أوهام البرلمان
هناك أوهام كبيرة حول قدرة البرلمان على إصدار التشريعات ومراقبة الحكومة، وبالتالي قدرته على تحسين حياة الجماهير.
لكن هذه الأوهام تتبدد عندما تتغير البرلمانات، وتبقى الأوضاع المتردية للجماهير دون تغير. ولا تكمن المشكلة في أداء البرلمان، بل في طبيعته، وطبيعة علاقته بالطبقة الحاكمة.
يتكون البرلمان من نواب لمناطق جغرافية واسعة، وينوب الفرد عن عدد كبير من السكان (في مصر تقريباً ربع مليون مواطن) تتنوع أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير. ولكي يحصل المرشح على أصوات الأغلبية فإنه يحتاج إلى أموال طائلة يستخدمها في الدعاية المباشرة وغير المباشرة التي قد تبدأ قبل الانتخابات بسنوات.
كما قد يضطر إلى التحالف مع أصحاب النفوذ في دائرته لقدرتهم على حشد الأصوات والتبرع لحملته الانتخابية. وهو ما يجعله خاضعاً لهم بعد نجاحه.
وهذا النموذج الفردي المبسط ينطبق بوضوح أكبر على الأحزاب السياسية: حيث يتكاتف أصحاب المصالح من أجل بناء حزب يدافع عن مصالحهم، وهنا يتحول الرأسماليون الأفراد إلى طبقة إجتماعية تبني مؤسسة سياسية تدافع عن مصالحها.
وقد يكون للطبقة أكثر من حزب إذا اتسعت وتباينت مصالحها الداخلية، لكنها تبقى في النهاية طبقة واحدة متماسكة في مواجهة المجتمع ككل. ويفسر هذا استمرار نفس السياسات مع تغير الحزب صاحب الأغلبية في كل برلمانات العالم تقريبا ً مع تغير بعض التكتيكات من حزب إلى آخر.
لهذا يعتبر البرلمان أداة سيطرة للرأسمالية على الدولة حيث يحدد السياسات ويشكل الحكومة التي تنفذها. لكن على الطبقة الحاكمة أن تقنع (توهم) باقي الطبقات (الشعب) حول إمكانية التغيير وتحسين الأحوال عبر البرلمان.
لقد أطاحت الثورة المصرية بمبارك وبرلمانه وحزبه، لكنها لم تطح بالنظام الحاكم الذي حاول باستماتة الحفاظ على نفس سياسات مبارك، وتحجيم الحركة الجماهيرية، وتحويل مسار الثورة إلى انتخابات برلمانية سوف تأتي بخصم سياسي في الظاهر، لكنه رغم ذلك حليف طبقي في الحقيقة.
فالأحزاب الدينية والليبرالية لا تختلف في تصوارتها الاقتصادية والخارجية عن الحزب الوطني، كما عبروا هم بلسانهم، بل أن قادة الإخوان مدحوا سياسات مبارك الاقتصادية وأكدوا على تمسكهم بها، تلك السياسات التي أفقرت الشعب المصري. وأكد إعلام النظام على أهمية البرلمان وقدرته على تغيير الأحوال المعيشية لملايين المصريين، الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم الاجتماعية. وكانت النغمة السائدة: اصبروا لما يبقى عندنا برلمان.
جاءت تشكيلة البرلمان مخيبة لتوقعات الثورية لدرجة دعت البعض لاتهام الشعب بالغباء، وهو غير صحيح. فلقد تمت الانتخابات من قبل تحت سطوة أجهزة الأمن وعلى أسس غير سياسية، وكان الإخوان المسلمون يتصدرون المشهد في مواجهة الحزب الوطني لما لهم من قدرات مادية وتنظيمية.
وبعد إزاحة الحزب الوطني والقبضة الأمنية كانت الفرصة أكبر للإخوان، والسلفيين الذين قفزوا إلى الساحة بأموال طائلة وحالة من الاستقطاب الديني واستفادوا من الدعاية الدينية للإخوان. ويكمن القول أن الجماهير لا تقفز فجأة إلى المجهول في إطار لعبة سياسية مغلقة، ولكنها تختار الأقل فساداً من المرتبطين عضويا ً بمصالحها داخل إطار هذه اللعبة.
لكن الضغط على الجماهير وتصدير الأوهام حول البرلمان، جعل هذه الجماهير تحتشد وتعلق آمالها عليه، وهو ما جعله برلمان تحت الحصار عملياً، وهو ما أدى بدوره إلى إحباط شعبي سريع من أداء النواب بعد عدة جلسات فقط.
ومن المتوقع أن يتحول هذا الإحباط إلى غضب، حين يستكمل البرلمان مسيرة مبارك ويناقش مشروعات قوانين مثل التأمين الصحي وقانون الإيجارات ورفع الدعم، وغيرها من القوانين التي لم يتمكن برلمان مبارك من إصدارها، والتي لا تصب إطلاقأ في مصلحة الجماهير.
وبالطبع سيطالب أعضاء البرلمان بفرصة لإصلاح ما أفسده مبارك، كما طالب مبارك من قبل بفرصة، ويناشدون الجماهير أن تصبر مرة أخرى. لكن الشعوب أثناء الثورات لا تصبر طويلاً. أثناء الثورات تسقط حكومات وبرلمانات وأوهام.
هناك احتمال أن تظل الجماهير في حلقة مفرغة من الخداع، وتعود سيرتها الأولى من مقاطعة الانتخابات والاستسلام لواقع الحال، إلا إذا تدخلت القوى الثورية وقدمت للجماهير وفي القلب منها الطبقة العاملة طريقة جديدة من الديمقراطية المباشرة من خلال اللجان الشعبية في الأحياء والقرى لتنظيم الحركة الجماهيرية وتشكيل قوة ضغط على البرلمان، بالإضافة إلى لجان المصانع والنقابات المستقلة وتجذيرها في الواقع.
هذه الأشكال التي تمارس فيها الديموقراطية مباشرة وبشكل يومي، في كل تفاصيل الحياة والتي تخدم الغالبية العظمى من الشعب. إن بناء هذه المؤسسات هو استكمال للثورة المصرية، واحتشاد في مواجهة الطبقة الرأسمالية الحاكمة، وتجاوز لمؤسساتها، وأوهامها حول تلك المؤسسات.
اقرأ أيضاً: