تسقط دولة استلاب الحريات وامتهان الإنسان

الكتاب: حاكموا صناع مناخ التعذيب (التعذيب جريمة ضد الإنسانية)
المؤلف: عاطف شحات سعيد
الناشر: مركز هشام مبارك للقانون
تاريخ النشر: نوفمبر 2008
“أنا مابانامشي.. كل ما يدق الباب بتهيألي إن اللي حصلي هيحصلي تاني.. هددوني بالاغتصاب.. هددوني ياخدوا ابني يكهربوه.. عاوزيني أسحب القضية السابقة.. عاوزيني أشتغل معاهم مرشدة.. ما أقدرش أرجع البيت.. صوت أشخاص بينادوني.. صوت السجان اللي كان بيناديني ساعة التعذيب دايما في ودني.. أول ما باسمع صوته أعرف إني طالعه للتعذيب.. كنت باتعذب فترة طويلة أربع أو خمس ساعات كل يوم لمده عشرة أيام.. دايما التعذيب كان بالليل.. أنا ما كنتش عارفة الليل من النهار.. في الآخر أغمي علي بيقولوا مده طويلة.. علقوني من إيد واحده.. كان الألم فظيع.. كنت باصرخ.. كهربوني في كل جسمي وفي أماكن الحساسة أكثر.. ده غير الضرب لغاية ما بقي جسمي كله كدمات كانت زرقة ولغايه دلوقتي بتوجعني.. كنت عريانة ما عدا الملابس الداخلية.. مسكوني من أماكن حساسة (صدري).. علقوا علي وأنا عريانة إن أنا تخينة وشتموني شتيمة قذرة.. هددوني بالاعتقال.. قالوا لي إذن الاعتقال جاهز وهيطردوا أمي من البيت وهيدخلوا عيالي الملجأ..”
هذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة لا يمكن إحصاؤها لما يلاقيه المواطنون الفقراء “اللي مالهمش ضهر” من قبَل ضباط الشرطة في الأقسام ومقار مباحث أمن الدولة. فهناك أمثلة أخرى عن التعذيب الجماعي لأسر، بل وقرى بأكملها، إرضاء لأصحاب النفوذ أو للضغط للاعتراف بجرائم لم ترتكب، أو لمجرد الوصول لمعلومات تفيد في القبض على شخص ما. هذا غير حالات وفاة بعض الذين تعرضوا لتعذيب وحشي، ثم إلقاء جثثهم في عرض الطريق أو دفنهم تحت حراسة مشددة وتهديد أسرهم بالتنكيل بهم في حالة تقدمهم بأي شكاوى.
هذه الدراسة الهامة تكشف لنا، ليس بطريق الصدفة أو بمجرد الملاحظة العابرة، بل بالوقائع والأحداث الموثقة، وبالرجوع للتقارير والنصوص الحقوقية ومواد القوانين، أن التعذيب في مصر ليس مجرد أداء فردي لبعض الضباط حتى ولو كثروا، ولكنه تعبير عن سياسة منهجية ويتسم حدوثه بالانتظام والنظامية علاوة على انتشاره الواسع، وبالتالي عبر جملة من المقارنات والاستنتاجات العملية يصل الباحث لنتيجة مفادها أن التعذيب في مصر واحدة من الجرائم ضد الإنسانية تماما كجرائم الحرب والإبادة الجماعية.
تنقسم الدراسة ذات الطابع الحقوقي، باستثناء المقدمة والتمهيد وبعض الملاحق، إلى أربعة أقسام رئيسية. يطرح القسم الأول التعريفات الخاصة بمفهوم الجريمة ضد الإنسانية في تطورها التاريخي ومتى يصبح التعذيب جريمة ضد الإنسانية.
أما القسم الثاني فخصصه الباحث للإجابة على السؤال الأساسي الذي يطرحه البحث وهو: هل وصل التعذيب في مصر لمستوى الجريمة ضد الإنسانية؟ ومن خلال العديد من تقارير لجان تقصي الحقائق لمنظمات مصرية ودولية معنية بحقوق الإنسان، يصل الباحث، وفق تعريفات القسم الأول، إلى أن التعذيب يمارس في مصر بشكل منظم وواسع الانتشار وذلك من خلال سياسة يتبعها النظام الحاكم لحماية مصالحه، وهنا يستوي المواطنون العاديون والنشطاء السياسيون والجماعات المسلحة. فهؤلاء وآخرون معهم يتسببون في إزعاج النظام ومحاولة التغلب عليه “بالانتقاص من حقوقه” في الاستلاب والهيمنة، لتصب لديهم كمكاسب، بعض الحقوق، مثل توفير متنفس ديمقراطي.. الخ.
أما القسم الثالث فتم تخصيصه لتوزيع مسئوليات جريمة التعذيب في مصر على المسئولين في سدة الحكم (رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الداخلية، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة) بصفتهم يديرون هذه المنظومة القمعية التي نتج عنها وصول التعذيب إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية حسب تعريفات اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
أما القسم الرابع فتم تخصيصه لأشكال التقاضي الدولية والمحلية للنيل من مرتكبي جريمة التعذيب. وهنا يضرب الكاتب عصفورين بحجر واحد! فهو يفضل أن تتم المحاكمات في مصر، بمعنى الدفاع عن استقلالية القضاء المنوط به نظر قضايا موجهة ضد حماة النظام الحاكم، علاوة على توفر الإمكانية القانونية لتقديم هؤلاء الزبانية للمحاكمة.
حاولت الدراسة أن تكون على المستوى الحقوقي متزنة وقوية، وقد نجحت في ذلك. وبالتالي يمكن التعامل معها كمرجعية هامة في هذا المجال. ولكنها حاولت أيضا التملص من جو القوانين وموادها الجافة، بطرح استنتاجات سياسية تنتصر للمعذبين وتقف في خندقهم ضد من قاموا بتعذيبهم. فكاتبها علاوة على كونه محام وباحث قانوني، هو أيضا مناضل اشتراكي.
أخيرا نرى أن هذه الدراسة ليس من مهامها، كدراسة ذات طابع حقوقي وأكاديمي، تحديد موقف يضع هؤلاء الضحايا في منطقة الإجابة على سؤال ما العمل تجاه ما يحدث لهم من اعتقال وتنكيل وتعذيب. فالإجابة على هذا التساؤل لن نجدها في الكتب والدراسات، بل في النشاط العملي، أي في تنظيم حملات وتشكيل لجان وجبهات مناضلة تفضح تلك الممارسات الوحشية وتحشد وتعبئ للضغط من أجل الإفراج عن كافة المعتقلين ووقف التعذيب ومحاكمة هؤلاء الآثمين، كخطوة هامة في طريق مواجهة الدولة، ليس فقط بوصفها قمعية ومتوحشة، ولكن قبل ذلك بوصفها مؤسسة لحماية النهب والاستغلال المنظمين بواسطة أدوات القهر والقمع.