ماذا نعني بالمجتمع الاشتراكي؟
ستوقظ الثورة الاشتراكية في الطبقة العاملة وفي كل المضطهدين عطشا هائلا للمعرفة والتعليم. نحن نعرف هذا من التجربة الماضية: من الثورة الروسية حيث تزاحم العمال على الاستادات الكبرى ليستمعوا لمحاضرات حول الدراما الإغريقية، ومن الثورة البرتغالية عندما احتل كتاب لينين “الدولة والثورة” قمة قائمة الكتب الأكثر مبيعا لفترة من الزمن، ومن أمثلة أخرى عديدة.
لقد أصبح ملايين من الناس، على مدى أجيال، مقتنعين بأن المعرفة المؤكدة بالعالم غير ذات فائدة لأنه “ليس هناك ما يمكنك عمله” و”الأمور لن تتغير أبدا”. لكن فجأة، في خضم الثورة، يجد هؤلاء أنفسهم في مركز السلطة. فالعمال مدعوون لتوجيه والسيطرة على كل شيء في المجتمع. هنا يبدو كل شيء ممكنا، ولذلك يرغب الناس عندها في معرفة كل شيء.
وستكون مهمة دولة “العمال” هي أن تخلق نظاما للتعليم يعزز وينمي هذه الرغبة في التعلم. سيكون هذا النظام معكوس نظام التعليم الرأسمالي الحالي الذي يستقبل الأطفال في الخامسة من عمرهم تواقين ومحبين للاستطلاع والتعلم، ويلفظهم بعدها بسنوات مفعمين بالمرارة والتشاؤم.
ما يدمر التعليم حقا ويشوهه في الوضع الحاضر ليس فقط نقص التمويل، بالرغم من أهمية ذلك، لكن بالأساس حالة الحرب، المستترة أحيانا والمكشوفة أحيانا، الموجودة بين المدرسين والطلبة. وينبع هذا بدوره من دور المدارس في ظل الرأسمالية في إعادة إنتاج البنية الطبقية للمجتمع. فالمدارس تنخل تدريجيا أولئك المقدر لهم الانتماء لمواقع الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة (هذه هي الوظيفة الحقيقية للامتحانات) وتعد الباقي للاستغلال والعمل المغترب. ونظام من هذا القبيل، تصم بنيته حتما الغالبية بالفشل، لا يمكنه بأي حال من الأحوال الحصول على حماس وتعاون ضحاياه – مهما كانت نوايا المدرسين الأفراد حسنة. فالطريقة الوحيدة التي يعمل بها هذا النظام هو عبر الإجبار السلطوي.
على النقيض من هذا، فسوف يسلح التعليم الاشتراكي الجميع، وليس القلة المختارة فقط، لكي يقوموا بدور إداري تخطيطي نشط. وستدور غايته حول تنمية الشخصية الإنسانية.
ستكون المدارس تعاونية بدلا من تنافسية. ولن يكون هناك حاجة لأن يساعد الطالب زميله بالغش. وستكون المدارس أيضا ديمقراطية وليست استبدادية. وسيخلي الدور الديكتاتوري لناظر المدرسة مكانه لمجلس منتخب للمدرسة يتشكل من ممثلين لمجالس الطلاب والموظفين والمدرسين والعمال. وسيتحول المدرسون إلى أناس يقدمون العون للطلاب – بمعنى أنهم يخدمونهم. وسيصبح الانضباط جماعيا بدلا من كونه مفروضا بشكل قسري كما هو الحال الآن.
وأولئك الذين يتخيلون أن هذا سيقود إلى انهيار لكل نظام، يجهلون ما يحدث داخل فصول التدريس في عالمنا المعاصر ويقللون تماما من قدر وقوة ضغوط مجموعات الأصدقاء والنظراء التي تتفوق على الاحتجاز والحبس والعصا في أي وقت من الأوقات.
وبينما سيتم تقليص أسبوع العمل تدريجيا، فإن الأعمال الأكثر مشقة سيتم القيام بها بشكل متزايد من خلال الماكينات، لذلك سيتحول التعليم لكي يصبح شيئا لا يتوقف عند السادسة عشر، الثامنة عشر أو الحادية والعشرين من العمر. سيستمر التعليم كعملية طوال العمر، وسيتحول ليصبح أقرب من أي وقت مضى لحل المشاكل والمهام العملية التي يطرحها المجتمع الجديد.
وما يصدق على التعليم سيصدق على الثقافة عموما. فسينتج المجتمع ما بعد الثوري ازدهارا عظيما في الفنون عبر إمداد الفنانين بوفرة من الأفكار الجديدة والملهمة. كما سيجلب جمهورا واسعا جديدا للفنون كجزء من عملية يقظة الشخصية الإنسانية التي ستحدث عندما تتحرك الطبقة العاملة من هامش المجتمع إلى مقدمة المسرح.
وبلا شك سيكون للموسيقى والرسم والشعر والدراما والسينما وباقي الفنون دور لتلعبه في كل من النضال الثوري ذاته وفي بناء الاشتراكية. لكن لا دولة “العمال” ولا الحزب الثوري سيحاولان أن يمليا أو يتحكما في الفن. لن يكون هناك تكرار للسياسة الستالينية الكارثية بمنع أشكال فنية معينة أو الإدعاء بأن إطارا فنيا معينا – سواء أطلق عليه الواقعية الاشتراكية أو أي شيء آخر – هو وحده الصحيح والمشروع. وباستثناء الحق في منع الدعاية المباشرة المضادة للثورة، ستقوم الحكومة الثورية بتعزيز أقصى حرية في هذا المجال. فبدون النقد النشط والجدل والتجربة وتعارض المدارس المختلفة، يستحيل حدوث تطور فني.
ومن الواضح أنه من المستحيل التنبؤ أو وضع صياغة قبلية لطبيعة فن المستقبل. بالرغم من ذلك أعتقد أنه من الممكن توقع تغير جوهري في العلاقة بين الفن والمجتمع بشكل عام. فالمجتمع الرأسمالي بفصله بين العملين الذهني والبدني، واغترابه وانقساماته يؤدي إلى الفصل بين الفن والفنان وبين الجماهير، وبينهما وبين العمل المنتج. الأكثر من هذا أن هذان الانفصالان يقويان بعضهما البعض. ويصبح الفن ساحة للمميزين تعبر فيها الأقلية عن نفسها بشكل خلاق بينما الأغلبية محكوم عليها بالعمل الميكانيكي الخالي من التعبير ومن الإبداع. وينقسم الفن، عاكسا انقسام المجتمع لطبقات، بين فن رفيع وآخر وضيع. ويصبح الفنان الرفيع عضوا في نخبة تتوجه لنخبة.
ستقضي الاشتراكية على هذه الأنواع المختلفة من الانفصال، ليس عبر إجبار الفنان على أن يكون شعبيا، ولا حتى برفع المستوى الثقافي للأغلبية، بالرغم من أن هذا سيحدث بالطبع. إنما ستجعل الاشتراكية من كل العمل نشاطا خلاقا وبالتالي سيصبح كل المنتجين بمعنى ما فنانين. وبطريقة مماثلة ستصبح كل مهارات الرسم والتصميم والمعمار والكتابة – مهارات كل أشكال الفنون – عناصر أساسية في العمل الجماعي الذي يستهدف إعادة تشكيل البيئة الإنسانية. وبالضبط بينما يصبح المنتج فنانا، سيصبح الفنان منتجا.