بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

وفاة سليمان: الثورة المصرية تبقى ويرحل جلادوها

 • المقال منشور لأول مرة في 21 يوليو بموقع الجزيرة باللغة الإنجليزية

يعد عمر سليمان رئيس المخابرات ونائب مبارك السابق شخصية خلافية ومثيرة للجدل، كما أنه أحد أشد الرجال إخلاصاً للإدارة السياسية السابقة. وفي فبراير 2011، عندما احتل الملايين من المصريين ميدان التحرير، سُئل الرجل المسئول عن أمن مبارك حول ما يرغب في أن يفعله المحتجون الآن؟

وكانت إجابته "أريدهم أن يعودوا إلى منازلهم".

توفي اللواء عمر سليمان، الرئيس السابق لجهاز المخابرات المصرية العامة، ونائب حسني مبارك في الفترة القصيرة التي سبقت الإطاحة به، والمرشح السابق للرئاسة، يوم 19 يوليو 2012، عن عمر يناهز السادسة والسبعين عاماً، في كليفلاند بولاية أوهايو الأمريكية. ولكن مما لا شك فيه أن الرجل قد ترك وراءه ميراثاً سوف يستمر طويلاً.

ترأس سليمان جهاز المخابرات، مؤسسة مكافحة التجسس في مصر، لمدة ثمانية عشر عاماً في الفترة من 1993 وحتى 2011، مما تعد أطول فترة خدمة لرئيس المخابرات منذ أن تأسست عام 1954. فحتى اللواء "صلاح نصر" الذي يرجع إليه الفضل في بناء المؤسسة وبدء ما عرف بـ "حرب تجسس ضد إسرائيل" ترأسها لمدة عشر سنوات فقط من 1957 وحتى عام 1967.

لقد ترك سليمان ميراثاً فريداً من نوعه. فخلال فترة ولايته لجهاز المخابرات، ترسخ في أذهان الكثير من المصريين أن دور المؤسسة الأساسي قد تغير من مكافحة الجاسوسية خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، إلى مكافحة المعارضة المصرية وخصوصاً الإسلاميين، وهو ما يعد تغيراً كبيراً في عقيدة تلك المؤسسة.

وأخذ جهاز المخابرات في السعي وراء رموز المعارضة المصرية ومراقبتهم في الداخل والخارج، وكان هذا يتم بالتنسيق مع أجهزة مخابرات عالمية بما فيها أجهزة الأمن الإسرائيلية. ومن المعروف أن جهاز المخابرات المصرية كان يقوم بعمليات تعذيب بحق المواطنين المصريين والعرب بهدف انتزاع معلومات لصالح أجهزة أمنية أجنبية، ولعل أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

ومن خلال التدبير والتخطيط لمثل هذه الأفعال، ظهر إسم سليمان في العديد من البرقيات الدبلوماسية المتبادلة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، والتي نشرت "ويكيليكس" بعضها مؤخراً. في إحدى البرقيات "السرية" المرسلة من السفارة الأمريكية بالقاهرة، وصفت العلاقة المصرية الأمريكية بالتالي:

"في هذا الصدد إن تعاوننا الاستخباراتي مع عمر سليمان، الذي من المتوقع أن يزور واشنطن الأسبوع المقبل، على الأرجح هو العنصر الأكثر نجاحاً في هذه العلاقة الآن".

لكن تغير عقيدة المؤسسة المخابراتية والتحول السلوكي الناتج عن هذا التغيير، ورط سليمان في الكثير من الجرائم المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان. ولقد اتهمت منظمات حقوق الإنسان بالإضافة إلى النشطاء السياسيين، كل من سليمان ومن وراءه مؤسسته المخابراتية، بتنفيذ عمليات تعذيب والتواطئ عليها، إلى جانب تنفيذ عقوبة الإعدام على بعض المعتقلين خارج نطاق القضاء، والقيام بعمليات ترحيل وتسليم سرية بحقهم أيضاً.

دور وكالة المخابرات الأمريكية

أحد أبرز تلك الانتهاكات، هو ما حدث مع "طلعت فؤاد قاسم" لاجئ مصري في الدنمارك، وكما ورد فإن طلعت كان قائد الجناح المسلح داخل "الجماعة الإسلامية" في التسعينيات. ووفقاً لـ "ريتشارد كلارك"، الذي أصبح لاحقاً رئيس مجموعة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأمريكي، فإن القوات الأمريكية احتجزت "قاسم" ومن ثم تم تسليمه للمخابرات العامة المصرية. ومنذ ذلك الحين لم يظهر مطلقاً، ويعتقد محاميو "قاسم" وعائلته أنه قد تم إعدامه عام 1995.

ابن الشيخ الليبي (علي بن محمد الفاخري)، ثاني أشهر القضايا سيئة السمعة في عهد سليمان. وعلي الفاخري مواطن ليبي يقال أنه تم القبض عليه واستجوابه بواسطة كل من وكالة الاستخبارات الأمريكية والمخابرات العامة المصرية، بالتعاون مع أجهزة أمنية أخرى.

اعتمدت إدارة "جورج بوش" على معلومات كاذبة أدلى بها الليبي تحت وطأة تعذيبه على يد رجال المخابرات المصرية، وقدمتها كدليل على وجود علاقة بين "صدام حسين" وتنظيم "القاعدة" في الأشهر التي سبقت الغزو الأمريكي للرعاق عام 2003.

وعندما ثبت كذب تلك المعلومات، كان هذا مصدر إحراج شخصي كبير لسليمان. ليس فقط لأنه عذب مواطن عربي بهدف انتزاع معلومات لصالح وكالة المخابرات الأمريكية، ولكن لأنه قد دونما وعي مبرراً لإدراة لغزو العراق. هذا بالإضافة إلى العجز الواضح عن تقييم المعلومات التي تنتزع تحت التعذيب. والأدهى من ذلك أنه قد تم تسليم "الليبي" لنظام القذافي في ليبيا، حيث كان سليمان في زيارة لها في مايو 2009. وفور إقلاع طائرة سليمان، أعلن نظام القذافي أن "الليبي" قد انتحر.

"هذه نكتة دموية"، هكذا أخبرني عضو سابق في "الجماعة الليبية المقاتلة"، الذي كان مسجوناً مع "الليبي" في سجن "أبو سليم" بطرابلس عندما اجريت حوراً معه. "إن "الليبي" رجل مؤمن. مستحيل أن يتقرف مثل هذا الذنب. لقد قتله جهاز الأمن الليبي لصالح سليمان".

المخابرات والسياسة

على الصعيد المحلي، عزز سليمان من الدور السياسي لجهاز المخابرات المصرية، الأمر الذي أصبح واضحاً تماماً أثناء الثورة. قاد سليمان المفاوضات بعض القوى السياسية الراغبة في التغيير خلال الثمانية عشر يوماً الأولى للثورة، بما فيهم جماعة "الإخوان المسلمين"، التنظيم الذي طالما اتهم بالإرهاب.

عرض سليمان على جماعة الإخوان المسلمين حزمة من الإصلاحات السياسية، حال موافقتهم على إنهاء اعتصام ميدان التحرير. وإلا، "ستواجهون إنقلاباً عسكرياً صريح وحاد"، هكذا أخبرهم في أحد اللقاءات التفاوضية، وفقاً لرواية الشاعر الشهير "عبد الرحمن يوسف".

سليمان كان يتقن عمليات الاستقطاب، والترهيب، والخداع، إلى جانب التكتيكات التحريضية. ولقد كان بارعاً للغاية في استخدام تلك التكتيكات ضد المعارضة المصرية، إلى أن اندلعت ثورة يناير 2011. الثورة التي تسببت في تقويض أسطورته في نهاية المطاف.

عاش سليمان بالقدر الذي مكنه من مشاهدة معتقل سياسي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وهو يصبح رئيساً مصرياً منتخباً، وضحايا التعذيب أعضاءاً في البرلمان، ولكن يبقى أنه استبعد من منصبه، لكنه لا يزال مؤثراً. لم يكن سليمان واحداً من التسعة عشر جنرال الذين شكلوا "المجلس العسكري الحاكم". فهو ينتمي إلى فصيل داخل المؤسسة الحاكمة، كان يؤمن بأن "مبارك" ينبغي أن يبقى حاكماً مهما كان الثمن.

وإن لم يكن، فخروجاً مشرفاً، مع ضمان الحصانة من الملاحقة القضائية. لم تنجح مساعي هذا الفصيل، وبالتالي كان لهذا الفشل أثره على مصير جهاز المخابرات المصرية. لقد تولت المخابرات العسكرية، برئاسة اللواء "عبد الفتاح السيسي" بعض مهام جهاز المخابرات العامة، إلى جانب منحها صلاحيات قضائية استثنائية، مثل قانون الضبطية القضائية الذي يمكنهم من اعتقال المدنيين (وهو القرار الذي ألغي لاحقاً).

محاولات العودة

ورغم الهزيمة، فإن أنصار مبارك ينظروا إلى سليمان بوصفه الرجل الوطني الذي لم يتخل عن قائده. بالنسبة لهم، كان الشخص الأمثل للالتفاف حوله ودعمه. "اللواء سليمان عائد مرة أخرى، وسوف يخرس كل الكلاب"، هكذا أخبرني أحد أنصاره الذين تجمعوا في حشد صغير عقب إعلان رئيس المخابرات السابق عن عزمه في خوض الانتخابات الرئاسية. هذه المحاولة كانت، في الواقع، واحدة من عدة محاولات قامت بها القوي الموالية لمبارك من أجل إستعادة السيطرة مرة أخرى. أشتملت هذه المحاولات على جهود حثيثة في مجالات شتى، بما فيها الانتخابات الرئاسية.

ومع ذلك، لا يزال قدر مشاركة سليمان المباشرة في مثل هذه المحاولات، غير معروف حتى الآن. ولكنه كان بلا شك ذي دور فعّال حتى النهاية. وخلال فترة ترشحه، هدد سليمان – في محاولة منه لإثارة فوضى سياسية- بإفشاء معلومات سرية مما أسماه "صندوقه الأسود". وهو الأمر الذي دعا جهاز المخابرات العامة المصرية، لأن يصدر بيان علنياً لأول مره في تاريخ الجهاز: ليذكر "بالقانون رقم 100 بشأن المخابرات العامة" والذي يحظر المشاركة السياسية على أعضاء الجهاز، ويمنعهم من تدوال وإفشاء المعلومات السرية.

وبالرغم من إحتمالية استمرار العمل بنفس النهج الذي أرساه سليمان، إلا أن وفاته تبشر ببداية عهد جديد. وعلى كل الأحوال، فإن مصر تشهد الآن ثورة فيما يتعلق بالشفافية والمساءلة والحرية. وأول إختبارات الثورة هو إلى أي مدى سيتمكن المدنيين المنتخبين من السيطرة الحقيقية على جهاز المخابرات والأجهزة الامنية الأخرى. فسليمان كان ليقف بقوة وفاعلية ضد أي تحول ديمقراطي حقيقي. لهذا فإن وفاته تعد إنهيار لعقبة أخرى من العقبات التي تعرقل بشراسة انتقال مصر نحو الحكم الديمقراطي المدني.

عمر عاشور: أستاذ محاضر في علوم السياسية والدراسات الاستراتيجية، ومدير برنامج الدراسات العليا لسياسة الشرق الأوسط – معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر البريطانية.