شهداء أكتوبر يعودون هذا الأسبوع
الشهداء يعودون هذا الأسبوع، عنوان قصة للكاتب الجزائري الطاهر وطار، تسائل خلالها المؤلف: أين ذهبت تضحيات أكثر من مليون شهيد في حرب تحرير الجزائر، حيث تدور القصة حول رسالة تصل إلى أب من أبنه، الذي استشهد في حرب التحرير، بعد مرور سنوات طويلة على استشهاده، يخبر فيها الابن والده أنه وكل الشهداء سيعودون هذا الأسبوع، ورغم عدم منطقية هذه الرسالة، لكن السياق الدرامي للقصة، يجعل القارئ يقتنع بالفعل أن الشهداء سيعودون خلال أسبوع.
يفضح وطار، من خلال القصة، كيف استفاد الانتهازيون والأقل إخلاصاً للقضية الوطنية من دم الشهداء، وحولوها إلى مكاسب خاصة، بعيدة كل البعد عن الآمال والطموحات، التي جعلت الشهداء يضحون بحياتهم في سبيلها.
لو تخيلنا للحظة أن شهداء حرب أكتوبر سيعودون هذا الأسبوع، ماذا سيكون الوضع عندئذ؟ من الواضح أنه من الصعب تخيل مثل هذا الموقف، لكن لو ذهبنا بخيالنا، لتوقعنا سيلاً من الأسئلة تنهمر علينا من هؤلاء الشهداء، ومن المؤكد أن السؤال الأساسي سيكون ماذا فعل أبناؤهم وإخوانهم بتضحياتهم، وببطولاتهم؟ ولكن صعوبة الموقف ستكمن في الإجابة، هل سنجيب بصدق وصراحة؟
الجنون سيد الموقف
كيف يمكن لأبن أن يقول لأبوه الشهيد أن سيناء التي ضحيت من أجلها مازالت منقوصة السيادة، لا يمكن زيادة القوات المصرية فيها إلا بموافقة العدو الصهيوني والأمريكي؟ كذلك من الصعب تخيل كيف سينظر أخ في عين أخيه الشهيد ليقول له أننا مجبرون على تصدير البترول لإسرائيل، وفق شروط إذعان تسمى اتفاقية السلام، هل ستأتي الجراءة لأحد لأن يقول لأبه أو أخوه الشهيد أن القوات المصرية هي التي تتكفل بحماية الحدود الغربية لإسرائيل، وأنها هي التي تمنع أي دعم للمقاومة الفلسطينية، وتشدد الحصار على أهل غزة لصالح العدو الصهيوني.
وأنت هل تجرأ أن تقول لشهيد أن دمك بلا ثمن، أنك ضحيت من أجل وطن مستقل وحر، لكننا مازلنا عبيد الإدارة الأمريكية والإسرائيلية؟ هذا الشهيد الذي كان يحلم قبل وأثناء المعارك بمستقبل أفضل لأبنائه وأحفاده، وربما كان هذا أهم دافع ومحرك له أثناء القتال.
أي حسرة ستصيب قلبه لو عرف أن الفقر والجهل والمرض، كان من نصيب أبنائه، وأبناء كل زملائه الجنود الفقراء، و أن شريحة من السماسرة، وتجار العملة، وتجار الشنطة، ظهروا بعد الحرب ليحصدوا كل شيء.
من المتوقع أن يصاب الشهيد بالذهول، وربما الجنون، عندما يخبره أحد أن كل الثوابت، التي كان يسمعها في الإذاعة، أو يقرأها في الصحف، لم تعد كذلك، فالاشتراكية كذبة، القضاء على الإقطاع وهم، حيث يطرد اليوم الفلاحين من أراضيهم لتعود لأسرة السيد الإقطاعي المبجل، ماذا لو كان الشهيد، الذي نحاوره، هو أخو نفيسة مراكبي، الفلاحة المصرية، التي استشهدت دافعاً عن أرضها، هل من أجل هذا سالت دماؤه؟
إن الجنون واللا عقل هو سيد الموقف، اليوم في أكتوبر 2009، ماذا سيحدث لو شاهد الشهيد الإعلام المصري، الذي يتحدث ليل نهار عن الخطر الإيراني، ويبشر بالسلام الإسرائيلي، في الوقت الذي يصف حسن نصر الله بالمغامر، ويصف المقاومة الفلسطينية واللبنانية بأنها غير مسئولة، وأنها لا تأتي إلا بالخراب على الشعوب. أي صاعقة ستقع عليه عندما يسمع مقولات “العرب جرب”، “أو ما لنا والقضية الفلسطينية”، وهو الذي تعلم أنه وحدة الشعوب هي الطريق الوحيد أمام المضطهدين للتحرر من القوى الاستعمارية.
هل سنسمح للشهداء بالسير في الشوارع، ماذا لو رأى شهيد علم الكيان الصهيوني الغاصب يرفرف على كورنيش النيل، فوق كوبري الجامعة، ماذا لو رأى أحد أبناءه جالساً يتسول من المارة؟ وربما ما هو أسوا إذا علم أن أحد بناته قد بيعت لأحد أمراء الخليج. عندها ستفضح فصول المأساة، التي نعيشها ليل نهار، كأننا بلا ذاكرة، أو عقل.
الواقعية السياسية
يجب التوقف عن الاسترسال في تلك التساؤلات الافتراضية، هكذا قد يصرخ شخص ما، قائلاً هذا الكلام ليس له ما يبرره في الواقع، أن الحديث السابق مجرد خيال أدبي، لا يمت بالواقعية السياسية في شيء، حيث توجد مبررات للمسار الذي أخذه التاريخ المصري، لم يكن في الإمكان أحسن مما كان، وأي حديث حول تضحيات شهداء يستند لمنظور أحادي الجانب، والحقيقة لها جوانب عدة. هذا الكلام السابق مجرد خيال أدبي، هناك حقيقة هي أن الشهداء لن يعودوا، لا هذا الأسبوع ولا في أي أسبوع قادم. لذا يترتب على ذلك نسيان كل ما سبق طرحه من أسئلة.
هكذا يطالب البعض نسيان الماضي، تحت ذريعة الواقعية السياسية، نعم الشهداء لن يعودوا، لكن المأساة الملهاة قائمة، لا يمكن لأي ذي عقل أن يتجاهلها، من الواضح أن نسيان تلك الأسئلة الصعبة مطلب من هو مستفيد أو على الأقل غير متضرر من الوضع القائم، من يتحدث عن الواقعية السياسة، وهو يقصد الرضوخ لسياسات الأمر الواقع، التي تفرضها علينا عصابة رأس المال المتحالفة مع أمريكا وإسرائيل، لابد أن ننسى حتى يتمكنوا من المزيد من النهب، والسرقة، لابد أن نعيش بلا ذاكرة أو عقل، حيث مطلوب فحسب قوى بدنية لإدارة المصانع و لزرع وجني الأرض، وقوى أمن لضرب أي مشاغب أو معارض، أما الإنسان ذو العقل ذو التاريخ فهذا سيوضع في المتحف، وسيتفرج عليه الناس كأحد الحفريات المنقرضة.
ما طرحه الطاهر وطار عن شهداء الجزائر ونطرحه اليوم عن شهداء أكتوبر وغيرها من الحروب، يجعلنا نتساءل عن معنى الوطن والانتماء له، حيث دائماً هناك من يستطيع أن يوظف تضحيات الفقراء وآمالهم لمصالحه الخاصة، دائماً هناك من هو قادر على سرقة الأحلام، وتحويلها إلى كوابيس، تصوير الأبيض أسود، حيث العداء مع إسرائيل مجرد حاجز نفسي، حيث المقاومة أعمال عنف وإرهاب يجب أن يستنكر، حيث العدو الأمريكي حليف استراتيجي.
هنالك من يريد منا نسيان دماء الشهداء التي سالت فوق رمال سيناء، لكننا لن ننسى، لأننا ببساطة بشر، لنا عقل، وذاكرة، وأحلام، وآمال، وطموحات، نعيش، ونناضل، ويمكن أن نموت في سبيلها، كما فعل هؤلاء الشهداء، لكن يجب أن نفهم الدرس جيداً، حتى لا تسرق عصابة رأس المال، كعادتها، أحلامنا وآمالنا نحن الكادحون.