أسيوط: بحر بقر بصناعة مصرية

“آخر حاجة قولتها له كانت إيه؟”.. سؤال طرحه أحد من هرعوا إلى مكان حادث قطار أسيوط لتسجيل الحدث، أما الطرف الآخر فهو كما يظهر في الفيديو الذي لا تتجاوز مدته الدقيقتين، والمتداول على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، أب مكلوم يجاهد دموعه، فتغلبه، يجمع شتات نفسه ويخرج صوته محشرجاً يحمل في نبرته ألم وندم: “آخر حاجة ضربته بالقلم علشان يلحق الأتوبيس”. وكأن القدر لا يكتفي بعذاب الفقد والغياب ويأبى على الأب إلا أن يواصل حياته حاملاً وزره فوق ظهره. يحمل الأب وزر “قلم” صفع به أبنه ليحثه على اللحاق بأتوبيس المدرسة، المدرسة التي هي ربما طاقة أمل للأب نحو مستقبل أفضل وحياة أجمل للأبن. لكن، من يحمل وزر مصرع أكثر من خمسين طفلاً وطفلة أكبرهم لا يتعدى عمره العشر سنوات؟ من يحمل وزر حرمان أمهات ثكالى من أبناء وبنات عمرهن؟ من يحمل وزر وطن أصبحت حياة الإنسان أرخص ما فيه؟ اقتل ابني، بل مزقه أشلاءاً حتى يصعُب عليّ التعرف على جثته، وعوضني بأربعة آلاف جنيه، صفقة رابحة في ظل أول رئيس مدني منتخب بعد ثورة شعبية قامت كي لا نُقتل من جديد.
سجل حوادث أسود لا ينتهي
كانت مصر أول دولة في الشرق تعرف القطارات كما كانت ثاني دولة في العالم تعرف خطوط السكك الحديدية بعد بريطانيا. لكن، خطوط السكك الحديدية في مصر لا تنافس مثيلاتها في القدم وحسب، بل ربما تتفوق أيضاً فيما يخص تردي مستوى الخدمة وإهمال الصيانة، وإغفال المعايير اللازمة للحفاظ على سلامة الركاب. فقطار أسيوط الذي حصد أرواح خمسين طفلاً ليس أول قطار يستهدف الأطفال فقد سبقه بسنوات، تحديداً عام 1987، حادث قطار أودى بحياة ما يقرب من 75 طفل تراوحت أعمارهم بين 8 و14 عاماً، وذلك عندما اصطدم قطار بأتوبيس مدرسة عند مزلقان عين شمس.
وخلال العشرين عاماً الأخيرة لم يمر عام دون وقوع حادث قطار مروع، ولعل أشهرها وأكثرها قسوة حادث احتراق قطار العياط عام 2002، المعروف إعلامياً بإسم قطار الصعيد، والذي أسفر عن مصرع 350 شخص كانوا في طريقهم لقضاء إجازة عيد الأضحى مع ذويهم.
ووفقاً لإحصائية رسمية صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن حوادث القطارات في الفترة من عام 2007 وحتى عام 2011 كان إجمالي عدد حوادث القطارات خلال هذه الفترة هي 5647 حادث، تسببت هذه الحوادث في وفاة 241 شخص، وكان إجمالي عدد المصابين هو 432 شخص. أما بالنسبة للأخطاء المتسببة في وقوع تلك الحوادث، فوفقاً للإحصائية فإن الخطأ البشري فيها يبلغ نسبة 68,77%، والخطأ الفني نسبة 6,25%، وتبلغ نسبة الخطأ الفني بالتزامن مع الخطا البشري نسبة 24,98% من أسباب وقوع الحوادث.
سكك حديد مهملة عن عمد
أكثر من خمسة آلاف حادث قطار خلال أربع سنوات، أليس هذا مؤشر على تردي أوضاع السكك الحديدة في مصر؟ مئات المتوفين وآلاف المصابين، بخلاف عدد مستخدمي السكك الحديدية في تنقلاتهم بشكل يومي والذين يقدر عددهم بحوالي مليون وأربعمائة ألف شخص يومياً. وكل هذا لا يجعل الدولة تنظر لهذا القطاع بعين الاعتبار. لكن عندما نعلم إن لعاب رجال الأعمال يسيل على هذه التركة، عندما نعلم أن الدولة تهدف لخصخصة هذا القطاع الحيوي وتحاول منذ سنوات إنجاز هذه الصفق دون جدوى، تختفي دهشتنا.
إذاً هي عملية متعمدة بهدف تخريب القطاع ومن ثم بيعه بأبخس الأثمان لرجال الأعمال. لذلك تتعمد الدولة الإبقاء على الأجهزة القديمة المتهالكة، وبدائية وسائل الاتصال بين القطارات ونقاط التحويل أوالمزلقانات؛ فقد أظهرت التحقيقات في حادث أسيوط أن وسيلة الاتصال الوحيدة بين المزلقان وأي من القطارات القادمة هي “التليفون”، وأنه كثيراً ما يُفاجئ عمال المزلقان بقدوم القطارات دون اتصال مسبق. يقول عامل في أحد المزلقانات معلقاً على هذا الوضع: “حتى التليفونات اللي عملتها الهيئة رديئة، والتليفونات اللاسلكية لازم نخبطها على دماغها علشان تشتغل، وأجهزة الاتصال الموجودة فى الجرار لا توجد صيانة دورية لها”.
كل ذلك إلى جانب الاعتماد على الوسائل اليدوية فيما يخص غلق وفتح المزلقانات أثناء عبور القطارات، بخلاف استمرارية العمل ببنظام المزلقانات المفتوحة أمام السيارات والمارة وعدم تطوير عملها آلياً او استبدالها بالأنفاق أو الكباري فيما يتعلق بالمارة، خاصة وأن معظم تلك المزلقانات تقع على نقاط حيوية في كل المدن والقرى التي تمر بها خطوط السكك الحديدة مما يجعلها أماكن مثالية لوقوع الحوادث.
سجل حافل إذاً من الإهمال واللامبالاة والنتيجة الطبيعة حوادث مفجعة. ولأن الأمر ليس بجديد فكان من المتوقع أن تكون أولى اهتمامات حكومة الرئيس المنتخب الجديد هي تحسين أوضاع السكك الحديدية، لكن ما يحدث هو العكس مما يؤكد نيتة مرسي وحكومته ومن ورائهم رجال أعمالهم في تنفيذ الخطة التي بدأها مبارك والتي تهدف إلى إفلاس مرفق السكك الحديدية حتى ولو جاء هذا على حساب أرواح الآلاف من المصريين.
دليل على ذلك أنه وبعد حادث أسيوط مباشرة تحديداً يوم الأحد 18 نوفمبر 2012، أي بعد مرور أقل من 24 ساعة على الحادث، يفاجئنا وزير الاستثمار أسامة صالح في كلمته التي ألقاها أمام المنتدى (المصري التركي) والذي عقد في نفس اليوم على هامش زيارة رئيس الوزراء التركي لمصر، بإطلاق مبادرة حول مشاركة المستثمرين ورجال الأعمال المصريين والأجانب، في تجديد وتأمين مزلقانات السكك الحديدية في القرى والمدن التي تقوم فيها مشروعاتهم الاستثمارية، وذلك بالتنسيق والتعاون مع وزارتي التنمية المحلية والنقل، وذلك في إطار ما أسماه السيد الوزير تطبيق مفهوم المسئولية الاجتماعية للشركات الاستثمارية تجاه المجتمع المصري بشكل عام!!
الدولة ونضال عمال السكك الحديدية
نظم عمال السكك الحديدية في مصر إضرابهم الأول في شهر أكتوبر من عام 1910، وواجهت الشركة بمساعدة الشرطة هذا الإضراب بعنف شديد. ولكن وبعد شهور، تحديداً في يناير 1911، أسس عمال السكك الحديدية أول تنظيم نقابي معلن لهم تحت إسم “جمعية عمال السكة الحديد بالقاهرة”. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف نضال عمال السكة الحديد من أجل تحسين أوضاعاهم المادية، وتحسين ظروف العمل، وتطوير الخدمة على جميع الخطوط.
وربما يكون إضراب عام 1986 هو أشهر نضالات عمال السكك الحديدية وأنجحها على الإطلاق، كما يعد واحداً من أهم الاحتجاجات العمالية التي شهدتها مصر في العقود الأخيرة بشكل عام. صحيح أن الدولة حينها لم تلبي مطالب العمال التي كانت تنحصر في عودة الكادر الخاص وتعديل جدول الأجور، رفع حافز الكيلومتر، الحصول على نسبة من الغرامات على التذاكر، التأمين على السائقين ضد الحوادث والتشريك، وعدم تحميل السائقين تعويضات ضحايا الحوادث، ولجأت لاستخدام العنف المفرط ونجحت في فض إضرابهم بالقوة، إلا أن العمال خرجوا من هذا الإضراب أكثر تنظيماً ووعياً بأهمية توسيع رقعة العمل الجماعي داخل المرفق بحيث لا يقتصر فقط على السائقين والمساعدين، بل العمل على جذب عمال ورش الصيانة والموظفين الصغار وتبني مطالبهم.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اندلاع ثورة يناير لم يتوقف نضال عمال السكك الحديدية. ففي شهر أغسطس 2011، قام سائقو السكة الحديد بتنظيم إضراب عن العمل في خمس محطات للسكك الحديدية، هي: محطة مصر، وطنطا، والزقازيق، والإسكندرية، وأسيوط، عندما تجمع المئات من السائقين والكمسارية وصرافى التذاكر، واعتصموا على قضبان السكة الحديد، اعتراضاً على رفض الهيئة صرف بعض المستحقات المالية، وتحديداً الحوافز المجمعة، وحافز الـ200%.
وحقيقة الأمر أن العمال كما يناضلون من أجل تحسين أوضاعهم المادية وتحسين ظروف العمل، يناضلون أيضاً من أجل تطوير وتجديد خطوط السكك الحديدية والقطارات، ومن ضمن مطالبهم ومنذ سنوات المطالبة بتجديد 1600 كيلو من القضبان مع تطوير المزلقانات وتحويلها من يدوية إلى أتوماتيكية، وإصلاح منظومة الإشارات وتحويلها جميعا من ميكانيكية إلى كهربائية. هذا إلى جانب مطالبهم بضرورة صيانة الجرارات الألمانية التي يبلغ عددها أكثر من 180 جراراً والتي تعمل منذ أكثر من 32 عاماً، خاصة وأن الهيئة قامت باستبدالها منذ عامين بجرارات أمريكية الصنع، ذات سمعة سيئة جداً، ويشكو سائقو القطارات منها حيث أنها تختلف عما اعتاد السائقون عليه مع الجرارات الألمانية خاصة وأن كابينة القيادة بها وحدة كهرباء خطيرة وذات ضغط أكبر من سابقتها، فضلاً عن الارتفاع الكبير للجرار، وزيادة وزن الجرار بنحو 12 طن ما يرفع وزن القطار إلى 140 طن، وهو وزن ثقيل بالنسبة لخطوط السكك الحديدية في مصر والتي يجب ألا يزيد الوزن عليها عن 20 طن بحيث لا يتعدى إجمالي الوزن 120 طن، هذا غير أعطال “الكمبروسر – شحن الهواء” ومشاكل الفرامل.
من الجانـي؟
دولة تهمل دورها عن عمد، وعمال يناضلون في ظل أسوأ ظروف عمل يمكن أن يعمل في ظلها بشر، ثم في النهاية تحملهم الدولة – بكل صفاقة – فاتورة إهمالها وفسادها وجشع رجال أعمالها. في كل ما سبق من حوادث مروعة للقطارات في مصر دائماً ما كان الخطأ يحمل للسائق أو لعامل التحويلة أو عامل المزلقان، الطرف الأضعف في المعادلة الظالمة، وجلَّ ما تفعله الدولة هو إقالة رئيس الهيئة أو وزير النقل مع احتفاظهم بكامل حقوقهم المادية بالطبع.
في حادث أسيوط تحديداً، أظهرت التحقيقات مع عمال المزلقان أنهم قد سبق وتقدموا بـ 3 شكاوى في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين لقطاع السكك الحديد بمحافظة أسيوط متعلقة بوجود أعطال بالتليفون ونظام الإنذار الخاص بالمزلقان محذرين من احتمالية وقوع كوارث بسبب هذا الوضع المذري، ولكن تم تجاهل شكواهم تماماً. ورغم هذا وجهت النيابة العامة تهمة الإهمال لعامل المزلقان وكالعادة ربما سوف يتحمل الوزر وحده.
وما أشبه اليوم بالبارحة، ففي عام 2002، وبعد حادث قطار الصعيد، تولى المحامي العمالي “نبيل الهلالي” مهمة الدفاع عن عمال السكة الحديد المتهمين في الحادث، يقول الهلالي:
“أرجو ألا يفهم من كلامي عن الرؤوس الكبيرة الغائبة عن قفص الاتهام، إنني ألقي بعبء المسئولية عن الكارثة على مديري الإدارات أو على رؤساء الهيئات الحاليين والسابقين أو حتى على الوزراء المتقاعدين. إطلاقا فالمتهم الأول في قضيتنا الغائب عن القفص هو الدولة بالتحديد، الدولة بسياستها الاقتصادية، الدولة بفلسفتها الاجتماعية، السياسة الاقتصادية للدولة تحددها خطابات النوايا التي تقدمها الحكومة لصندوق النقد الدولي بين الحين والحين لتعلن التزامها بتنفيذ وصفة الصندوق المدمرة. والسياسة الاقتصادية التي نسميها بأسماء الأضداد (الإصلاح الاقتصادي) تقوم على معالجة العجز في ميزانية الدولة عن طريق تقليص الأنفاق الحكومي على الخدمات، وانسحاب الدولة من ميدان الخدمات لذلك يلغى التعليم المجاني، يتبخر العلاج المجاني في المستشفيات الحكومية تتخلى الحكومة عن تمويل ودعم المرافق العامة توطئة لترك ميدان الخدمات ساحة مستباحة للقطاع الخاص”.
هذا الجزء البسيط من مرافعة الهلالي يؤكد أن النظام لم يسقط، وأن مرسي وحكومته يسيرون على نفس خطى مبارك ونظامه بكل دقة، ويكشف لنا أكثر وأكثر أن ثورة يناير إلى الآن لم تنجز سوى الإطاحة برأس النظام فقط، ولا يزال النظام يقاوم ويجاهد لاستعادة سيطرته كاملة. ولكننا لن ننخدع بتغير الأسماء والوجوه، لن ننخدع باستبدال رجال الحزب الوطني، بأصحاب اللحى والورع الزائف. وعلى يقين من أن كل كارثة تنزل بنا، رغم فداحة الثمن الذي ندفعه في كل مرة، تكشف عن أقنعتهم قناعاً بعد الآخر، وتقربنا خطوة تلو الأخرى من طريق الخلاص، نحو ثورة اجتماعية هادرة تأتي من أسفل لتقتلع جذور الظلم والفساد والطغيان.