عيد «تحرير» سيناء
يوم إجازة.. ووطن منزوع السيادة
“سينا رجعت كاملة لينا.. ومصر اليوم في عيد” (شادية)
“كسبت القضية أنا.. سي أنور فتح القناة” (الشيخ إمام)
الفرق بين أغنية “شادية” وأغنية الشيخ إمام ليس “التفاؤل والتشاؤم” ولا “الأمل والإحباط” ولكن هو الفرق بين “الوهم والحقيقة”.
يحل في 25 أبريل من كل عام يوم “تحرير” سيناء، ولو لم تكن هذه المرة الأولى التي نفتح فيها ملف سيناء، وأن “نُشكك ونُعيب ونُخون” كل من أضاعوها، فإنه من حقنا اليوم أن نفعل ذلك ألف مرة بعد أن أصبح لدينا “تحرير بس بجد”.. فلن ننسى أن ستة من الضباط والجنود المصريين قتلتهم إسرائيل “داخل الأراضي المصرية” في أغسطس 2011.
احتلت إسرائيل سيناء في يونيو 1967، ضمن أراضي شاسعة، بعد حرب هزمت خلالها أربع دول عربية، والمفروض أنها “رجعت كاملة لينا.. في ست ساعات”. ولكنها رجعت وفق بنود معاهدة كامب ديفيد سيئة السمعة، التي وضعت كم من الشروط، تجعل “سيادة” مصر عليها سيادة شكلية.
وقت إعلان السادات وقف إطلاق النار (28 أكتوبر1973)، كان في سيناء 80 ألف جندي، وألف دبابة! بينما قسمت معاهدة كامب ديفيد خريطة سيناء إلى ثلاثة شرائح طولية:
– منطقة (أ) المحصورة بين قناة السويس والخط 58 كم، وغير مسموح لمصر بوجود أكثر من فرقة مشاة-ميكانيكي واحدة، بل وتحديد مكوناتها، حيث لا يجب أن تزيد عن 22 ألف جندي مشاة و230دبابة و126 مدفع ميداني و126 مدفع 37مم مضاد للطائرات و480 مركبة.
– منطقة (ب) تقع شرق المنطقة (أ) بعرض 109كم. غير مسموح لمصر فيها بأكثر من 4000 من حرس الحدود بسلاح خفيف.
– منطقة (ج) تقع شرق المنطقة (ب) بعرض 33كم وتنهي عند الحدود الغربية بين مصر وفلسطين المحتلة. وتسمح فيها المعاهدة بوجود “شرطة” مصرية، وغير مسموح نهائيا بوجود أي فرد من القوات المسلحة المصرية.
وجدير بالذكر أن إسرائيل قد “سمحت” للمجلس العسكري، بإدخال ما لا يقل عن سبعة آلاف عسكري لحماية مبارك في منتجعه بشرم الشيخ بعد التنحي.
ومعاهدة كامب ديفيد ليست مجرد معاهدة حدودية بين دولتين متقاتلين بل هي بحق “كتالوج حكم مصر” على الطريقة الصهيو-أمريكية، على حد تعبير الأستاذ محمد سيف الدولة، فقد اقتضت تحويل إسرائيل إلى “الدولة الأولى بالرعاية”، والخروج من القضية العربية نهائيا، وخلق طبقة رجال أعمال ارتبطت منذ ولادتها بالمعونة الأمريكية المرتبطة بالمعاهدة. ولكن دعونا نرى أثر “السلام” على سيناء.. وعلى أهلها.
“الكلام مش وقته خالص.. العمل هو المفيد”
“تعمير ده إيه ولمين يا عم.. ياعم جرحي بينزف دم..
أنا احط دمي وتعبي ومال.. ومرة واحدة تهد الكل”
مرة أخرى نضطر لفض الاشتباك بين “شادية” و”الشيخ إمام”.
انتظرت سيناء وعود السادات وخليفته مبارك بعد 22 سنة من حرب أكتوبر، حين وافق مجلس الشورى على مشروع الحكومة “المشروع القومي لتنمية سيناء (1994 – 2017) بميزانية 75مليار جنيه، موزعة على الخدمات والمرافق (صحة، إسكان، كهرباء، مياه) والزراعة والسياحة، وخلق نصف مليون فرصة عمل، وزيادة عدد سكان سيناء إلى ثلاثة ملايين شخص على الأقل.
تم شق ترعة السلام، وسبعة ترع فرعية، بمليارات الجنيهات، من أجل استصلاح 32 ألف فدان، تم توزيعها على الشركات، وليس شباب سيناء ولا غير سيناء. فظل معدل الزيادة السكانية في سيناء أقل من بقية مصر.
أما عن السياحة، فحدث ولا حرج
كانت شرم الشيخ وحدها تستقبل مايقرب من 2.5 مليون سائح سنويا، أي ثلث السائحين القادمين لمصر. والمشكلة ليست في “السياحة” ذاتها بقدر ما هي في كيفية إدارتها.
فمن ناحية تُصَنف السياحة على أنها من الاقتصاديات الريعية، بمعنى أنها تقوم على تحصيل أموال مقابل انتفاع آخرين بالمناطق السياحية؛ فلا يمكن وضعها على قدم المساواة مع الزراعة والصناعة، حيث تظل السياحة مرتبطة بقدوم سياح من الخارج. ولذلك فهي أول ما يتأثر بأزمة الرأسمالية العالمية، كما أن الاحتكارات العالمية، وأذيالها المصرية، هي المسيطرة بالفعل على النشاط السياحي في مصر، أضف إلى ذلك استيراد نسبة كبيرة مما يستهلكه السياح في مصر من الخارج، وهو ما يعني ببساطة أن الجانب الأكبر من أرباح السياحة، يذهب إلى الخارج.
وهذا بالطبع بخلاف استنزاف المناطق الطبيعية التي تكونت عبر آلاف السنين، وإهمال الأنشطة الإنتاجية.
أما العاملين في مجال السياحة، فيتم التعامل معهم باعتبارهم “مواطنين درجة تالتة” وربما “أسوا من معاملة الآسيويين في الخليج” على حد تعبير أحد الأصدقاء العاملين في السياحة، حيث يجري تفتيش الشباب المصري في كل نقاط التفتيش، ويتم منع أي مصري لا يحمل ما يثبت عمله في منشأة محددة، أو يحمل حجز مؤكد في أحد الفنادق، أو يحمل مبلغ 1000 دولار نقدا.
هذا بينما يكون مسموحا للإسرائيليين “البرطعة”، بكل ما تعني “البرطعة” في أراضي سيناء، ليس من أجل سواد عيون “السلام” بل لأنها الأرخص، والأكثر أمنا مقارنة بالأراضي المحتلة. وحقيقة الأمر أن السائح الإسرائيلي يُصنف كأسوا سائح على مستوى العالم، وحجم إنفاقه قليل للغاية، حيث يقيم في المخيمات “الكامبات” الرخيصة، ويكاد لا يشتري أي شيء غير إسرائيلي، حتى المياه.
والعاملين في مجال السياحة في أغلبهم غير معينين، وليست لهم أية حقوق. يضاف إلى مشاكلهم أزمة إسكان!. حقا ازمة إسكان في هذه الجزيرة الشاسعة، لأن الاستثمارات موجهة لسياحة الأثرياء، ولا تعبأ الحكومة لا بأهالي سيناء ولا بتسكين العاملين القادمين من الوادي والدلتا. وبعد أن بدأت الطموحات بإنشاء كليتين للتربية والزراعة، أصبح التعليم جزءا من الاستثمار السياحي، لجذب أبناء الأثرياء المصريين والعرب، لإنشاء معاهد، وجامعة خاصة يملكها حسن راتب عضو لجنة السياسات بالوطني المنحل.
أما “الذهب الاسود”، البترول، فقد منح ذهبه للكبار من المستثمرين والمديرين المصريين والأجانب، وكان “سواده” من نصيب العمالة المصرية.. “الصيت ولا الغنى” على حد تعبير أحد العاملين في شركات البترول، التي تحولت تدريجيا لنظام “السوق” من عقود مؤقتة، وشركات تشغيل، دون أدنى حقوق أو تأمين.
بدو سيناء: “أين حقوقنا؟”
يبقى نصيب بدو سيناء من الكعكة الضخمة، هو العمل في الخدمات، وإقامة العروض التراثية للسياح، كأنهم جزء من المشهد السياحي، مثلهم مثل الجمال والشعاب المرجانية. في المقابل يتم إزالة مخيمات بدوية كاملة لصالح النشاط السياحي، وطرد أهلها.
ليس هذا وحسب، بل تم تدمير مجتمعات الزراعة والرعي والصيد، القائمة بالفعل، بدلا من تنميتها، ليبقى المجال الوحيد أمام البدو هو قبول العمل بالخدمات، والمعروف جيدا أن العمل في خدمات مثل النظافة وتقديم الأطعمة، يتنافى مع طبيعة المجتمع البدوي، فيتم قبوله على مضض شديد. فلا يبقى غير مجالات مشروعة محدودة منها النقل والتوريد، وغير ذلك لا يوجد سوى التهريب.
كما أن معاناة الشمال أكثر حدة من معاناة الجنوب، الذي لم يحرمه النظام من نصيبه من المعاناة. 21% من مواطني الشمال محرومون من المرافق الأساسية، ونسبة التسرب من التعليم الأساسي تفوق الثلثين ونسبة الوحدات الصحية لكل 100 ألف مواطن هي 4.5 وحدة، مقابل 16 وحدة للعدد نفسه في الجنوب، وهي أيضا نسبة ضعيفة جدا.
لكن الجانب الأشد وطأة وسوءا هو معاملة البدو باعتبارهم “خونة” وغير أهل للثقة، فهناك قانون غير مكتوب، لكنه معروف للجميع، باستبعاد البدو من الكليات العسكرية، ومن المناصب القيادية، ويظل تعامل الدولة معهم تعاملا أمنيا، وتكون التعاملات بين أمن الدولة ومشايخ القبائل، الذين يُشترط في تعيينهم رضا الأمن عنهم.
أهل سيناء الذين قاوموا الاحتلال البريطاني، ورفضوا مشروع إسرائيل لتدويل سيناء مقابل منحهم حكم ذاتي، ظلت الأنظمة المتعاقبة تتعامل معهم وكأنهم ليسوا أبناء هذا الوطن، حتى النظام الناصري، تعامل مع سيناء باعتبارها تخوم وميدان قتال.
وبشكل أكثر فجاجة كان العقد الأخير قبل الثورة، ينذر بانفجار. ولعل أهم الحوادث هو تفجير طابا في 2004، حيث تم اعتقال ثلاثة آلاف سيناوي، حتى يناير 2005، برغم زعم الحكومة الكشف عن الجناة والمؤامرة منذ أكتوبر 2004. أما تفجيرات دهب أبريل 2006، فهي المهزلة الحقة، حيث يذكر شهود عيان من العاملين المصريين، أنه عقب سماع دوي الانفجار، هرع العاملون إلى اللحاق بأية سيارة تقلهم إلى القاهرة أو القناة، ففوجئوا بحواجز على الطريق تمركزت فيها القوات الإسرائيلية، التي دخلت في أقل من ساعة، وطوقت مكان الانفجار، ومنعت المصريين من المغادرة لأي اتجاه، وقامت وحداتها المجهزة بفحص مكان الانفجار، على مرأى من كاميرات التلفزيون، بينما تعلق المذيعة ببلاهة: “هذا وقد هرعت قوات الأمن المصري إلى موقع الحادث”.
وهكذا تبقى سيناء نموذجا متكاملا لمعاناة المصريين تحت حكم نظام مبارك وعساكره، الذين يضطهدون الشعب المصري، ويركعون أمام الإسرائيليين، أرض منزوعة السيادة يتم نهبها من جانب الرأسماليين الأجانب والمصريين من محاسيب النظام.. وتبقى الثورة هي سبيل “التحرير” الحقيقي.