مرة أخرى.. الكشف عن جاسوس لإسرائيل
ولا تزال العلاقات المصرية الإسرائيلية.. مستمرة
دائماً ما تثير قضايا التخابر مع جهات أجنبية جدلاً رغم اختلاف توقيت الإعلان عنها وطريقته والمساحات المفردة في الصحف والمجلات للحديث عن مثل هذه القضايا يختلف من حالة لأخرى.
وقد مرت أسابيع على الكشف عن قضية تخابر جديدة المتهم فيها هو محمد عصام غنيمي حسن العطار (30 سنة) المتهم بالتخابر مع الموساد، والذي تم إلقاء القبض عليه وهو في المطار أثناء عودته إلي مصر من كندا لزيارة أهله لعدة أيام.
أعلنت أجهزة الأمن المصرية أنها رصدت المتهم منذ خمس سنوات في تركيا وكندا ورصدت علاقاته مع الضباط الإسرائيليين، الذين استخدموه في تجنيد المواطنين المصريين والعرب في الخارج للعمل مع المخابرات الإسرائيلية. القضية أثيرت في الصحف القومية لعدة أيام تحديداً من يوم 4/2 حتى يوم 6/2 ثم تجاهلتها تلك الصحف تماماً حتى يوم 12/2 لتنشر يومها خبراً صغيراً عن موعد محاكمة المتهم الأول في القضية محمد عصام أمام محكمة استئناف القاهرة. هكذا دون ضجة أو تحقيقات صحفية أو مانشيتات عريضة ساخنة “مررت” الصحف القومية قضية هامة كتلك لتترك لنا علامة استفهام كبيرة وتساؤل عن سبب كشف الأجهزة الأمنية الغطاء عن هذه القضية في الوقت الحالي طالما أنها ستمررها بهذه السرعة وكأنها لم تكن!!
قضية الفلالي ومظاهرات الانتفاضة
الكشف عن قضايا التخابر لا يكون أبداً أمراً منزهاً عن الحسابات السياسية التي يجريها النظام، حساباته ومصالحه وليست حسابات ومصالح الجماهير بالطبع. فعادة ما تكون هذه القضايا أدوات يستخدمها النظام لتحقيق أغراض بعينها، فمثلاً وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية اشتعلت شوارع القاهرة بغضب الجماهير وأصبحت المظاهرات خبراً يومياً. تعرض نظام مبارك لضغط عنيف بسبب موجة الغضب العارم التي خشي أن تقتلعه وأركان نظامه من جذوره، حتى أن صحيفة هآرتس الإسرائيلية كتبت واصفة مبارك بأنه كان يتصرف وكأن الانتفاضة تحدث في مصر!! اضطرت الأحداث النظام أن يتخذ بعض الإجراءات لتهدئة الجماهير وللظهور أمامهم وكأنه في نفس الخندق معهم، فبدأت الصحافة الرسمية حملات دعائية ضد إسرائيل، وحملت تصريحات مبارك انتقادات لاذعة للسياسات الإسرائيلية والتي وصفها بالتعنت والإضرار بالسلام، ثم جاء موعد تفجير قضية المهندس شريف الفيلالي. قضية تخابر جديدة المتهم فيها مهندس مصري ذكر تقرير الادعاء عنه أنه تخرج في كلية الهندسة جامعة القاهرة سنة 1990 ثم سافر إلى ألمانيا عندما لم يجد عملا مناسبا له في مصر. وأثناء وجوده في ألمانيا تعرف على يهودية ألمانية اصطحبته معها إلى أسبانيا حيث قام المتهم الروسي بتجنيده لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) -هذا حسب تقرير الادعاء- وقام عملاء للموساد بتدريب الفيلالي في أسبانيا حيث تعلم أيضا اللغة العبرية قبل أن يعود إلى مصر سنة 1998. الملفت للنظر هنا أن القضية لم تحتوي على متهمين إسرائيليين، حتى أن المسئول الإعلامي بالسفارة الإسرائيلية في القاهرة قال إن الأمر شأن داخلي مصري طالما لا يوجد إسرائيليون بين المتهمين. وأضاف انه لن يتم إعلامهم بأي شيء يتعلق بهذه القضية بشكل رسمي. القضية أفردت لها صحف الحكومة صفحات كاملة، تحقيقات وحوارات تتحدث عن أهمية الدور الذي لعبه رجال الأمن المصريين- العيون الساهرة!!- لحماية أمن وسلامة الوطن الذي يستهدفه العدو الإسرائيلي. في الوقت ذاته كان رجال الأمن -العيون الساهرةً- يسحلون المتظاهرين حول جامعة القاهرة والجامع الأزهر ومختلف شوارع العاصمة!!
لم يكن الأمر إذاً أكثر من محاولة للتهدئة أخذت وقتها ثم عادت الأمور لما كانت عليه، حتى أن صحيفة جيروسالم بوست الإسرائيلية نشرت مقالاً يوم 13/4/2001 قالت فيه إن “هناك بوادر تبعث على الأمل كما يقول زيفي مازال (السفير الإسرائيلي وقتها)، حيث استقبل الأسبوع الماضي في القاهرة وفد زراعي إسرائيلي استقبالاً حاراً من قبل وزير الزراعة المصري، كما دشن هذا الأسبوع أيضاً مشروع مصري-إسرائيلي مشترك لإنشاء مصفاة للنفط، وتم حفل التدشين دون أي صخب إعلامي، المهم تم الاحتفال والعلاقات الدبلوماسية لازالت كما هي”.
في هذه الحالة لم يتعد الأمر إذاً مناورة سياسية لتهدئة الرأي العام لم يتوقف التطبيع بسببها إلا شهوراً معدودة ثم سرعان ما استأنف مسيرته ال”مباركـ”ــه.
عزام عزام … والكويز
وفي ديسمبر 2004 أفرج عن عزام عزام ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي ألقي القبض عليه سنة 1997، وحكم عليه بالسجن 15 سنة قضى منه سبع سنوات فقط ثم أفرج عنه بدعوى سوء حالته الصحية!!! ورفض النظام أن يكون هذا جزء من صفقة للإفراج عن الطلاب المصريين الستة الذين كانت إسرائيل تحتجزهم منذ أغسطس 2004 بحجة تسللهم عبر الحدود المصرية الفلسطينية للقيام بعملية فدائية ضد أهداف إسرائيلية، بالرغم من أن الحكومة الإسرائيلية أفرجت عن الطلاب الستة بعد تسلمها عزام عزام على الفور، فهل كان ذلك نوع من المجاملة مثلاً؟! وعلى الرغم من ذلك التزامن، إلا أن مؤشرات كثيرة تقول إن الصفقة أكبر من ذلك بكثير. فكما ورد في كراسة عن اتفاقية الكويز، أصدرتها المجموعة المصرية لمناهضة العولمة “أجيج”، رفض النظام المصري “مرارا وتكرارا مبادلة عزام عزام من قبل.. فقد رفض في أغسطس 2002 مبادلة عزام بالمصريين الثمانية الذين ضبطوا على متن السفينة “كارين A”، وهي سفينة ضبطتها إسرائيل في عرض البحر الأحمر وعلى متنها كميات وفيرة من الأسلحة والذخائر، ادعت إسرائيل أن الفلسطينيين يقفون وراء تهريبها. كما رفض في أكتوبر من العام نفسه عرضا تقدم به الوزير الإسرائيلي داني نافيه، الذي كان يقوم بزيارة لمصر وقتها، بالإفراج عن عزام مقابل إطلاق سراح 46 جنائيا مصريا في السجون الإسرائيلية. وفي يونيو 2003 ترددت أنباء صحفية عن صفقة لمبادلة عزام بمروان البرغوثي. وفي 14/10/2003 أرسل الأسري الفلسطينيون في سجون الاحتلال رسالة إلى مبارك يناشدونه فيها بعدم الإفراج عن عزام إلا مقابل الإفراج عنهم. وقد رفض مبارك في نوفمبر 2003 إطلاق الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام مقابل الأسير اللبناني سمير القنطار المعتقل في إسرائيل منذ عام 1979. وفي 6/9/2004 أذاع راديو سوا الأمريكي خبرا عن إطلاق عزام مقابل كل السجناء المصريين في السجون الإسرائيلية، إلا أن وكالة أنباء الشرق الأوسط نفت الخبر”.
من كل ما سبق يتأكد أن الموضوع أكبر بكثير من قضية الطلاب الستة، فقد كان في الأمر صفقة وصفت بأنها الأكبر والأجرأ منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد. فبعد أسبوع من الإفراج عن عزام وقع النظام المصري مع أمريكا وإسرائيل اتفاقية الكويز. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب ففي حوار للقناة الثانية الإسرائيلية، حدد حاييم إبراموفيتش المعلق السياسي القريب من مراكز صنع القرار في إسرائيل، ملامح الصفقة الحقيقية التي تمت بين مصر وإسرائيل على النحو التالي: التفاهم على إطار بين مصر وإسرائيل لتحديد الصورة التي ستدار بها المفاوضات بين الفلسطينيين بقيادة أبو مازن وبين إسرائيل. المضي قدما في تنفيذ خطة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة كجزء من خريطة الطريق وليس كإجراء أحادي الجانب، على أن تكون مصر طرفاً ثالثاً في هذه المسيرة. علاوة على التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية “الكويز”. وبدء تنفيذ صفقة تصدير الغاز المصري لإسرائيل التي تم الانتهاء من تفاصيلها في وقت سابق، بعد أن تباطأت مصر في تنفيذها لمدة تزيد على عامين.
كما لم تخلو الصفقة من شق أمني وهو ما كشف عنه وزير الجيش الإسرائيلي وقتها شاؤول موفاز، الذي قال إن “إسرائيل ومصر اتخذتا قراراً بالتعاون الأمني المشترك في مكافحة الإرهاب”، وأضاف: “هذه هي خطوة استراتيجية مهمة تشمل نشر قوات مصرية في محور “فيلادلفيا”، والسماح بنشر خبراء أمنيين مصريين في قطاع غزة وفتح مكتب مصالح مصري في الضفة الغربية، والبحث عن مفقودين في سيناء من حرب 1973”!
وكان حاييم إبراموفيتش قد حدد ملامح هذا الشق الأمني على النحو التالي: الاتفاق على الصيغة النهائية لانسحاب الجيش الإسرائيلي من منطقة الحدود بين قطاع غزة ومصر، وتعزيز قوات الجيش المصري، وليس الشرطة على هذا الخط. أي بشكل عملي تولي مصر مسئولية الأمن داخل قطاع غزة، وقيام مصر بتدريب قوات الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية. كما أكد المعلق الإسرائيلي على أن هذه الصفقة تشمل أيضا عودة السفير المصري إلى تل أبيب عقب انتخابات السلطة الفلسطينية، وقال أنه سيتم تعيين سفير مصري جديد بدلا من السفير الحالي محمد البسيوني.
عصام الغنيمي … وإحياء عملية السلام
هكذا يصبح الإفراج عن جاسوس أو الكشف عن جاسوس أخر أمر خاضع للمصالح الاقتصادية والسياسية المختلفة للنظام. ومن هذه الزاوية يمكننا أن نحلل خطوة الإقدام على الكشف عن قضية التخابر الأخيرة ثم التراجع خطوة للخلف بإهمال القضية تدريجياً على المستوي الإعلامي، وكأن هذه القضية لا تمثل أي خطورة على “الأمن القومي” المزعوم. ففي نفس يوم الكشف عن قضية التخابر نشرت صحيفة “المصري اليوم” أن أحمد أبو الغيط وزير الخارجية تلقى اتصالا هاتفيا من وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، تم خلاله استعراض آخر التطورات المرتبطة بجهود إحياء عملية السلام واستئناف المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ونفت مصادر دبلوماسية أن يكون هناك رابط بين هذا الاتصال وبين قضية التخابر، وبالرغم من أن المتهم في القضية قد ألقي القبض عليه في الأول من يناير الماضي إلا أنه لم يتم الكشف عن القضية إلا في 4 فبراير. طوال هذه الفترة لم تتوقف العلاقات الدبلوماسية بين النظام المصري والحكومة الإسرائيلية، لا قبل الكشف عن القضية ولا بعدها. مما يجعل الكشف عن القضية في الوقت الحالي يبدو وكأنه جاء للتغطية على الدور المصري في الضغط على حكومة حماس المنتخبة ديموقراطياً للقبول بحكومة وحدة وطنية مع فتح المدعومة من أمريكا وإسرائيل، وربما أيضاً للتغطية حول ما أشيع عن الدور المصري في مد حركة فتح بالسلاح والعتاد الكافيين لمواجهة حماس في الفترة التي سبقت توقيع اتفاق مكة.
بقي هنا أن نقارن بين موقف النظام المصري بعد إعلان إلقاء القبض على مصري بتهمة التخابر لصالح إيران وبين موقفه الحالي بعد إعلان الكشف عن قضية التخابر الأخيرة لصالح إسرائيل. ففي الأول أفردت صفحات من الجرائد القومية للحديث عن القضية وشرع مثقفو السلطة وصحفيو النظام في تحليل الخطر الإيراني على مصر وعلى مصالح المنطقة ككل. كذلك تراجع النظام عن كل وعوده باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران، كل هذا بالرغم من اعتراف النظام بأن الجاسوس المصري قد تم تجنيده من قِبل الحرس الثوري الإيراني وهو يقع خارج دائرة نفوذ الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي أي أن القضية كلها ربما تمت دون علمه. إلا أن النظام المصري انتهز الفرصة لكي يفلت من تعهده بإعادة العلاقات مع إيران، في الوقت الذي بدا فيه أن أزمة الملف النووي الإيراني تتجه من سيء إلى أسوأ وأن التقارب مع إيران قد يضر بعلاقات النظام المصري مع الإدارة الأمريكية.
وهكذا تصبح قضايا التجسس والتخابر وسائل في يد النظام يستخدمها لأغراض عدة بعيدة عن شعارات الحفاظ على المصالح الوطنية والقومية التي يرددها نظام مبارك ليداري سوءته.