كلاكيت ثالث مرة
شارع الثورة.. وشهدائها

في 19 نوفمبر 2011 بدأت ملحمة محمد محمود.. لم تكن هي المعركة الشعبية الأولى بين الثوار وقوات النظام من داخلية وجيش، لكنها كانت وقتها حدثا حاسما وفاصلا في كثير من الأمور.
عقب جمعة “المطلب الواحد” 18 نوفمبر2011، والتي رفعت شعار تسليم السلطة من العسكر لسلطة مدنية، اقتحمت الداخلية الميدان في صبيحة السبت وضربت وأصابت واعتقلت المعتصمين ومعظمهم من مصابي الثورة، لكن رد الفعل جاء أقوى وأسرع مما اعتقدت قوات النظام العسكري، حيث امتلأ الميدان بالثوار، وهو السيناريو الذي تكرر مرارا فيما بعد.
كانت المعركة معركة فرز حقيقي بين الثوار، وبين القوى التي تدعي الثورية والتي تريد الاحتفاظ بأية مكاسب بجوار “السادة الحكام الجدد” أي المجلس العسكري عدو الثورة رقم واحد.
مئات القتلى والمصابين، ومئات المعتقلين، وكذلك المختفين (حتى الآن)، بالإضافة إلى فقأ عيون الكثير والكثير من الثوار بطلقات الخرطوش. وبالطبع استخدم النظام وإعلامه الموالي – حكومي وخاص وديني – دعاية قذرة ضد الثوار. وفي تلك الآونة وضع الإسلاميين رهانهم في كفة العسكر، ومن ورائهم الأحزاب الورقية التي تطمع في تناول فتات مأدبة العسكر والإسلاميين.
دماء سالت، وفي وسط الصخب، استشعر العسكر بخطورة موقفهم، فانسحبوا خطوات للوراء، ورضخوا مؤقتا لمطالب الثوار، لكن من الذي جنى ثمار ذلك؟ كما ذكرنا، كان قياديو الإسلاميين ومن ورائهم أحزاب مدنية لا تملك جذور شعبية، ممن هرولوا لقطف ثمار روتها دماء الثوار، وبالتالي كانت دعاياهم ضد الثوار، بعد اندلاع المواجهات مرة أخرى في الشهر التالي – أحداث مجلس الوزراء.
فقد بلغت انتهازية الإخوان والسلفيين ذروتها ببيع دماء الثوار والتشبث بأحضان العسكر، وبلغت وقاحتهم ذروتها عندما تصدر بعض من شبابهم صفوف الداخلية لمواجهة مسيرات الثوار التي طالبت بتسليم السلطة للبرلمان، والذي احتفظوا هم أنفسهم بالغالبية العظمى من مقاعده.
ويتكرر السيناريو أكثر من مرة: التظاهر ورفع مطالب ثورية ضد حكم العسكر، ثم محاولات الفض الوحشية، ثم اشتباكات طويلة، والمزيد والمزيد من الشهداء، وينتهي الوضع بدفعة للأمام ينال ثمارها كل من أدانوا عمل الثورا ووصفوه بالبلطجة، فتولد “محمد محمود الثانية” نوفمبر 2012، ويسقط جيكا أول شهيد في عهد مرسي، ذلك الذي أثبت للجميع، قولا وفعلا، وبسرعة غير متوقعة، أنه ذيل للعسكر، وأن سياساته لم تختلف عن نظام مبارك أو تلميذه طنطاوي. وهو أول مسمار في نعش نظام الإخوان.
لقد ظل الثوار، بإمكاناتهم المحدودة، قادرين على كبح تيار الثورة المضادة بزواج العسكر والإسلاميين، الذي انتهى هذه النهاية المأساوية. ولكن ظلت معركة الميادين بمعزل عن معركة المطالب الاجتماعية التي صعدت وهبطت في موجات، بالتبادل مع هبات الميادين، بينما ينفي أصحاب كل معركة وبقوة علاقته بالطرف الآخر، مرددا وعن دون قصد دعاية النظام القذرة.
ثم تأتي الذكرى هذا العام في ظروف تتشابه وتختلف مع المعركتين السابقتين (محمد محمود 2011، 2012) فالثابت أن هناك وقاحة وعداء في آداءات حكومة الببلاوي والرئيس الصامت عدلي منصور، الذين يحركهم السيسي كالدمى، يصاحب ذلك تراجع في حركة الشارع، وتحول قطاع عريض من الجمهور للتهليل للسيسي، ومباركة كل إجراءاته الدموية في قمع الإخوان، ذلك القمع الذي يطال الثوار وأي مطالب بتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، وتحول الإخوان إلى فزاعة لاتخاذ كل الإجراءات التعسفية والقمعية.
في الواقع، فقد اهتم كل خلفاء مبارك بأمر واحد، وهو استتباب الحكم وإحكام قبضتهم، ولم يحاولوا ولو محاولة لمعالجة الظروف الحقيقية التي أدت لانفجار الثورة، وقد روّجوا خلال ذلك لدعاية قذرة لتشويه الثورة (بلطجية، وطرف ثالث، وبقايا النظام، وحالياً طابور خامس إخواني).
ولكن، وليس على سبيل التفاؤل الحالم، يمكن أن نلمح احتمالات ومؤشرات لتكرار موجة جديدة من موجات الثورة المصرية تصعد هذه المرة تدريجيا، وربما ببطء. فالمطالب والأهداف الجماهيرية لاتزال كما هي لم تُنفذ وليس هناك أي سعي لتنفيذها، بل لوأدها وإسكات الأصوات (القليلة حاليا) المنادية بها. وعمق الثورة المصرية، وعمق الأزمة الاقتصادية يوفران أرضية تنمو عليها موجة جديدة من الثورة. وها هي الإضرابات العمالية بدأت في الصعود التدريجي، والنضالات الطلابية تنمو وتتسع شيئا فشيئا رغم القمع العنيف والتعامل الشرس من قبل قوات الداخلية والنظام.
في الذكرى الثانية للملحمة، يبقى “محمد محمود” رمزا لصمود الثورة الشعبية، مثله مثل ميدان التحرير، والأربعين (بالسويس) والشون (بالمحلة).. وغيرهم. لكن احتلال قوى الثورة المضادة لتلك الأماكن لا يعني أنهم قد اختطفوا الثورة للأبد، فالثورة انفجرت من وسط الجماهير، وهي الحقيقة التي تم تناسيها أو تجاهلها في ازدحام الأحداث، وستتصاعد من جديد من وسط تلك الجماهير أيضا، فما خرجوا من أجله “عيش – حرية – عدالة اجتماعية”، لم يتحقق، ولن يتحقق بانتظار فتات العسكر وأجهزة الدولة التي لا تفوّت أي فرصة من أجل الإجهاز على كافة مكتسبات الثورة.