طريق الإصلاح:
من النواب النائمين إلى نواب الدماء
في يوم 20 ديسمبر الماضي تقدم النائب العام بطلب رفع الحصانة عن نائب الحزب الوطني د/هاني سرور لاحتياج النيابة العامة لاستكمال تحقيقاتها في قضية أكياس الدم الملوثة التي تقوم شركة هيديلينا للصناعات الطبية المتطورة بإنتاجها وتوريدها لوزارة الصحة والتي يترأس سيادة النائب مجلس إدارتها.
قضية الفساد هذه المرة لا تتعلق بأرواح البشر لارتباطها بتوريد منتج غير مطابق للمواصفات إلى المستشفيات والمراكز الطبية التابعة لوزارة الصحة ( أكياس دم)ف حسب. ولكن أيضا لتجسيدها لواقع أن الدستور لا يطبق أمام سلطان رجال الأعمال ولاستفحال الفساد داخل الوزارات لدرجة يصعب تصديقها. أما البرلمان فيعرقل مسيرة التحقيقات وكشف حقيقة أكياس الدم ومن وراءها بتأجيله لطلب النائب العام لرفع الحصانة عن النائب المتهم.
من هو هاني سرور؟
المتهم بتوريد أكياس دم ملوثة لوزارة الصحة هو رجل أعمال نجح في الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر 2005 ممثلا للحزب الوطني عن دائرة الأزبكية ليصبح رئيسا للجنة الاقتصادية بالمجلس. تلك الانتخابات التي شهدت منافسة محتدمة ليس فقط بين رجال الحزب الوطني الحاكم ومرشحي الإخوان المسلمين، بل وبين الحرس القديم والحرس الجديد بداخل الحزب الوطني ذاته. فبحسب التغطيات الصحفية حينها، كانت دائرة الأزبكية والظاهر إحدى الدوائر التي شهدت مشاحنات بين أعضاء الحزب الوطني، انتهت بانسحاب النائب السابق مجدي محمود إبراهيم (نجل النائب الأسبق للدائرة) من الحزب وتقدمه للترشيح كمستقل، بينما دعمت لجنة السياسات مرشحها هاني سرور. هذا وقد استمرت المشاحنات التي ركزت على التقدم ببلاغات طوال فترة الدعاية الانتخابية ما بين نائب الوطني والنائب المستقل إلى أن انتهت الانتخابات بفوز سرور.
كما يتردد أن السبب وراء دعم لجنة السياسات بالحزب الوطني وتبنيها لسرور كأحد رجالها هو الدور الفذ الذي لعبه في دعم وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان بمعركته الانتخابية لعام 2000. جدير بالذكر، أن إبراهيم سليمان هو الشخص الذي أقام دعوى السب والقذف الشهيرة ضد ثلاثة من صحفيي جريدة المصري اليوم.
كما تجدر الإشارة إلى احتذاء د/ هاني سرور لنفس نهج زميله بالحزب بإقامته لدعوى سب وقذف ضد كلا من رئيس تحرير جريدة صوت الأمة إبراهيم عيسى ورئيس تحريرها التنفيذي وائل الإبراشي والمحرر بذات الجريدة مطاوع بركات على خلفية تقرير نشره الأخير حول عدم صلاحية المنتجات الطبية لشركة هايديلينا، المملوكة لهاني سرور. فقد جاء بالموضوع أن الفلاتر المستخدمة في غسيل الكلى غير صالحة وغير مطابقة للمواصفات لدرجة أن مؤسسات عالمية حذرت الجهات المعنية في مصر. وأن المدعي بصفته نائباً وعضواً في الحزب الوطني تعاقد مع الحكومة لتوريد هذه الفلاتر لوزارة الصحة وتعريض حياة المصريين للخطر. أما هاني سرور فقد أقام الدعوى على أساس أن ما نشر يخالف الحقيقة، وبالتالي ألحق به أضراراً مادية جسيمة. من المفترض أن تنظر الدعوى المقامة بمحكمة جنح إمبابة في يوم 24 يناير الجاري، بذلك يكون المتهم في أحد أكبر قضايا الفساد حاليا هو ذاته من يقيم دعوى ضد رموز الصحافة المعارضة المستقلة.
قصة فساد
الدستور – الجاري تعديله اليوم بحيث “يواكب التغيرات ويلبي مساعي الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي” يمنع صراحة نائب مجلس الشعب من الدخول في معاملات تجارية سواء كان بالبيع أو بالشراء مع أي جهة حكومية خلال فترة تواجده في المجلس على أساس أنه يمثل جهة تشريعية من مهام عملها الرقابة على الحكومة، وبالتالي لا يجوز الدخول مع هذه الجهات في معاملات تقوض من دور النائب في أداء مهام وظيفته.
بحسب التحقيقات الجارية فإن قيام د/ هاني سرور بتعيين شقيقته نيفان سرور عضوا منتدبا للشركة جاء للإفلات من نص اللائحة الداخلية لمجلس الشعب التي تحظر علي أعضاء المجلس ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية مع الجهات الحكومية خلال عضويتهم بالمجلس. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه من المرجح أن د/هاني سرور، رئيس مجلس إدارة شركة هايدلينا للصناعات الطبية المتطورة، اعتزم المشاركة في المناقصة العامة والعاجلة الخاصة بتوريد أكياس الدم الفارغة (قرب) لوزارة الصحة، بالتوازي مع اعتزامه خوض انتخابات مجلس الشعب. فبحسب المصادر، اعتمدت المواصفات الفنية لأكياس الدم المطلوبة في يونيو 2005 وحددت جلسة المناقصة في شهر سبتمبر وفتحت المظاريف لترسى الطلبية على شركته في 30 أكتوبر 2005، أي بعد فتح باب الترشيح لعضوية مجلس الشعب الذي تم في يوم 13 من نفس الشهر.
تجدر الإشارة إلى أن شركته كلفت بتوفير أكياس الدم بأنواعها (الأحادية والثنائية والثلاثية)، بالرغم من ثلاثة أمور. أولهما، ما ذكر أعلاه حول اللائحة الداخلية لمجلس الشعب والدستور وضرورة درء ما كان يطلق عليه “استغلال النفوذ”.
أما ثانيهما، فيتعلق بإمكانيات الشركة ذاتها والتي تعتبر قاصرة بدرجة كبيرة بمجال بنوك الدم. فشركة هيديلينا التي أنشأت في عام 1984عنيت بصناعة معدات الغسيل الكلوي المعدة للطرح بعد الاستعمال. وفي عام 2000 بدأت بتوسيع نشاطها الصناعي عبر إنتاج المحاليل الطبية التي حصلت على شهادة الأيزو لإثبات صلاحيتها. ولم تشرع بإضافة قسم لصناعة أكياس الدم بمصنعها في مدينة 6 أكتوبر حتى بداية سنة 2006، أي بعد أن استقرت وزارة الصحة على التعاقد معها. ليس هذا فحسب، بل وبالتوازي مع تسلمها لأمر بالتوريد بتاريخ 7 فبراير 2007 ومنحها مهلة قدرها 4 شهور لتتمكن من التوريد! في ذات السياق، لم تحصل شركة هيديلينا على أي شهادة صلاحية لأكياس الدم التي تقوم بإنتاجها، الأمر الذي يثير التساؤلات حول الأسباب الموضوعية لتعامل وزارة الصحة من الأصل مع شركة لا تمتلك أي ضمان حول صلاحية منتجاتها.
أما السبب الثالث، هو كون الشركة سيئة السمعة. هناك تقرير من منظمة الغذاء والدواء الأمريكي يحذر من التعامل مع منتجات شركة هايدلينا ويقدم 9 محاذير. جاء التقرير بعد قيام أعضاء من المنظمة بزيارة الشركة وفحص منتجاتها في شهر أغسطس 2005، لكن هذا لم يمنع الوزارة من التعاقد مع الشركة بعد شهر واحد فقط!
وفي استمرار لمسلسل الفساد داخل أروقة وزارة الصحة، يصر المسئولون على نفي تسبب أكياس الدم الملوثة في وفاة المواطن خضر عبد الهادي بمستشفى عين شمس. فالوفاة، بحسب وزارة الصحة، جاءت نتيجة لإصابة المريض بتليف في الكبد أدى إلى دخوله في غيبوبة استمرت بضعة أيام قبل وفاته. لكن سواء تسببت أكياس دم هيديلينا في وفاة مواطن أو لم تتسبب، السؤال الملح، والذي تتجاهله وزارة الصحة تماما، هو سبب استمرار وجود أكياس الدم المشبوهة بمستشفيات مصر. لماذا لم تقم الوزارة بحظر استخدام الأكياس حتى انتهاء التحقيقات التي تجريها مباحث الأموال العامة حرصا على سلامة المواطنين الذين دفعهم حظهم العسر إلى اللجوء إلى المستشفيات العامة؟
رائحة الفساد لا يمكن تجاهلها إذا علمنا أن الوزارة أرسلت عينات إلى بعض الجامعات، وجاءتها الردود بعدم صلاحية أكياس الدم والخراطيم المعدة للطرح المستخدمة في غسيل الكلى والتي تقوم نفس الشركة بإنتاجها، من خمس جامعات منها جامعة القاهرة وجامعة المنصورة وجامعة الزقازيق. بالرغم من ذلك لا يزال استخدام “القرب” ساري.
ليس هذا فحسب ولكن أثبتت التحقيقات الجارية بشهادة الشهود تنكيل الوزارة بالموظفين والموظفات الذين تقدموا ببلاغات ضد أكياس الدم التي تنتجها شركة هيديلينا للجهات التي يفترض أن تكون معنية بالأمر. كما تجدر الإشارة إلى أن وكيل أول وزارة الصحة د/ نصر رسمي المتهم بتيسير عقد الصفقة مع شركة هايديلينا كان قد عين حديثا بمنصب الأمانة العامة للحزب الوطني عن دائرة الظاهر والأزبكية، فضلا عن تقلده لمنصبه كمسؤول في الوزارة بعد تقلد الوزير حاتم الجبلي لمنصبه. فقد كان نصر رسمي يعمل طبيا بمستشفى دار الفؤاد التي يمتلكها الوزير!
مجلس الشعب
على خلفية ثبوت وقائع التنكيل بالموظفين والموظفات بناء على شهاداتهم بتحقيقات نيابة الأموال العامة وعلى صفحات الجرائد المستقلة، وبعد أن اتجهت أصابع الاتهام إلى وكيل أول وزارة الصحة د/ نصر رسمي بالمشاركة في الجريمة، يطالعنا رئيس المجلس فتحي سرور قائلا: ” أن المجلس لا يبحث عن توافر الأدلة أو عدم توافرها للإدانة في موضوع الاتهام، بل يقتصر بحثه علي مدي كيدية الادعاء، والإجراءات، والتحقق مما إذا كان يقصد بأي منها منع العضو من أداء مسؤولياته البرلمانية” بعد كل هذا لا يزال رجل القانون الذي شارك في صياغة الدستور الجاري تعديله يبحث في كيدية الإدعاء!
فبدون رفع الحصانة لا يحق للنيابة العامة اتخاذ أي إجراءاتِ، فلا حبس احتياطي على ذمة قضية ولا منع من السفر أو تفتيش منزل أو مراقبة تليفونات، وفي حالة سماح النائب المتهم للنيابة بأخذ أقواله فلا يجوز استجوابه. فالسؤال الوحيد المسموح للنيابة بطرحه هو التالي: ما هو لديك من أقوال؟ وفي الأغلب لن تختلف أقواله عن وزير الزراعة السابق يوسف والي المتهم بسرطنة الآلاف أو ممدوح إسماعيل المتهم بإغراق 1000 شخص. وهذا هو المطلوب.