بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ليون تروتسكي: النظرية والممارسة

« السابق التالي »

5 – الثورة الدائمة

طوَّر ليون تروتسكي، من خلال الخبرة الهائلة لثورة 1905، نظريته الشهيرة والمعروفة بـ “الثورة الدائمة”، تلك النظرية التي تعد واحدة من أهم إسهامات تروتسكي في النظرية الماركسية الثورية، والتي لا غنى عنها في الإجابة على التساؤلات الخاصة بالثورة والتحرر في بلدان العالم المتأخر.

فتحت ثورة 1905 الباب أمام عدد هائل من السجالات بين الاشتراكيين في روسيا وعبر الحركة الثورية في العالم كله. وحتى قبل اندلاع تلك الثورة، كان الثوريون يتسائلون: أين يمكن أن تندلع الثورة؟ فيما لم يتوقع أحد أن تبدأ من روسيا؛ فلقد كانت روسيا شديدة التأخر اقتصادياً وسياسياً، مقارنةً بدول أوروبا، وكانت تقبع تحت السيطرة الأتوقراطية للقيصر بينما كان الفلاحون يشكلون أغلبية السكان فيها.

وبشكل عام، كان الاشتراكيون في العالم كله يتفقون على أن روسيا سوف تتَّبع خطوات أوروبا، حيث أنها ستشهد، أولاً قبل أى شيء، ثورة برجوازية – على غرار الثورة الفرنسية 1789 – لبناء قوى المجتمع الرأسمالي، كشرط موضوعي مسبق على الثورة الاشتراكية.

وبدون أي استثناء، كان جميع الماركسيين الروس يرون أن الثورة القادمة ستنحصر مهمتها في إزاحة الأوتوقراطية القيصرية وتمهيد الطريق للتطور الرأسمالي، وهكذا كان النقاش يدور حول تلك القوى التي من المفترض أن تقود مثل هذه الثورة.

جادل المناشفة بأنه من الضروري بناء تحالف بين العمال والليبراليين الذين يمثلون الطبقة الرأسمالية سياسياً. أما لينين والبلاشفة، فقد رفضوا الطرح المنشفي، مشيرين إلى الجبن السياسي الذي يتميز به الليبراليون في الصراع مع القيصرية. وفي المقابل جادلوا – أي البلاشفة – حول ضرورة إقامة ذلك التحالف ليس بين العمال والليبرالية، بل بين العمال والفلاحين لقيادة الثورة.

اتخذ تروتسكي، مستنداً إلى خبرة ثورة 1905، موقفاً مختلفاً عن كلٍ من الطرفين، فقد جادل بأن الثورة في روسيا يمكنها أن تصبح ثورة اشتراكية تحت قيادة الطبقة العاملة. لقد أشار ماركس في أكثر من مرة خلال موجة الثورات عبر أوروبا 1848، إلى أن الطبقة الرأسمالية قد كفت منذ زمن أن تكون طبقة ثورية. وقد بنى تروتسكي وجهة نظره باتساق تام مع خبرة ماركس واستنتاجاته، وهكذا جادل بأن الطبقة الثورية الوحيدة التي يمكنها قيادة الثورة بحسم في روسيا هي الطبقة العاملة.

لقد كان تروتسكي متفقاً بشكل كامل مع وجهة نظر لينين للرأسماليين الروس الذين، بالرغم من مطالبتهم المحدودة بالإصلاحات، إلا أن خوفهم من النضالات العمالية كان أكبر كثيراً من كراهيتهم للقيصر كما أثبتت ثورة 1905. وبناءاً على ذلك، كان تروتسكي ينتقد بشدة الفكرة القائلة بأن على ثورة روسيا أن تحذو حذو أوروبا، أي أن تقوم بإنجاز الإصلاحات السياسية بشكل كامل في إطار الدولة الرأسمالية.

انطلق تروتسكي من تحليل تطور الرأسمالية في روسيا ضمن السياق العالمي؛ فلم تتطور الرأسمالية في روسيا بنفس الطريقة التي تطورت بها في فرنسا أو بريطانيا – من المنغلقات الحرفية إلى الورش إلى المصانع العملاقة. بل أن روسيا، في سياق التنافس الاقتصادي والعسكري مع دول أوروبا المتقدمة، قد قفزت لتمتلك بعض من أهم الصناعات المتقدمة في العالم، حتى بالرغم من التأخر الاقتصادي العام الذي عانت منه.

أطلق تروتسكي على ذلك النمط من التطور إسم “التطور المركب واللا متكافئ“، فهو تطور مركب لوجود وامتزاج أكثر من مرحلة للتطور الاجتماعي في نفس الحقبة، وهو أيضاً لا متكافئ نظراً لأن المناطق المختلفة تتطور نحو الرأسمالية بمعدلات مختلفة ومتفاوتة. يمكننا ملاحظة هذا النمط من التطور في الكثير من البلدان المتأخرة اقتصادياً اليوم؛ فهناك على سبيل المثال الملايين من الفلاحين الذين يستخدمون أدوات شديدة التأخر في حرث الأرض جنباً إلى جنب مع تطور غير مسبوق في التكنولوجيا، وهناك من يعيشون في أحياء عشوائية أو مساكن من الصفيح جنباً إلى جنب مع المصانع الضخمة والمتطورة.

رأى تروتسكي أنه على الرغم من أن الكثير من الفلاحين سيؤيدون ويدعمون النضال من أجل التغيير (ناضل تروتسكي بكل دأب خلال ثورة 1905 للوصول إلى الفلاحين ودفعهم إلى الموجة الثورية)، إلا أن بعثرتهم في الريف وطبيعة إنتاجهم الفردي المنعزل سيقفان عقبة أمام انخراطهم في القلب من النضال من أجل الثورة الاشتراكية.

إن النمط الذي تطورت به الرأسمالية في روسيا ساهم في تمركز كتل هائلة من العمال في مراكز صناعية عملاقة في المدن، وأولئك العمال هم من شكلوا رأس الحربة الجماهيرية في ثورة 1905.

كان العمال هم الوحيدون القادرون على قيادة النضال ضد القيصر من أجل الحرية السياسية، لكن كان عليهم أيضاً النضال ضد الرأسماليين من أجل القضاء على الاستغلال الواقع عليهم. وهذا يعني أن النضال العمالى لم يكن فقط من أجل انتزاع بعض بعض الإصلاحات الديمقراطية ضمن الحدود الضيقة للرأسمالية، بل نضالاً من أجل السلطة العمالية.

كان تروتسكي على إدراك تام، بأن العمال يمثلون أقلية من السكان في روسيا، ولذا فقد تمسك تروتسكي بأن انتصار الثورة وبناء المجتمع الاشتراكي في روسيا سيتوقف بالتأكيد على الظرف العالمي وانتشار الثورة لبلدان رأسمالية أكثر تقدماً. وكما سنرى في الفصول القادمة، فقد استند تروتسكي طوال حياته إلى مبدأ “الأممية“، والأممية ذاتها هي انعكاس نظري وسياسي لتطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية وكذلك الاعتماد الاقتصادى لمناطق مختلفة من العالم على بعضها البعض – فيما نطلق عليه اليوم “العولمة الرأسمالية”.

أما اليوم، فالرأسمالية تسيطر بالفعل على كل بلدان العالم، إلا أن العمال لا يزالون يمثلون أقلية من السكان في بعض البلدان المتأخرة. وهنا تشير نظرية الثورة الدائمة إلى أن العمال، حتى برغم قلة عددهم في تلك البلدان، يظلون هم القوة الأساسية للتغيير الاجتماعي والسياسي؛ فالعمال لديهم القوة الجماعية لإنزال الهزائم بالرأسمالية، كما أن نضالهم بإمكانه أن يمنح ثقلاً سياسياً وتنظيمياً هائلاً لكفاح الأقليات المضطهدة والعمال الزراعيين والمهمشين، إلخ. أوضح تروتسكي أيضاً من خلال نظرية “الثورة الدائمة” كيف يمكن أن ينضج نضال العمال من أجل الإصلاحات الديمقراطية إلى نضالاً مباشراً من أجل الاشتراكية.

لم يدعِ تروتسكي على الإطلاق أن ذلك سوف يحدث بشكل حتمي. ولكنه أوضح، كما أشار المناضل الاشتراكي الثوري تونى كليف، أن الإمكانية مطروحة لدمج النضال من أجل الديمقراطية بالنضال من أجل الاشتراكية، لكن هذه السيرورة يمكن إيقافها بواسطة أولئك الذين يدعمون الدولة البرجوازية وأجهزتها.

عرفت روسيا الديمقراطية لأول مرة في تاريخها في المجالس العمالية (السوفيتات)، وذلك دون أن تمر عبر الديمقراطية البرلمانية للرأسمالية. وهكذا كانت فكرة تروتسكي هي أن الثورة الاشتراكية في روسيا ممكنة حتى من دون العبور من خلال المراحل التي مرت بها الرأسمالية في البلدان الغربية المتقدمة. ولكن هذه هي الخطوة الأولى فقط، فالمجتمع الاشتراكى لا يمكن أن يستمر في وضع مستقر إلا مع انتشار الثورة في أرجاء أخرى من العالم، لاسيما البلدان المتقدمة. أما الثورة الروسية في 1917، فقد كانت بمثابة المسرح العملي لاختبار نظرية تروتسكي حيث أثبتت صحتها على الجانبين: الإيجابي والسلبي.

« السابق التالي »