الإستراتيجية والتكتيك عند لينين
لقد علمنا لينين أنه في خضم سلسلة من التفاعلات السياسية، لابد من تحديد الرابط الأساسي بين تلك التفاعلات والإمساك به من أجل توجيه السلسلة برمتها.
“كل سؤال “يجري في حلقة مفرغة” لأن الحياة السياسية بمجملها إنما هي سلسلة لا نهائية من حلقات لا تحصى. ويكمن فن السياسة بأكمله في إيجاد الحلقة الأكثر أهمية في لحظة معينة، والإمساك بها بقبضة صلبة وراسخة، تلك الحلقة التي تضمن لنا أكثر من أي حلقة أخرى التحكم في السلسلة ككل” (23).
عاد لينين لاستخدام هذه الاستعارة، وفي الممارسة العملية طالما التزم بالقاعدة التي يشرحها؛ حيث تمكن دائماً خلال الفترات العصيبة من أن يجنّب كافة العوامل الثانوية وأن يمسك بالعوامل الأساسية والجوهرية. كان يعمد إلى تجنيب كل أمر قد يحرفه، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن القضية الأساسية. وكما شرح تروتسكي:
“عندما تتنحى العوائق الحرجة جانباً، يعلن لينين في كل مرة، وبعلو الصوت: “لكننا نسينا أن نفعل هذا أو ذاك” أو “لقد فوتنا فرصة ما لأننا كنا منشغلين بالأمر الأساسي”، ويرد أحدهم قائلاً: “لكن هذه المسألة انطرحت، وهذا الاقتراح تم تقديمه بالفعل، كل ما كان هناك هو أنك لم ترد سماع أي شيء”.
يجيب لينين: “هل حقاً؟ مستحيل، لا أتذكر أي من ذلك”. حينها يصرخ ضاحكاً ضحكة ماكرة معبراً بها عن اعترافه بالخطأ، وربما يرفع ذراعه عالياً في إيماء مميز، ثم ينزله بهوادة، قائلاً: “حسناً، لا يسع المرء أن يفعل كل شيء”.
إن موطن الضعف ذاك لدى لينين إنما كان الوجه الآخر من ذكائه وقدرته على تعبئة كل قواه الداخلية، إلى أقصى حد. هذا الذكاء وهذه المقدرة اللذين جعلا منه الثوري الأعظم في التاريخ” (24).
ومرة أخرى كتب تروتسكي أن:
“غالباً ما كان فلاديمير إيليتش يُنتقد من جانب الكثير من الرفاق، وأنا منهم، إذ كان على ما يبدو لا يكترث بالأمور الثانوية والقضايا الهامشية. أعتقد أن ذلك ربما يمثل قصوراً لدى القائد السياسي في أوقات التطور “الطبيعي” البطيء، لكن في ذلك بالذات يبرز تجلي الرفيق لينين كقائد هذا العصر، الذي تغدو فيه التفاصيل الثانوية والحوادث العارضة طاغية في الخلفية، وما يتبقى فقط التضادات الطبقية الأساسية التي يستحيل التوفيق بينها في أوج الحرب الأهلية. تلك كانت موهبة لينين المميزة، والتي تفرد بها إلى أقصى حد، وبتحديقه الثوري الثاقب كان بإمكانه أن يرى ويكشف ويشير للآخرين إلى ما هو مهم وما هو ضروري، وما هو أكثر أهمية وضرورة. أولئك الرفاق، مثلي، توفرت لهم الفرصة لمراقبة نشاط لينين وعمله عن قرب. لم يكن بمقدورنا مساعدته، لكن أُعجبنا بحماسة شديدة – نعم، أكرر، بحماسة شديدة نال إعجابنا – نفاذ بصره وحدة ذهنه لافظاً بهم كل الأمور الجانبية والعرضية ليصل إلى قلب المسألة ولب القضية” (25).
لقد وقع لينين في بعض الأحيان في فخ الأخطاء التكتيكية، وكان ذلك في الأغلب بسبب اهتمامه المكثف بالجوهر الأساسي للقضايا التي تناولها، وربما أيضاً بسبب غيابه الطويل عن مشهد الأحداث في روسيا أثناء مكوثه في المنفى طيلة سنوات عديدة. ولكن من جانب آخر، تميز لينين بتركيزه الاستراتيجي المذهل. لقد كانت استراتيجية الحزب توضع وتحدد بدقة بالغة من بعيد (حيث المنفى)، حتى مع بعض الأخطاء التكتيكية.
ومن الناحية الأخرى، كان لينين محقاً عندما أصر على “ليّ العصا” أحياناً في اتجاه، وفي اتجاه آخر أحياناً أخرى. فإذا كانت حركة الطبقة العاملة تتطور بشكل متكافئ على كافة الأصعدة، وإذا كانت القاعدة الحاكمة لهذا التطور متوازنة وسويّة، لكان لـ “ليّ العصا” تأثيراً ضاراً بشدة على حركة الطبقة العاملة. لكن الواقع يخبرنا بعكس ذلك؛ فالقاعدة المسيطرة على تطور نضال الطبقة العاملة هي التطور على نحو لا متكافئ. ربما تكون العقبة الأساسية أمام هذا التطور هي قلة كوادر الحزب الثوري، أو على العكس ربما يتسبب ميل محافظ لدى كوادر الحزب في أن يقبع الحزب إلى الوراء من القطاع المتقدم من الطبقة العاملة. إلا أن الوضع في الاعتبار كافة عوامل الصراع جنباً إلى جنب قد يوضح الحاجة إلى “ليّ العصا”، لكن أيضاً قد يفرغ الحزب الثوري أو القيادة الثورية – في حال خطأ التقدير – من كل نفع وجدوى.