بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإستراتيجية والتكتيك عند لينين

« السابق التالي »

6. كلاوزفيتز وفن الحرب

في بداية هذا الفصل كنت أشير إلى أن كتابات كلاوزفيتز كان لها تأثير كبير على مفهوم لينين عن الاستراتيجية والتكتيك. سأعمد هنا إلى تسليط الضوء فقط على نقاط التشابه المذهلة بين كلاوزفيتز ولينين في الأسلوب وصياغة الأفكار.

يبدأ كلاوزفيتز كتابه “حول الحرب” بالتوكيد على أن هناك اختلافاً جذرياً بين المفهوم المجرد للحرب والحروب الحقيقية في الواقع، حيث أن الظروف الفعلية للحرب لا يمكن أن تكون مثالية موضوعة بشكل مسبق؛ فأجواء الحرب ليست محكومة بأسباب بسيطة بل بتداخل سلاسل من الأسباب والتأثيرات المختلفة، كما تلعب العوامل النفسية دوراً قد يؤثر بشكل كبير في تحديد القرارات التي تُتخذ، إلخ. يصنف كلاوزفيتز كل هذه الظروف تحت عنوان “الاحتكاك”، في إشارة للتشابه بين هذا المفهوم الفيزيائي وما يقصده من تناقض بين المفهوم الحقيقي والمفهوم المثالي والميكانيكي للحرب. وفقط من خلال وضع هذا المفهوم في الحسبان يمكن فهم العلاقة بين الحرب الحقيقية والحرب المجردة، بين التجربة والنظرية. ذلك هو مصدر “الاختلاف بين مفهوم الحرب وبين تأثير العوامل الخاصة على اختلافها” (41).

ومن أجل وضع هذا المفهوم النظري في اتساق مع العالم الحقيقي، فنحن بحاجة إلى “العودة دائماً إلى الحصيلة الناتجة عن الخبرة؛ إذ بنفس الطريقة تؤتي الكثير من النباتات ثمارها إن لم تنبت عالياً، هكذا أيضاً في الفنون العملية، يجب ألا تنبت الأوراق والأزهار النظرية عالياً، لكن أن تبقى بالقرب من الخبرة والتجربة، التي هي تربتها الخصبة” (42).

يقوم فن الحرب على عدد من العلوم مثل الفيزياء والجغرافيا وعلم النفس، إلخ، لكن على الرغم من ذلك يبقى فناً. والقائد العسكري الناجح هو الذي يعمد إلى استخدام هذه العلوم لتحقيق هدفه في سحق العدو. ولأن الحرب هي أمر مليء بالتعقيدات المتشابكة، فينبغي أن يتحلى القائد العسكري بقوة الإرادة من ناحية، ومن الناحية الأخرى بالحدس وبالأفق الواسع في وضع التصورات.

“إن كل حرب بالتأكيد ثرية للغاية بالكثير من الأحداث، لكنها في الوقت نفسه تبدو كالبحر الذي لم يستكشفه بشر بعد، بحراً مليئاً بالصخور التي لا يراها القبطان وعليه أن يحذر من الاصطدام بها، بل عليه أن يبحر بسفينته حولها في ظلام الليل. وإذا هبت رياح معاكسة، أي إذا ناوءه أي حدث عارضي، فعليه بالضرورة أن يطلق كل مهارته وحيويته وحضوره الذهني” (43).

وببراعة فائقة صاغ كلاوزفيتز العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك كالتالي:

“الاستراتيجية هي توظيف المعركة للانتصار في الحرب، لذا عليها أن تحدد هدفاً للفعل العسكري ككل، والذي يُحدد هو الآخر وفقاً للغاية من الحرب نفسها. وبكلمات أخرى، ترسم الاستراتيجية خطة الحرب، ومن أجل ذلك عليها أن تربط سوياً حلقات طويلة من التحركات في سلسلة واحدة تقود للهدف، ومن هنا نقول أن الاستراتيجية تضع الخطط الخاصة بالمعارك المنفصلة وتنظم القتال في كل منها على حدا. وبما أن أغلب تلك الأشياء يتم تحديدها فقط عن طريق التخمين، لذا فمن المحتمل أن يجانب الصواب بعضها، إلا أنه يجدر القول أيضاً أن الكثير من الترتيبات المتعلقة بالتفاصيل لا يمكن إقرارها سلفاً؛ فالأمر برمته يعتمد بالطبع على سير الاستراتيجية مع الجيش إلى ميدان القتال من أجل الإلمام بالتفاصيل وتنظيمها في القلب من المعركة، ومن أجل إجراء التغييرات في الخطة العامة، تلك التغييرات التي تغدو ضرورية باستمرار أثناء الحرب ككل.. وهكذا لا يمكن أن تسحب الاستراتيجية يدها من ميدان الفعل المباشر ولو للحظة واحدة” (44).

على التكتيكات أن تخضع للاستراتيجية، لكن في الوقت نفسه ربما تستلزم سلسلة من الخطوات التكتيكية إجراء تغيير في الاستراتيجية نفسها.

“إن الأمور الأقل أهمية، أو الهامشية والثانوية، تعتمد على القضايا الرئيسية الأكثر أهمية وتتحدد على أساسها.. هذه القاعدة يجب أن تكون مرشداً لتفكيرنا” (45).

لقد استطاع كلاوزفيتز بتفكيره الجدلي وعدم اعترافه بالقوالب الجامدة، أن يدرك بعمق وبوضوح العلاقة بين النماذج المثالية والواقع الذي تسعى لتشكيله، لقد أدرك جيداً العلاقة العضوية بين النظرية الممارسة في تطور كليهما، حيث أمسك بالخط الواصل بين العلوم الضرورية للقيادة الناجحة في الحرب وبين فن الحرب. وقبل كل شيء، كان لديه فهماً متميزاً للأهمية البالغة للحدس المدعوم بالمفاهيم النظرية العلمية.

كان لأفكار كلاوزفيتز أثراً بالغاً في كتابات فريدريك إنجلز العسكرية، وكليهما – كلاوزفيتز وإنجلز – أثّرا بعمق في لينين. كانت عبقرية لينين الأساسية تكمن في أن الاستراتيجية والتكتيك، في تشابكهما مع الخبرة العملية، مثلتا بالنسبة للينين جزءاً من تفكيره وحياةً تجري في دمه. وبسرعة، وحتى في أوقات عصيبة، كان لينين يطوّر الاستراتيجية والتكتيك الأكثر كفاءة، وخلال ذلك كانت إرادته تتكامل مع عبقريته.

أنعشت ثورة 1905 قدرات لينين الاستراتيجية والتكتيكية بغزارة، وهذه القدرات قد ظهرت بكامل عظمتها بعد ذلك بإثنى عشر عاماً في انتصار ثورة الطبقة العاملة في أكتوبر 1917.

« السابق التالي »