قضايا الاشتراكية والثورة
تساؤلات عن الثورة المصرية المقبلة؟
كما يظهر من عنوان هذا المقال، فإن موضوعه يدور حول توقعات المستقبل في مسألة هي في الحقيقة من صميم أهداف كل اشتراكي ثوري مصري. ولكن، كما نعلم جميعًا، فالاستغراق في توقعات المستقبل، وفي رسم سيناريوهات تفصيلية له، يقود غالبًا إلى متاهة من الأوهام المثالية المقطوعة الصلة بالواقع. ذلك أن أحدًا من المنخرطين في صراع اجتماعي مفتوح لا يملك أبدًا المعطيات التي تؤهله لرسم صورة دقيقة لمنحنيات هذا الصراع أو نتائجه. والسبب في هذا لا يكمن في قلة المعلومات أو في خطأ المنهج، بل في طبيعة الصراع الطبقي في حد ذاته. حيث أن تطور (أو انتكاس) درجة ونوعية وعي وتماسك وتنظيم وفاعلية كل طبقة اجتماعية وكل قوة سياسية هي أمور لا يمكن التيقن بشأنها مسبقًا لأنها مفتوحة لبدائل عديدة بتأكد في غمار الصراع ذاته.
ولكن هذا لا يعني أننا لا نقدر أبدًا أن نستكشف احتمالات المستقبل. فإذا كنا لا نستطيع “رسم صورة دقيقة لمنحنيات الصراع أو نتائجه”، فإننا – كحد أدنى – يمكننا أن نحدد اتجاهه العام، قوة الأساسية، ودرجة سخونته أو احتدامه، وذلك بناء على استقراء تناقضات الحاضر التي تطرح نفسها بقوة.
وفي هذا المقال ستطرح – كمقدمة لحوار نرجو أن يتواصل – عددًا من الأسئلة الأساسية التي تتعلق بالثورة المصرية المقلبة، واضعين في اعتبارنا أن حدود ما يمكن أن نقدمه من إجابات لا تتعدى رسم الخطوط العريضة لبعض المسائل التي ستقرر مصير هذه الثورة المرتقبة.
مصر ملكة الحلول الوسط أم مصر الثورية؟
الرؤية السائدة في أوساط كل القوى السياسية المصرية – المعتدلة والمحافظة، بل وأيضًا اليسارية – وفي أوساط الرأي العام، هي أن مصر مجتمع وسطي: مجتمع يرفض الثورة والدم ولا يتقدم إلا من خلال الإصلاحات التدريجية. تتردد في هذا السياق العبارة التي صاغها الجغرافي المصري دو النزعة القومية جمال حمدان: “مصر ملكة الحلول الوسط”؛ وذلك افتخارًا بالعبقرية المصرية التي تمقت التطرف ولا تقبل لغة العنف أو منطقة!
ويغض النظر عن أوجه التفاهة هذه الفكرة، فإنها – لتأثيرها الواسع – تستحق النقد، على الأقل من ثلاثة جوانب متداخلة، أولاً هذه الفكرة لا تزيد عن كونها خداع برجوازي رخيص. فالمتتبع لتاريخ مصر الحديثة يكنه أن يرى بوضوح كيف أن العنف في هذا البلد – كما في كل مجتمع طبقي آخر – كان هو السلاح الأول الذي استخدمته الطبقة الحاكمة لفرض إرادتها وللحفاظ. وفي عهد مصر الرأسمالية بالتحديد كانت المحاولات الفاشلة للبرجوازية – على مدى قرن كامل – للتقدم في ساحة المنافسة الدولية هي المفسر الرئيسي لدمويتها؛ إذ لا يوجد مجال هنا لديمقراطية برجوازية وإنما فقط لعنف شامل ومنظم يلهب الظهور في محاولات متكررة لتحقيق التراكم المطلوب.
نحن نتحدث هنا عن تاريخ طويل يبدأ – إذا ما اقتصر رصدنا على مصر الحديثة فقط – من عهد محمد على ومشروعة التحديثي الذي قمع بالحديد والنار كل انتفاضات الفلاحين، ثم يمتد إلى مراحل أخرى ربما كانت أكثر تأثيرًا ووحشية: التحول الرأسمالي في الريف خاصة في منعطف نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ميلاد الرأسمالية الصناعية ثم اشتداد عودها في سنوات العشرينات والثلاثينات وما بعدها. وينتهي بنا الأمر إلى العصر الحالي وسياسات ما يسمونه الإصلاح الاقتصادي التي احتاجت الدولة – من أجل تمر يرها وفرضها – إلى رفع مستوى قمعية جهاز عنفها إلى درجة غير مسبوقة في طول التاريخ الحديث (لا شك في أننا جميعًا نفهم مغزى الزج بعشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، ومحاصرة الأحزاب والصحف والجمعيات، وقمع الإضرابات والاعتصامات بكل وحشية.
ثانيًا، بفحص هذه الفكرة – نقصد فكرة وسطية مصر – يمكننا أ، نكتشف بسهولة أنها تعتمد على تصور مثالي ولا تاريخي: الوسطية طبيعة في الشعب المصري منذ الأزل وإلى الأبد! هذا التصور – الذي يدافع عنه عشرات من العلماء الاجتماعيين المصريين – لا يصمد أمام أي نقد. وهو يخدم أعدائنا الطبقيين خدمة ثمينة بتأكيده على أن المشكلة، التي لا حل لها، تكمن في طبيعة الشعب المصري التي لا يمكن لأحد أن يغيرها. على أن الحقيقة هي على العكس من ذلك تمامًا. الشعوب تتغير. الشعب الروسي مثلاً – وهذا واحد من أمثلة عديدة – كان في مرحلة معينة خاضعًا، كما لو كان إلى الأبد، لسلطة استبدادية شرسة اعتبرت قلعة للرجعية في أوروبا كلها. هذا الشعب نفسه أصبح في غضون عقود قليلة مثالاً على الروح الثورية النبيلة وعلى التضحية النضالية. والتفسير لا يمكن أن نجده في عوامل أسطورية، وإنما في بروز طبقة عاملة ممركزة وقوية في مجتمع أصبح يعج بالتناقضات ويحتاج إلى قيادة ثورية. وهذا بالضبط هو المنطق الذي يمكن أن نحلل من خلاله تطور النزعات الثورية في المجتمع المصري: مدى عمق الأزمة الاجتماعية، ومدى استعداد المستغلين للمواجهة.
ثالثًا، وهذه في الحقيقة أهم نقطة، فإن فكرة الوسطية تخفي الوجه الثوري لمصر بالنسبة للماضي، وبالذات بالنسبة للمستقبل. ولكن بالرغم من أنه لا يمكننا القول أن مصر هي واحدة من الدول التي يصل فيها احتدام الصراع بين الطبقات إلى مستويات عالية تقارن بدول أخرى ذات تاريخ ثوري ناصع، إلا أنه ليس هناك شك في أن الصراع الطبقي هو الذي صنع تاريخ مصر الحديثة كغيرها من الدول. وليس هناك شك أيضًا في أن النضال الثوري أو الجذري للجماهير ضد الاستغلال والاضطهاد كان عنصرًا حاسمًا في تشكيل وجه التاريخ الحديث. ولنذكر فقط أنه في غضون قرن واحد – القرن العشرون – شهدت مصر ثورة جماهيرية (ثورة 1919)، كبلتها قيادتها للبرجوازية هذا صحيح، ولكنها بالرغم من ذلك خلقت “نصف” ديمقراطية برجوازية وأعطت دفعة للرأسمال المحلي؛ ثم شهد المجتمع في حوالي منتصف القرن موجة تجذير كبرى كان أوجهًا في 1946، وموجة أخرى حسمت بحريق القاهرة (يناير 1952)؛ ثم اندلعت في أعقاب هزيمة 1967 موجة مد في الصراع الطبقي انطلقت في 1968 وتراجعت – بعد تقلبات – عقب انتفاضة 1977 الشعبية؛ ثم ها نحن الآن نشهد موجات من التصاعد في النضالات الدفاعية بدءًا من أواسط الثمانينات إلى اليوم، وربما لم توقف هذه النضالات الدفاعية هجوم البرجوازية الوحشي ولكنها تعكس – بالتأكيد – تصاعد الغضب ضد توحش الرأسمالية في مطلع القرن الواحد والعشرين.
وسطية أم تكبيل برجوازي؟
هناك ذرة – ذرة واحدة فقط – من الحقيقة في فكرة وسطية مصر، وهي أن هذا البلد – كما ذكرنا من قبل – يصنف من ضمن البلدان التي وصل الصراع الطبقي فيها أقل من غيرها لغايته وذروته. ولن يجدي لفهم هذا الملمح من ملامح الصراع الاجتماعي المصري الاقتصار على ترديد النقد النظري لمفهوم الوسطية. فبعد ترديد النقد سيظل السؤال كما هو: لماذا لم تندلع (ثم تنتصر) ثورة عمالية في مصر؟ قبل الإجابة نبدأ بتشخيص الوضع تشخيصًا واضحًا: تقريبًا في كل نقطة عالية من الصراع الطبقي كبلت الجماهير – جماهير العمال خاصة – بالوطنية، أي كبلت بالخضوع لمصالح البرجوازية، وبالتالي تم احتواء وتدجين إمكانيات الثورة في مهدما. هل كان السبب في ذلك يكمن في قوة البرجوازية؟ في ضعف الطبقة العاملة؟ أم في طبيعة الوضع برمته؟ لن يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بإلقاء نظرة شاملة – ولكن مختصرة – على مسار النضال الطبقي في مصر، بالذات في النصف الأول من القرن العشرين العاصف والحاسم.
نبدأ بما هو أعم من مصر. اشتركت مصر مع غيرها من الدول المستعمرة في العديد من السمات. ولنفهم المشترك بين مصر وبين غيرها قد يكون مفيدًا أن نذكر أنفسنا بنظرية الاشتراكي الثوري الروسي ليون تروتسكي عن الثورة في البلدان الرأسمالية المتأخرة. فكرة تروتسكي كانت أن خصوصية التطور الرأسمالي في عهد الإمبريالية – من جانب أول ضعف البرجوازية الناشئة في كنف الاستعمار والدولة، ومن جانب آخر تمركز وصلابة عود الطبقة العاملة – ستؤدي إلى طرح مسألة الثورة العمالية على جدول أعمال الدول المتأخرة. لن تقدر البرجوازية على قيادة الثورة، وستحل محلها الطبقة العاملة، ولذلك بالضبط ستندمج الثورتان الوطنية (ضد الاستعمار) والاجتماعية (ضد رأس المال) في ثورة واحدة بقيادة الطبقة العاملة. والمحصلة النهائية للوضع كله – في رأي تروتسكي – هي ميلاد عصر الثورة الاشتراكية العالمية.
غني عن البيان أن هذا التوقعات لم تتحقق في مصر أو في أي من البلدان المتأخرة الأخرى. لم يكن هذا صدفة عابرة. وإنما كان انعكاسًا لغياب العنصر الذاتي الحاسم: الحزب الثوري. خطأ تروتسكي الأساسي لم يكن في إغفاله لأهمية الحزب الثوري – فقد ظل منذ العام 1917 وحتى النهاية المأساوية لحياته في 1940 يؤكد على الدور المحوري للحزب في إنجاح الثورة – ولكنه كان في إساءة تقديره الواضحة، خاصة في سنوات نشاطه الأخيرة، للعوامل السياسية المعاكسة التي أضعفت الطبقة العاملة وعرقلت بناء الحزب، والتي بالتالي سهلت تكبيل الحركة العمالية بقيود الوطنية والستالينية.
لنعد مرة أخرى إلى موضع في مصر. الذي ميز مصر – ومعها حفنة من البلدان المستعمرة الأكثر تطورًا كالهند مثلاً – هو البروز المبكر لدور احتكاري مسيطر لحزب برجوازي جماهيري (الوفد في مصر، والمؤتمر في الهند). هذا يختلف عن الحال في كثير من الدول المتأخرة الأخرى التي كانت أحزابها البرجوازية أدنى جماهيرية أو أكثر تفككًا أو رجعية، وبالتالي أقل قدرة على الهيمنة على الحركة الجماهيرية. هناك تفسيرات لذلك – النضوج النسبي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، التبلور الأعلى للطبقات الحديثة ولمصالحها، العوامل الذاتية المرتبطة بخبرة الطبقات والقوى السياسية وبتماسكها،… الخ – ولكن هنا ليس مجال تفصيلها. الأهم في سياقنا هذا هو التأكيد على التأثير المزدوج لهذه الظاهرة – نعني سيطرة حزب برجوازي على الحركة الوطنية – على مسار الصراع الطبقي في مصر في سنوات النصف الأول من القرن العشرين. فلقد هيأت هيمنة الوفد من ناحية أولى فرصة أكبر للبرجوازية الكبيرة والمتوسطة لاستيعاب الحركة العمالية في حدود “الوطنية المعتدلة”، وهو ما أدى في معظم المنعطفات إلى صياغة المسألة الاجتماعية كهامش من الدرجة الثانية على المتن الذي احتلته المسألة الوطنية. ثم لقد ساهمت هذه الهيمنة المبكرة من ناحية ثانية في تقليص مساحات النمو والتوسع الجماهيري لقوى الستالينية والوطنية الراديكالية التي قادت، في دول أخرى، ثورات وطنية ناجحة أو مهزومة.
والحق أنه ليس هناك من شك في أن حزب الوفد – الذي ولد في غمار ثورة 1919 – قد استطاع أن يهيمن لسنوات على الحركة الجماهيرية، وأن يؤطرها في الحدود الضيقة للمطالب الوطنية، وأن ينزع – بوجوده المؤثر الذي عكس القوة التماسك النسبيين للبرجوازية الناشئة – فتيل تصاعد واشتعال النضال الجماهيري الجذري. كان هذا هو الحال على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان، وكان هذا مفهومًا في سياق التوازنات الطبقية والسياسية للمرحلة. ولكن هنا يبرز سؤال لا يمكن الإجابة عليه فقط من خلال التأكيد على الدور المهيمن لحزب الوفد. هذا السؤال هو لماذا استمر غياب القوى العمالية الثورية حتى مع اهتزاز وتفكك حزب الوفد (بالذات بعد معاهدة 1936)، وحتى مع تصاعد الحركة العمالية (على مدى الأربعينات)؟ لقد ملئ الفراغ الذي خلقه التراجع النسبي للوفد بحركة الإخوان المسلمين ولم يملأ بحزب ثوري صاعد ومؤثر، فلماذا؟
لا شك أن الستالينية لعبت دورًا في هذا الصدد. الستالينية المصرية كانت أضعف بالتأكيد من مثيلتها في العديد من الدول المتأخرة الأخرى (لننظر لبلدان كالسودان وسوريا وإندونيسيا مثلاً)، والسبب كما ذكرنا من قبل لابد أنه كان في المراحل الأولى ذو صلة بالنفوذ الطاغي لحزب البرجوازية الجماهيري؛ ثم ارتبط فيما تلي ذلك من مراحل – بالإضافة إلى استمرار النفوذ الواسع للوفد – بعوامل ذاتية مؤثرة: الميول الانقسامية والعصبوية التي اشتهر بها الستالينيون المصريون، هذا ناهيك عن الذيلية المفرطة للمنظمات الشيوعية المصرية إزاء الوفد وباقي قوى “التحالف الوطني”.
ولكن على الرغم من ضعفها، إلا أن الستالينية المصرية – التي استمدت بعضًا من القوة من النفوذ الواسع للاتحاد السوفيتي والستالينية العمالية – اكتست بمسحة من “اليسارية” منحتها المصداقية الكافية لملء الفراغ السياسي على اليسار، وهو ما أضعف فرص النمو لأي بديل اشتراكي ثوري، حتى عندما كانت الكثير من العوامل الأخرى مهيأة. وهكذا، ففي مصر الأربعينات انجذب – للأسف – كل مناضل ضد السلطة يرفع راية الاشتراكية إلى قوة ضعيفة ومتخاذلة لا تهدف إلى الاشتراكية، بل بالعكس تسعى لتدشين تحالف مع البرجوازية لتحقيق ثورة وطنية. وقد كان في هذا التحالف – أو بالأحرى في تذيل الستالينين للبرجوازية – ما فيه الكفاية لوأد الحركة الجماهيرية قبل أن تخرج عن الإطار المرسوم لها.
لم يكن جوهر المسألة إذن في الوسطية المزعومة، وإنما في تكبيل الحركة العمالية والجماهيرية بقيود الوطنية وحبسها في القفص الحديدي للمصالح الضيقة والأنانية للبرجوازية و / أو البرجوازية الصغيرة. هذا لم يكن مأزق خاص تفردت به التجربة المصرية، وإنما سمة عامة شكلت – في مسارات متباينة بهذا القدر أو ذلك – مصير الثورة العمالية في مرحلة طغيان الستالينية وصعود الحركات الوطنية وانتعاش الرأسمالية العالمية. المسار المصري، داخل الإطار العام، كانت له تركيبته الفريدة التي بنيت، كما أشرنا من قبل، على امتزاج عدة عوامل: بروز مبكر لدور مهيمن لحزب برجوازي جماهيري؛ مزيج القوة والضعف في الستالينية المصرية (ضعيفة إلى الحد الذي منعها دائمًا من قيادة ثورة وطنية على النمط الصيني أو الفيتنامي مثلاً، وقوية بالدرجة الكافية التي تؤهلها للعب دور ذيل للبرجوازية يدجن الحركة العمالية)؛ ثم أخيرًا، وهذه نقطة لم نذكرها حتى الآن رغم أهميتها، ظهور الجيش فجأة (ولأسباب ليس هنا مجال شرحها) على مسرح الحياة السياسية وقطعه، بانقلاب 1952، لمسار يمكن أن يختمر ثوريًا. وبقية القصة معروفة. فقد حطم النظام الناصري، بديكتاتوريته وبإصلاحاته من أعلى وبرطانه الوطني واليساري، كل مساحات الفاعلية والاستقلال في الحركة العمالية والسياسية على وجه العموم.
التناقضات في قلب مصر:
الثورة استثناء ليس بمعنى أنها لا تصنع التاريخ ولكن بمعنى أنها لا تحدث كل يوم. هذه حقيقة تخص مصر وتخص كل الدول. وهي حقيقة هامة لابد من تذكرها حتى لا يكون بحثنا عن الثورة في مصر بحثًا صبيانيًا (لماذا لم تحدث اليوم؟!). ولذلك فإن نقاشنا فيما يلي للتناقضات الواهنة للرأسمالية المصرية ولمجتمعها الطبقي لابد أن يفهم لا كمؤشر على أن الثورة توشك اليوم – أو غدًا – أو تنفجر، وإنما كإبراز لحقيقة أنها أصبحت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ممكنة وضرورته.
لماذا نرى أن الثورة هي اليوم أقرب من أي لحظة مرت خلال الخمسين عامًا الماضية؟ لأن كل عناصر المعادلة التي شرحنا بعضها في القسم السابق من هذا المقال تغيرت: الستالينية سقطت سقوطًا مدويًا؛ الناصرية هي الأخرى سقطت بأوهامها الوطنية والقومية؛ السلاح حل محل الحرب والبرجوازية بدأت تتعاون مع إسرائيل؛ الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق المتوحش يقضون على مكتسبات تكرست على مدى عقود؛ البرجوازية مفلسة ومشروعها لـ “الإصلاح الاقتصاد” يترنح. هذه تغيرات هائلة: فإذا أضفنا إليها أزمة الرأسمالية العالمية وما يعنيه هذه من صعوبة فائقة لبروز “نمر” جديدة، يمكننا أن ندرك بوضوح أن شروط الصراع وإمكانية قد تغيرت حقًا.
اليوم نجد برجوازية سافرة وحشية في السلطة: بدون رتوش قومية، وبدون مواقف ضد إمبريالية، وبدون إصلاحات من أعلى – أي باختصار بدون أي من أسس شرعية وجماهيرية النظام الناصري. هذه البرجوازية – التي أثبتت المرة تلو المرة فشلها التاريخي في حل أزمة التراكم الرأسمالي وتوسيع السوق – تتبع، على الأقل منذ منتصف السبعينات، إستراتيجية “ليبرالية جديدة” مقوماتها هي الإفقار المنظم من أجل النفاذ للأسواق العالمية. فهل لهذه الإستراتيجية – في عصر الأزمة الرأسمالية – مستقبل؟ حقًا لقد نجحت هذه النوعية من السياسات – في سنوات السبعينات وبدرجة أقل في الثمانينات – في نقل حفنة من الدول المتأخرة إلى مصاف الدول المصنعية (نتذكر مثلاً تجارب الصين ودول النمور). ولكن هل هذا ممكن أن يحدث في مصر؟
لا يمكننا، ونحن نطرح إجابة هذا السؤال، إلا أن نتذكر ماركس – في منتصف القرن التاسع عشر – على البرجوازية الألمانية التي كان مثقفوها منشغلين بإنتاج الأفكار الفلسفية الفاسدة وبالتغني بعظمة الأمة كانعكاس لعجزهم إزاء البرجوازيتين الإنجليزية والفرنسية اللتين كانتا مشغولتين بإنتاج السلع المادية وبغزو الأسواق! هذا بالضبط هو حال مصر التي تعيش طبقتها الحاكمة على إنتاج وتصدير أوهام “أم الدنيا التي ستغزو – قريبًا – العالم”. ولكن هناك فارق. فبينما استطاعت ألمانيا، بعد عقود قليلة، أن تغزو الأسواق فعلاً، فإن مصر لم تقدر – على مدى قرن كامل – أن تجد لنفسها موطئ قدم خارج سوقها المحلي. وللدقة فإن البرجوازية المصرية تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فالأرقام التي لا تكذب أبدًا تقول أن الصادرات المصرية طوال عقد التسعينات – من 1990/1991 إلى 1998/1999 – لم تزد بأكثر من 406%، في حين زادت الواردات بحوالي 48.5 %.
لم تنجح الرأسمالية المصرية طوال قرن التحديث والتنمية – نقصد القرن العشرين – أن تجد لنفسها مكانًا تحت شمس السوق الرأسمالي العالمي. فلا يزال الاقتصاد المصري – وهو يمثل ليس أكثر من 10% من الاقتصاد البرازيلي، و14% من الاقتصاد الكوري، و20 % من الاقتصاد المكسيكي، و30% من الاقتصاد التركي، و50 % من الاقتصاد الجنوب أفريقي، و55% من الاقتصاد السعودي – يراوح في “منطقة التمنيات الرمادية”! فلا هو قطع من الخطوات ما يؤهله، مثل اقتصاديات كوريا وإسرائيل أسبانيا وغيرهم، لأن ينضم – ولو بالانتساب – لنادي الأقوياء؛ ولا هو أنهار تمامًا وفقد مقوماته وتفككت أوصاله. أما الانطلاقة الاقتصادية المزعومة، التي صدعتنا الدولة بالتهليل لها طوال سنوات منتصف التسعينات، فقد اتضح أنها مجرد فقاعة امتلأت قليلاً بسبب استئثار البرجوازية بالسوق المحلي ودعم الدولة اللا محدود لها، ثم انفجرت مع أول موجة ركود عالمي (في 1998).
إن صورة الاقتصاد المصري اليوم، بتناقضاته وأزماته، تعطينا مثلاً كلاسيكيا على “التطور المركب واللا متكافئ” في الدول الرأسمالية المتأخرة: من ناحية أولى هيكل صناعي أغلبه – إذا ما استثنينا الجزر الصغيرة من الصناعات المتقدمة و/ أو التصديرية – متقادم ولا يزيد نصيبه من الناتج الإجمالي عن 20%، ومن ناحية ثانية مزيج من الأنشطة الزراعية والخدمية التي تعتمد، مع استثناءات هامة، على أساليب إنتاجية عتيقة عفًا عليها الزمن تتجاور في مصر، في مطلع القرن الواحد والعشرون، أساليب إنتاجية بالية وأساليب إنتاجية شديدة الحداثة؛ وتتعايش على أرضها نواة عمالية صلبة وواسعة في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات، مع بحر واسع من البرجوازية الصغيرة (فلاحين، بروليتاريا رثة، متعطلين، تجار صغار، حرفيين،… الخ)؛ وهذا المزيج يعكس – في جانب منه على الأقل – أزمة التحديث الرأسمالي في هذا البلد الذي استطاع أن ينشئ قاعدة إنتاجية حديثة على درجة من الرسوخ كافية لخلق طبقة عاملة قوية وواسعة، ولكنه لم يستطع أن يخلق ديناميكية إنتاجية متوسعة وقادرة على تحقيق التراكم المطلوب للمنافسة وغزو الأسواق.
وعلى مدى ربع القرن المنصرم – أي بالتحديد منذ الانفتاح – استطاعت البرجوازية المصرية، من خلال مزيج من الدعم الخارجي والقمع الدموي وإعادة الهيكلة التدريجية المحسوبة، أن تحتوي أزمتها وتحتفظ بتماسكها وقوتها النسبيين إزاء الطبقات المستغلة، بالرغم من وضعها الاقتصادي المهزوم. بل أنها استطاعت ي أواسط التسعينات، وعبر سياسات السوق الحر الوحشية، أن تحقق عددًا من المكاسب الجزئية والمؤقتة ظهرت ي مؤشرات كمعدل النمو (أكثر من 5%)، والتضخم (أقل من 6%)، وعجز الموازنة (يتراوح ما بين 3.1 %). ولكن الذي لم تقدر البرجوازية المصرية أن تحققه – لا بالقمع ولا بـ “الإصلاح الاقتصادي” – هو أن تحل معضلتها الرئيسية: التناحر العنيف الذي يخلقه تأخرها وعدم قدرتها المستمرة على تأمين وضع قوي في السوق العالمي. ينعكس هذا التناحر ليس فقط في الأرقام والمعادلات الاقتصادية، وإنما في الحياة اليومية للجماهير، وفي قلبها جماهير العمال. ففي مصر – وعلى خلاف دول انطلقت من أوضاع شبيهة، ككوريا مثلاً – عانت الجماهير، ولا زالت تعاني، من ويلات الرأسمالية ومن بشاعات التطور المركب واللا متكافئ، ولكنها لم تتمتع أبدًا بثمرات التحديث الرأسمالي (الارتفاع الملموس في مستويات المعيشة، وفي الخدمات، وفي نوعية الحياة). ولنا بالتأكيد أن نتوقع أن التناحر – بما يعنيه من إفقار وقهر وبؤس – سوف تشتد حدته في الفترة المقبلة مع احتدام الأزمة الاقتصادية الحالية.
كلمة أخيرة:
قد نكون محقين – ونحن نعتقد هذا بالتأكيد – حينما نقول أن مصر ناضجة موضوعيًا اليوم للثورة أكثر من أي وقت مضى خلال الخمسين عامًا الماضية. ولكن هذا في حد ذاته لا يحل المعضلة. فالثورة لا تندلع – والأهم لا تنتصر – بشكل اتوماتيكي لمجرد أن التناحر الطبقي الموضوعي يشتد. في مقدر البرجوازية أن تتجاوز أي أزمة وأي مأزق إذا ما رضيت الطبقات الخاضعة أن تدفع الثمن. هذا بالضبط ما يعطي العنصر الذاتي دوره الحاسم، وهذا بالضبط ما يضفي على مسألة الحزب العمالي الثوري أهمية ملحة. الثورة إذن معركة. وكأي معركة فهي تعتمد، إلى جانب الشروط الموضوعية المهيأة، على الحزب الثوري، والإدارة التي لا تلين، والقيادة ذات الخبرة والصلابة.
هنا بالتحديد تكمن المشكلة الكبرى للثورة المصرية المقبلة، وتكمن المشكلة الكبرى لكل ثورة. هذه مشكلة لم نتناولها في هذا المقال، ولن نتناولها بالتأكيد في خاتمته. ولكننا نطرحها هنا بوضوح لنؤكد على أن هناك وجهًا آخر – شديد الأهمية – لمعضلة الثورة المصرية، وعلى أن لنا – نعني الاشتراكيين الثوريين المصريين – دورًا، ربما كان اليوم صغيرًا جدًا، في حله، وبالتالي في تحقيق الانتصار النهائي للثورة.