تصريحات العريان وبرنامج الإخوان
أثارت تصريحات عصام العريان لجريدة الحياة (بأن الإخوان سيعترفون بإسرائيل في حالة وصولهم إلى الحكم) عاصفة من الاحتجاجات داخل الإخوان وخارجهم، مما اضطره في النهاية إلى التراجع عنها، بينما لا تزال آثار العاصفة التي نتجت عن ظهور برنامجهم مشتعلة. فوسط الغليان الاجتماعي الذي شهدته مصر في الشهور الأخيرة، وبينما تشتعل ثورة من التوقعات في أذهان الجميع حول البدائل المحتملة، خرج الإخوان بما أسموه نسخة أولية من برنامجهم السياسي. وقاموا بتوزيعها على عدد من السياسيين والكتاب لاستطلاع آرائهم فيما احتوته، مؤكدين في كل دعايتهم أنها مجرد نسخة أولية قابلة للتعديل، وكأنهم يطلقون بالون اختبار لاكتشاف ردود الأفعال حول ما نص عليه البرنامج من مواد يراها الكثيرون نقيضاً لوعودهم السابقة بالدفاع عن الديمقراطية.
تصريحات العريان فاجأت الكثيرين بالطبع، مثلما فاجأهم ما تضمنه البرنامج من فقرات تتعلق بمسألة المرجعية الدينية. فقد نص على ضرورة تعديل الدستور بما يؤدي إلى تشكيل لجنة من كبار الفقهاء تكون لها المرجعية العليا في مراجعة القوانين الصادرة عن البرلمان أو رئيس الجمهورية المنتخبان، وبحيث تضمن التزامها بالشريعة الإسلامية، وهي صيغة قريبة من صيغة ولاية الفقيه في إيران. بالإضافة إلى تأكيد البرنامج على منع النساء والأقباط من تولي منصب رئيس الجمهورية.
خرج الكثيرون من قراءتهم لبرنامج الإخوان بأن هناك تراجع لليمين في توجهاتهم عن مواقفهم السابقة المعلنة، وأكدت تصريحات العريان على هذا التحليل: الميل يميناً. لكن تبقى معضلة في حاجة إلى تفسير: لماذا يبدو من الأمر أن هناك شقاقاً، وأن العريان ومن يمثلون وجهة نظره (أو جناحه) داخل الإخوان ينتقدون أصحاب البرنامج، بينما يقف أصحاب البرنامج في مواجهة هذا الجناح؟ وكيف يمكن تحديد من منهم يميل يميناً ومن يميل يساراً؟ ولأي مدى؟
والحقيقة لا يمكن فهم وتحليل مواقف الإخوان دون فهم طبيعتهم المتناقضة. الإخوان هم المنظمة الجماهيرية الوحيدة في مصر الآن، يضمون داخل صفوفهم مئات الآلاف من الأعضاء والكوادر ويلتف حولهم ملايين الأنصار. الغالبية العظمى من كوادرهم من الطبقات الوسطى، أما أنصارهم فجموع واسعة من العمال والفلاحين وعامة الفقراء. شعبيتهم التي حققوها في العقود الأخيرة هذه لم تكن بسبب تدين الشعب المصري –كما يشيعون دائماً- وإنما بسبب تواطؤ اليسار التقليدي مع نظام مبارك، مما أفقده تلك الشعبية التي كان يحوزها في السبعينات، وهكذا صار الإخوان البديل الوحيد في أعين الجماهير لمواجهة ما تعانيه من فقر وقمع. لكن هذا ليس الوجه الوحيد للأمر، فالإخوان يضمون داخل صفوفهم أيضاً قسماً من الرأسمالية المصرية، هؤلاء الذين كونوا ثروات ضخمة من العمل في بلدان الخليج، ويديرون الآن في مصر استثمارات ذات شأن. الجماعة إذن تضم أقسام من الجماهير الفقيرة إلى جوار أقسام من البرجوازية المصرية، هذا الوضع يجعل قيادتها خاضعة دائماً لضغوط متناقضة تعكس تناقضات المصالح داخلها، وتدفعها إلى التذبذب في مواقفها.
في خضم معركة التغيير عام 2005 نما سريعاً داخل الجماعة تيار يطالب بالاندفاع في المعركة، وطرح الإخوان لأنفسهم كبديل، بما يحمله ذلك من تحدي واضح لنظام مبارك. وتحت ضغط هذا التيار حشد الإخوان عشرات الآلاف من كوادرهم في مظاهرات تطالب بالديمقراطية، إلا أن تحديهم للنظام ظل متذبذباً ما بين قليل من المغامرة المحسوبة والكثير من التردد والانكماش، وهو ما مكن النظام بعد تراجع الحركة من الهجوم عليهم بشراسة، واعتقال المئات من قياداتهم وتحويل بعضهم إلى المحاكم العسكرية. فهيمنة الأجنحة البرجوازية على قيادة الجماعة تقف دوماً حائلاً أمام استنفار جماهيرها الفقيرة في معارك مفتوحة ستؤدي حتماً –إذا ما تُركت لتطورها الطبيعي- إلى تهديد المصالح الرأسمالية.
الطبيعة المتناقضة للإخوان -ما بين جماهير فقيرة تدفع في اتجاه تحدي النظام، تكبتها برجوازية تميل للمهادنة وتبحث عن حلول ترضي أصحاب المصالح- حكمت الميل المتحدي للتيار الذي ضغط في اتجاه تحول الإخوان لقيادة في معركة التغيير، والذي كان عصام العريان ولازال رمزه الرئيسي. حيث أدرك هذا التيار أن طرح الإخوان لأنفسهم كبديل يجب أن يصاحبه مظهر مطمئن للبرجوازية المصرية، وأيضاً الإمبريالية، أي التأكيد على مواصلة مسيرة الخصخصة وانتهاج الليبرالية الجديدة، والتأكيد على احترام الحريات وحقوق النساء والأقباط، الخ. فالإخوان لا يمكنهم، ولن يقبلوا، الوصول للسلطة عبر ضغط جماهيرهم من أسفل –وإن كان ذلك مفيداً في تحريك الأمور- ولا يمكنهم ممارسة الحكم دون رضا أصحاب المصالح: البرجوازية المصرية والإمبريالية.
هكذا أعلن العريان نفسه في إحدى الفضائيات في خضم معركة التغيير أن الإخوان في حالة وصولهم للحكم سيواصلون برامج الخصخصة والانفتاح على السوق العالمي، وأكد محاولاً طمأنة البرجوازية المصرية أنهم لن يمسوا الاستثمارات بأي حال. وهكذا أيضاً تدافع الكثيرون من قيادات الإخوان لإعلان تلك المواقف، والتقى العديد منهم بأعضاء من الكونجرس ووفود غربية، وصار الخطاب الرئيسي للجماعة يميل إلى الأفكار الحداثية، ويشبه إلى حد كبير النموذج الإسلامي التركي. لكن بقيت معضلة لا حل لها هي موقف الإخوان من القضية الفلسطينية، فالإمبريالية ما كانت لتقبل أن تمنح الإخوان ضوءاً أخضر للصعود إلى السلطة دون رضوخ واضح من جانبهم لاتفاقيات كامب دايفيد، وتخلي لا لبس فيه عن دعمهم لحماس، وهو موقف لو اتخذه الإخوان لفقدوا شعبيتهم بين ليلة وضحاها. لذا انتهى الأمر بإعطاء الإمبريالية الضوء الأخضر لديكتاتورية مبارك للعصف بهم، وبالطبع كان الحدث المفصلي الذي حسم ذلك هو فوز حماس الساحق في الانتخابات الفلسطينية.
إلا أن تحولات الواقع في مصر لا تسير على هوى الإمبريالية، فالتجذير السياسي الحادث منذ سنوات يتحول إلى مد في الصراع الطبقي وتصاعد للحركات الاحتجاجية. هذا الزخم لعب دوره في تمييل التوازنات داخل الإخوان، فقد أدى تصاعد حركات جماهيرية ينخرط فيها بلا شك جمهور من أنصارهم، بالإضافة إلى الضغوط من أسفل داخلهم لاتخاذ مواقف أكثر جرأة ضد ما يتعرضون له من قمع، إلى الميل يساراً، وإن كان بالطبع في نفس حدود تذبذبهم التقليدية. هكذا نص برنامج الإخوان على طرح اتفاقيات كامب دايفيد للاستفتاء واتخاذ موقفاً بناءاً على نتائجه، وهو ما يعني نقض الاتفاقيات. كما اشتمل على درجة من التشدد ضد الليبرالية الجديدة بمراجعة برامج الخصخصة، والحفاظ على ملكية الدولة للقطاعات الخدمية والبنوك، وضمان التعليم المجاني والتأمين الصحي، الخ.
إلا أن هذا الميل إلى اليسار (فيما يخص القضايا الوطنية والاجتماعية) في البرنامج ليس إلا محاولة دعائية لاحتواء جمهورهم، تعكس في ذات الوقت تراجع إلى الوراء لدى قسم من قيادة الإخوان في مسألة تحدي النظام وطرح أنفسهم كبديل. لهذا السبب ارتبط ذلك الميل بتشدد رجعي بصدد الحريات السياسية (مسألة ولاية الفقيه، ومنع النساء والأقباط من تولي رئاسة الجمهورية) وهم يعلمون أن ذلك لن يلقى رضا البرجوازية والإمبريالية، اللذان بدون رضاهما لن يصبحون في السلطة. إنما هي الطريقة الوحيدة التي تمكن ذلك القسم من قيادة الإخوان من الحفاظ على التفاف عضوية الجماعة وأنصارها حولها في لحظة عاصفة، أي العودة لثوابت الجماعة ممزوجة بحلم المجتمع العادل والوطن الأبي، مع تأجيل طرح أنفسهم كبديل إلى لحظة تالية يمكن فيها التوافق بشروط أفضل مع البرجوازية والإمبريالية.
ذلك التراجع إلى الوراء هو ما رفضه التيار المتحدي الراغب في مواجهة النظام والوصول إلى الحكم، وهو ما أدى إلى موجة من الانتقادات الداخلية للبرنامج، فموقف البرنامج من الحريات السياسية –من وجهة نظر ذلك التيار- كان يعني خطوة إلى الوراء في محاولة الاندماج مع المعارضة السياسية الرافضة للنظام ولعب دور مركزي داخلها، والتمسك بمواقف لا تعني شيئاً على المستوى العملي إلا الانغلاق على الداخل. هذه الحالة وضعت التيار المتحدي في مأزق، ودفعته إلى التقدم خطوة أوسع إلى الأمام للفت الانتباه له كبديل محتمل في أعين البرجوازية المصرية والإمبريالية، وهذا ما يفسر تصريحات العريان.
وإنها لمفارقة بالقطع أن يميل التيار المتحدي للنظام والساعي للانفتاح على الحركة خارج الإخوان إلى مواقف يمينية في القضايا الاجتماعية والوطنية، بينما يميل التيار المهادن للنظام والرجعي فيما يخص الحريات السياسية إلى مواقف يسارية من تلك القضايا. لكنها مفارقة لا تكشف فقط عن تناقضات الإخوان، وإنما تكشف أيضاً عن تناقضات السياسة في مصر التي تدفع إلى الفصل ما بين المطالب الديمقراطية والمطالب الوطنية بسبب الدور الإمبريالي في منطقتنا والطبيعة الديكتاتورية للأنظمة الحاكمة.
إلا أنه، وكما حدث في كل تاريخنا الحديث ومنذ ثورة عام 1919، من المؤكد أن الفصل ما بين المطالب الوطنية والديمقراطية سوف يتلاشى على أرضية الحركة الاجتماعية. ومثلما لا تسير تحولات الواقع على هوى الإمبريالية، هي لا تسير أيضاً على هوى قيادة الإخوان. فجماهير الإخوان، المندفعون الآن مع باقي فقراء المصريين في البحث عن حلول جذرية لما يعانونه، غالباً ما سيوجهون الأمور إلى مسار آخر، وغالباً ما سيدفعون قيادة الجماعة تحت ضغط الحركة إلى محاولة ركوب الموجة وإدارة دفتها. وهذا سيفتح الباب أمام العديد من الاحتمالات، قد يكون من بينها ميلاد جناح جذري رافض لتردد الجماعة وميولها المهادنة، وقادر في ذات الوقت على الجمع في حزمة واحدة ما بين الحريات والمطالب الديمقراطية مع المطالب الاجتماعية والوطنية.