا حتى الساعة السابعة حيث اصطدمت بها قوات البوليس بعد أن كانت شبه غائبة من قبل، وقوات الأمن المركزي أيضًا. إلا أنه في الواقع قد وقعت مصادمات قبل ذلك، فقد هاجم المتظاهرون بعض الأقسام مثل قسم شرطة الأزبكية بميدان العتبة، وحاولوا إشعال النار فيه، وكذلك قسم السيدة زينب، وقسم الدرب الأحمر. وجرت محاولات لاقتحام مبنى مديرية أمن القاهرة بباب الخلق وقُذِفَ قسم الساحل بالأحجار وتم تدمير عدد من الأتوبيسات وواجهات المحلات ومصابيح الشوارع. وحطم المتظاهرون صورة كبيرة للسادات في أحد الميادين المركزية، ورشقوا قوات الأمن المركزي بالحجارة، فألقيت عليهم القنابل المسيلة للدموع التي كانوا يجمعوها ويعيدوا إلقائها على الجنود. وكذلك جرى رشق مباني الجامعة الأمريكية الواقعة في ميدان التحرير بالحجارة، حيث كانت تمثل في أعين الكثيرين مركزاً للأغنياء. ومع ذلك، فبالفعل اشتدت المظاهرات عنفًا واتساعًا في المساء، حيث تدفقت عشرات الآلاف من سكان القاهرة الأشد فقرًا وعمت أعمال قذف السيارات الفاخرة بالحجارة. وفي الجيزة وإمبابة قُذِفَ مكتب البريد حيث يقف كبار السن لساعات طويلة لتحصيل معاشاتهم، كما وضعت المواسير بعرض الطرق لعرقلة المرور، وقذف المتظاهرون فندق شيراتون الفاخر بالأحجار، وحطموا إعلانات النيون البراقة عن السلع الكمالية التي لم يكن في استطاعة محدودي الدخل شرائها.

وفي الإسكندرية، بدأت المظاهرات بعمال الترسانة البحرية في صبيحة 18 يناير وكانت هذه المظاهرات أكثر حدة من غيرها نتيجة لشدة توتر الجو العمالي في ترسانة الإسكندرية، بسبب موجات الفصل التي طالت العديد من عمال تلك المنشأة الصناعية الكبيرة. وانضم إليهم عمال الشركات المجاورة، واتجهت المظاهرات إلى قصر الاتحاد الاشتراكي تهتف ضد الحكومة وتقذف قوات الشرطة والأمن بالحجارة. وانضم إليهم طلبة الجامعة. وحُطِمَت السيارات وعربات الترام والأتوبيسات وأُلقيت الأحجار على استراحتي رئيس الجمهورية ونائبه حسني مبارك واُقتُحَِمت نقط الشرطة وأُحرِقَت سينما أوديون ومباني لشركات كبرى ومجمعات استهلاكية حيث تتفشى المحسوبيات والرشاوى ولا يأخذ الفقير غير الرديء من السلع. كما حطمت المظاهرات واجهات محلات عديدة وأصيب 132 شخصًا بالأعيرة النارية.

واندلعت مثل هذه المظاهرات في مدن الأقاليم في المنصورة والمنيا وقنا والسويس وفاقوس وأسوان، حيث جرت الهجمات على مراكز الشرطة والأتوبيسات ومباني المصالح الحكومية ومحلات بيع السلع الكمالية، وفي أسوان، أحرقت أقواس النصر المخصصة لزيارة السادات بالمدينة.

وفي اليوم التالي اندلعت المظاهرات بشكل واسع وأعنف منذ الصباح حتى صارت العاصمة عند الظهر ميدان قتال تجوبه مظاهرات بعشرات الألوف. ففي حوالي الساعة الثامنة صباحًا، أضرب عمال الوردية وعمال مصنع 45 الحربي في حلوان عن العمل وخرجوا في مظاهرة وتوقفت المواصلات بين حلوان والقاهرة بسبب الأحجار التي وضعت على خطوط القطار. وتجمع عمال حلوان أمام محطة القطار المؤدي إلى المصانع ففرقتهم قوات الشرطة فتحولوا إلى مظاهرات عمالية، في الصباح أيضًا خرجت المظاهرات من مصانع “سوجات” بحدائق القبة. ثم قامت المظاهرات في جميع أنحاء المدينة، تهاجم المنشآت الحكومية وخاصة أقسام الشرطة ومديريات الأمن وغيرها. وهاجموا دار أخبار اليوم وحرقوا كميات من ورق الطباعة، وحاولوا اقتحام بنك مصر فلم ينجحوا وأتلفوا 30 طن أسمنت مخصصة لعمليات كوبري رمسيس. وجرت مصادمات بين المتظاهرين ورجال الشرطة الذين أطلقوا النار على المتظاهرين لمنعهم من الاستيلاء على أسلحة الأقسام وكذلك اتجه هجومهم إلى الملاهي الليلية والفنادق الكبرى. وبعد الظهر تجمعت أعداد كبيرة من العمال وطلبة الجامعة في ميدان التحرير وتوجهوا إلى مجلس الشعب حيث رفضوا أوامر البوليس بالتفرق وجرت مظاهرات مماثلة في العتبة والسيدة زينب والدرب الأحمر وأحياء أخرى عديدة، وأطلقت قوات الأمن المركزي الرصاص على مظاهرة في حي الأزهر فقتلت صبيًا. وفي إمبابة تظاهر عمال مصنع الشوربجي وشركة الشرق وقذفوا مركز إمبابة فأطلق البوليس عليهم النار فوضعوا العوائق على السكة الحديدية في المنطقة وأشعلوا النار في أحد القطارات.

وشهدت الجيزة أيضًا معارك مماثلة بين الجماهير والأمن المركزي وهاجموا أقسام الشرطة والمصالح الحكومية وأشعلوا النيران في بعض سيارات الشرطة. وفي هذه الصدامات استخدمت الشرطة كميات كبيرة من القنابل المسيلة للدموع والأعيرة النارية. ودارت أحداث مماثلة في الأقاليم ففي السويس اقتحم المتظاهرون مخزن السلام في قسم الشرطة وأخذوا يطلقون النار أما في المنصورة فأخرجوا أثاث منزل المحافظ وأحرقوه. وشهدت قنا والمنيا وأسوان وأغلب المدن المصرية الأخرى أحداثًا مشابهة.

وروى أحد شهود العيان حادثة شخصية تعبر عن روح الجماهير التي خرجت تواجه السلطة وتحطم رموزها فعندما كان مارًا على كوبري قصر النيل ورأى شباب يحرقون السيارات قال لأحدهم إنك تحرق بلدك؟ فرد عليه الشاب: إنها ليست بلدي، إنها بلد الآخرين.

وفي الساعة الثانية والنصف يوم 19/1 أذاعت الحكومة قرارها بإلغاء رفع الأسعار، فهدأت بعض المناطق في حين أن بعض الأحياء استمرت تقاتل حتى ساعة متأخرة من الليل وفجر يوم 20، في صدامات مع قوات المشاة العسكرية التي نزلت بعد إعلان حظر التجول الساعة الرابعة بعد ظهر 19/1 في القاهرة والجيزة والإسكندرية والسويس، ووقفت الدبابات أمام منزل السادات. وقد أشعل المتظاهرون النار في مقر الاتحاد الاشتراكي بميدان التحرير في الليل وبقيت حرائق صغيرة مشتعلة بالقرب من مجلس الشعب.

وكانت هناك إشارات متفرقة عن تردد في صفوف جنود الشرطة في قمع المظاهرات حيث أن زيادة الأسعار تصيبهم أيضًا. كما كانت هناك إشارات عن امتعاض قوات الجيش الموجودة حول القاهرة لقمع الجماهير، مما اضطر الحكومة إلى سحب تشكيلات الجيش المرابط في الجبهة مع إسرائيل. ولكن رغم ذلك، لم تتوقف الانتفاضة سوى مع إعلان الحكومة التراجع عن إجراءات رفع الأسعار.

دور اليسار
أما عن دور اليسار وموقفه من حركة الجماهير، فبالرغم من اشتراك بعض العناصر اليسارية بشكل فردي في الحركة إلا أن الأحزاب اليسارية لم تلعب أي دور مؤثر نتيجة لعزلتها عن الطبقة العاملة، فراحت معظم هذه الأحزاب تنتقد عدم الوعي لدى الجماهير والعنف الذي صاحب الاحتجاجات. أما عن موقف التنظيمات الشيوعية السرية في ذلك الوقت فقد ظهر بوضوح تأثير افتقار هذه التنظيمات، حتى الجذرية منها، لاستراتيجية ثورية تهدف إلى القضاء على النظام الرأسمالي عن طريق الثورة الاشتراكية، وأيضًا العزلة الشديدة لهذه المنظمات عن الطبقة العاملة. والأكثر من ذلك، إن أزمة اليسار المصري في 77 لم تكن فقط في رؤاه المحافظة أو اليمينية التي تسربت إلى أسفل، وإنما أيضا في مفهومه الانعزالي بشأن الحزب الثوري. فلقد تصور كثير من القادة اليساريين الراديكاليين أن شعارات تنظيم صغير يمكنها وحدها أن تُلهم حركة جماهيرية عريضة، فقط لأنها صحيحة. والنتيجة كانت أن من كانوا، لحد ما، أكثر جذرية بين اليسار، كانوا منعزلين بدرجة قلّصت تأثيرهم.

لذلك فلا شك أن 77 تقدم لنا درسا هاما، هو أهمية تواجد اليسار الجذري ذو الجذور في الأوساط العمالية (والطلابية). فبرغم أن الانتفاضة ليست فعلا خاصا للطبقة العاملة، وإنما تشارك فيها كتل عريضة من البرجوازية المتوسطة والصغيرة، إلا أن الجذور القوية في الأوساط العمالية تعطي للثوريين فرصة أكيدة للتأثير على الكتلة الحاسمة في الحركة، أي الطبقة العاملة. فلو أن بعض الجماهير العمالية رفعت، تحت قيادة تنظيم جذري شعار “إسقاط السلطة” بدلا من مجرد شعار “إسقاط القرارات الاقتصادية”، ولو أن تلك الجماهير ذاتها استخدمت عضلاتها الاقتصادية في الضغط، وفي تنظيم الانتفاضة، لتوفَر للحركة ليس فقط طول النفس، وهو عنصر مهم، وإنما أيضا القوة لقلب الموازين وشق الطبقة الحاكمة. ولو أن الحركة الطلابية، تحت تأثير الثوريين، التحمت بالحركة العمالية تحت شعار “إسقاط النظام”، لزادت فرصة تعميقها وإنضاجها.