الإستراتيجية والتكتيك عند لينين
إن التقييم الصائب للوضع لا يكفي وحده لتطوير استراتيجية وتكتيكات ثورية. قبل كل شيء، لابد من أن يتمتع القائد الثوري بالحدس الخلاق والإقدام الذي لا يشوبه أي تردد.
في المواقف الثورية، حين ينفتح الباب أمام احتمالات وتعقيدات غير محدودة، فإن الإرادة الثورية وحدها هي الأخرى لا تكفي. الأمر الضروري هو القدرة على الإلمام بالوضع كله بسرعة، وبالتالي القدرة على التمييز بين ما هو جوهري وأساسي وبين ما هو هامشي وثانوي، وذلك من أجل ملء المساحات الفارغة في الصورة. كل ثورة تمثل معادلة بها الكثير من الأرقام المجهولة، لذا ينبغي على القائد الثوري أن يكون موهوباً بحس واقعي عالي.
باستثناء العام 1905، قضى لينين 15 عاماً خارج روسيا (قبل عودته في أبريل 1917 بعد إسقاط القيصر نيقولا الثاني)، إلا أن إدراكه للواقع وملموسيته للمزاج السائد بين العمال لم يتقلصا مع الوقت، بل ازدادا ثراءاً. إن تصوراته الواقعية كان لها جذوراً عميقة في استيعابه للنظرية وذاكرته القوية وتفكيره الخلاق. هذه التصورات الواقعية كانت تتزود باجتماعاته بين الفينة والأخرى مع رفاق يقدمون لزيارته في المنفى.
لم يكن حدس لينين مكبلاً بأية قيود. والمثال التالي سيرينا بوضوح كيف استطاع لينين أن يرسم وضعاً سياسياً واجتماعياً كاملاً من جملة واحدة قالها أحد العمال، والتي غالباً ما مرت دون أن يلتفت لها أحد غيره.
“بعد أيام يوليو اضطررت، بفضل العناية الفائقة التي شرفتني بها حكومة كيرنسكي، للانتقال إلى الحياة السرية. وطبيعي أن العمال كانوا يؤون أمثالي. ها نحن إلى الغداء في مسكن عمالي وضيع في حي ناء من بتروجراد. وها ربة البيت تجلب الخبز. ورب البيت يقول: “انظر، أي خبز ممتاز. انت ترى، “أنهم” لا يجرؤون الآن على إعطائنا خبزاً رديئاً. بل أننا لم نكن لنفكر بأن من الممكن إعطاء خبز طيب في بتروجراد”.
لقد أذهلني هذا التقدير الطبقي لأيام يوليو. فقد كان فكري يدور ويلف حول أهمية الحدث السياسية، ويقدر شأنه في مسير الأحداث العام، ويتفحص الوضع الذي أدى إلى هذا التعرج في مجرى التاريخ، ويتكهن بالوضع الذي سينجم عنه، ويسعى إلى معرفة الطريقة التي يترتب علينا اتباعها لتعديل شعاراتنا وجهاز حزبنا قصد تكييفه وفقاً للوضع الجديد.
ولكني لم أكن لأفكر بالخبز، أنا الذي لم أعرف العوز. فالخبز كان بنظري من البديهيات، وأشبه بالنتاج الثانوي لعمل الكاتب. فالفكر يصل إلى النضال الطبقي من أجل الخبز، أس كل الأشياء، عبر التحليل السياسي الذي يسلك طريقاً غاية في التعرج والمشقة.
أما ممثل الطبقة المظلومة، وإن كان من عداد العمال ذوي الثقافة الكاملة والأجور العالية، فإنه يأخذ الثور من قرنيه بلا تردد، وبهذه البساطة وهذه الاستقامة المدهشة، وبهذا العزم الراسخ، وهذه النظرة الواضحة الآسرة، التي نبعد عنها نحن المثقفون بعد الثرى عن الثريا. فالعالم بأسره ينقسم، بنظره، إلى معسكرين: “نحن”، الشغيلة و”هم”، المستثمِرون.
وليس ثمة أي ظل لحيرة حول ما جرى: معركة من معارك النضال الطويل الذي يخوضه العمال ضد الرأسمال. فحين نقطع الخشب، تتطاير الشظايا.
“أي شيء مؤلم هذا “الوضع المعقد للغاية”، وضع الثورة” – هذا هو تفكير المثقف البرجوازي وشعوره.
“لقد كسرنا شوكتـ”هم”؛ ولن يجرؤوا بعد الآن على التصرف على هواهم كما في السابق. دفعة واحدة أيضاً ويقعون أرضاً” – هذا هو تفكير العامل وشعوره” (26).
كانت كروبسكايا على صواب تام حين وصفت لينين بأنه “دائماً لديه نوعاً من الغريزة الخاصة.. فهماً عميقاً للخبرة التي تختمر لدى الطبقة العاملة في كل مرحلة” (27). لقد امتاز لينين بذلك الحدس والذي يُعد أمراً حيوياً وهاماً للغاية لإدراك شعور الجماهير حتى في أكثر ومضات التاريخ تراجيديا: “القدرة على التفكير والشعور من أجل وفي القلب من الجماهير ومعها، تلك كانت سمة مميزة للينين لأقصى درجة، بالأخص أثناء التحولات السياسية الهائلة” (28).
على القائد الثوري، فور إقرار تكتيكات معينة، ألا يضمر أي تردد، بل على العكس أن يتحلى بشجاعة قصوى في تنفيذها، ولم يكن لينين يفتقر إلى تلك المقدرة. وهكذا وصف م. ن. بوكروفسكي تلك السمة المميزة لدى لينين:
“عندما ألقي نظرة على الماضي، يبدو لي أن واحدة من أهم السمات الأساسية لدى لينين هي إقدامه السياسي الهائل، ولا أعني هنا الشجاعة وتحدي المخاطر، فعلى أية حال لم نكن نفتقر للثوريين الشجعان الذين لا يهابون الاعتقال أو المشانق أو حتى سيبيريا. لكن هؤلاء الناس كانوا خائفين من أن يحمّلوا أنفسهم عبء اتخاذ القرارات السياسية الهامة. ولعله من الواضح أن لينين لن يخف ولم يتخاذل يوماً من تحمل مسئولية القرارات السياسية مهما كان ثقلها. لم يهب لينين من أي خطر وأخذ مسئولية قرارات لا تتعلق فقط بشخصه وبمصير الحزب، لكن أيضاً بمصير كل البلد، وبدرجة ما بمصير الثورة العالمية. إنه لأمر غريب أن يشرع لينين في التحرك على الدوام بمجموعة صغيرة من الرفاق، لكن عدداً قليلاً بالفعل هم من يمتازون بالجرأة الكافية لاتباعه منذ البداية” (29).
كثيراً ما يتهرب “الماركسي” من التزامه بالتوصل إلى قرارات، معطياً بذلك الماركسية طابعاً قدرياً باهتاً. وتلك كانت عادة المناشفة الذين طالما سيطرة عليهم الخوف والتشكك والتردد في كل منعطف هام في الصراع الطبقي. لا شك أن الثورة هي الطريق الأقوى والأكثر ضرواة لحل الأزمات الاجتماعية، وأسوأ حالة يمكن أن تسيطر على الثوريين في وقت الثورة هي التردد وعدم الحسم. على الجهة المقابلة، كان لينين هو الأكثر تماسكاً وصلابة بين الثوريين، حيث وصل إلى أقصى درجة من الجرأة في اتخاذ المواقف الأعظم شأناً والقرارات الأكثر خطورة والاستعداد لتحمل مسئوليتها.