سعار العيد
تتحدث القاهرة عما جرى في العيد كما طيرته الصحافة البديلة المستقلة.. المدونات والمجموعات البريدية. ولكن الدولة تمارس الإنكار من خلال جهازيها المعنيين بهذه الكارثة.. الداخلية والإعلام.
فالداخلية تؤكد أنها لم تتلق بلاغا من أية ضحية، وتستنتج من ذلك أن أحداث العيد.. لم تحدث! والإعلام الرسمي بالتالي لم يسلط الضوء على ما لا وجود له من وجهة نظر الداخلية!!
هو فيه إيه؟
هل هاجم فعلا مئات الشباب فتيات في وسط البلد فور رحيل الشهر الفضيل؟؟ وهل تحولوا لقطيع من الثيران الهائجة تردد أقذر الألفاظ قبيل مهاجمتهم الضحايا وفيهن المحجبة والمنقبة؟ وهل فعلا كانت الصورة بهذه الهستيريا الهمجية فامتزج العنف بالجنس بالسخرية الفجة في تحد للقيم الاجتماعية المحتضرة؟
يصف لنا الواقعة شهود من المدونين، والعاملين بمحلات بوسط البلد تمت استضافتهم على قناتي أوربت ودريم، والمارة، ومراكز حقوق الإنسان.. هناك اتفاق أهلي على المشهد الصادم، ولكن للداخلية تصور آخر ورطت فيه الإعلام الرسمي.. لم يحدث شيء شاذ.. مجرد مشاجرات ومعاكسات وزيارات فنانين لأفلامهم والتفاف الناس حولهم، والمدانون الوحيدون هم المدونون الذين تعقبوا الحقيقة فأدانتهم رموز الوزارتين المأزومتين!
الموضوع بيكبر
لم يبدأ الموضوع بالعيد وإنما كانت أحدث العيد ذروته. بعض من تحدثوا لأوربت أكدوا أنها أحداث تتكرر في الأعياد ولكنها هذا العام أفظع، فوضى شديدة الانحطاط كرسها الغياب الأمني في غير حماية النظام ومواجهة المعارضين، وسلبية الشارع الذي شككته في نفسه سنوات من القمع والفساد.
التحرش باليد أو هتك العرض ظاهرة قديمة في مصر، ولكنها كانت حبيسة الهامش.. كانت كبتا مخزونا يتسرب في الظلام وبشكل فردي، حتى تحول الفعل المريض السري والاستثنائي إلى ممارسة يومية شبه علنية.
ولو فرضنا جدلا بأن هناك تهويلا لأحداث العيد، فما قولنا في التحرشات الجماعية في المولد والاستاد والتحرشات البجحة في المواصلات والطوابير؟
المتحرشون
فلنفرق بين نوعين من هتك العرض.. ذلك الذي يحدث من صاحب سلطة مادية أو سطوة روحية، وذلك الذي يحدث من الفقير والمضطهد.
فالتحرش باليد تعبير إما عن انسحاق تام أو سطوة مفرطة.. إنه فعل يخترق به المجرم خصوصية وكرامة جسد الآخر وشخصيته بالتالي، يتحرش صاحب السلطة لانتزاع متعته من الأضعف أو لتعويض نقص يخفيه أو لإذلال المنتهكة لسبب ما.. أما المنسحق فيقوم به تحقيقا لوظائف نفسية معقدة تتضمن إنكاره الانسحاق ومحاولته تعويض ذاته المنقوصة والتنفيس عن كبته وغضبه وتصعيدا لحقده الشامل على من لا يحسون بآلامه واحتياجاته وتعبيرا عن احتقاره للمرأة كجزء من الثقافة الذكورية السائدة، وتحديه السافر لكل من الدولة التي لا تأبه به والدين الذي يربي فيه عقدة الذنب دون أن يحل له أزماته بشكل مباشر والقيم الأخلاقية المتناقضة حوله .. إنه إعلانه الرمزي والمنحرف والرجعي عن نفسه المحرومة المهانة.
مين مسئول؟
لدينا قائمة طويلة.. تبدأ بالتمييز من المولد بين طفل سيلقى الرفاهة والرعاية الشاملة وطفل سيتعلم الحياة من القتال في الحارة والورشة والتسرب الدراسي والعائلي والهرب من بوكس الشرطة وبلطجية العشوائيات.. الأول يبني مستقبله الوردي بينما الثاني يربي في باطنه الأحقاد والكفر بالمجتمع القاسي.
لدينا نظام لا يحترم جسد الإنسان بدءا من حياة التزاحم الحيواني، ومرورا باستباحة كرامته في قسم البوليس والاحتجاجات الجماهيرية، وسهولة اختراق البيوت وتفتيشها، ورخصة استيقاف المنسحقين والعبث بهم، بل نقلت السلطة آليات الإذلال بالمعتقلات إلى الشارع وانتهك بلطجيوها نساء حركة كفاية في 25/5/2005 كعقاب على رفض ترشح رئيس الجمهورية لدورة جديدة.
هناك مشروعات تنموية فاشلة من محمد علي لإسماعيل باشا للوفد لحركة يوليو للانفتاح وحتى الليبرالية الجديدة التي انغمس نظام مبارك في التحالف معها.. من نتائج هذا الفشل تنامي الكفر بالنموذج الغربي في الشارع المصري مع تعاظم الحل الذي يخدر المنسحقين ويلقي بهم في بستان السلف الصالح كما يتوهمون، ومع تراجع الإسلام الوسطي المصري يشتد اضطهاد الأقباط والنساء والعلمانيين خاصة مع غياب حركة يسارية نشطة تطرح راية أخرى تربط التحرر بالعدل الاجتماعي والتقدم.
لدينا تشويه للمرأة من كل الجهات.. فالبرجوازية تزين بها إعلانات منتجاتها وتستغلها لحما وعظما، ثم تعتصرها في مؤسساتها الإنتاجية بأجور أدنى، ثم توقع الضغائن بين الرجل العامل والمرأة العاملة باعتبارها منافسة له في العمل, والدولة تنافقها إعلاميا بينما تتركها واقعيا لاستبداد الجميع بها ثم تحدد لها دورها الأهم وهو تفريخ وتربية الأيدي العاملة، وبالتدريج تتوه المرأة عن ذاتها ولا تعود تنظر لنفسها إلا كجسد إما يتغطى درءا للفتنة أو يتعرى كسبا للفرص.. جسد مذنب في كل الأحوال.. وهو جسد بلا رأس طبعا في غياب الحركة اليسارية من جهة والحركات النسائية الاشتراكية من جهة أخرى، لأن الحركة النسائية التي تتأسس على كراهية الرجل لا النظام الظالم أو على تحرير المرأة البرجوازية على حساب المرأة والرجل الفقيرين هي حركة ضد المرأة لأنها لا تربط تحررها بالتحرر الإنساني الشامل.
إيه النظام؟
للقضاء على هتك العرض بشقيه نهائيا لابد من إنهاء السطوة وإنهاء الانسحاق.. أي الانتقال بالمجتمع كله من جحيم علاقات الغابة إلى براح الإخاء الإنساني، فلا أمل في صيانة كرامة الجسد فيه ما لم تستبدل المؤسسات التي تحكمنا بمؤسسات شعبية ديمقراطية تملك تخطيط المجتمع وتنفيذ ومتابعة البرامج الأهلية التي تبث الكرامة في الجسد الاجتماعي كله، وهنا فقط تنتهي السطوة وينتهي الانسحاق، وتحاصر بالتالي ظواهر العنف الجنسي والتطفل الإجرامي من جسد على آخر.