ليون تروتسكي: النظرية والممارسة
في يوليو 1914، انطلقت الأبواق لتعلن بداية الحرب العالمية الأولى، ظاهرياً بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فيرديناند، ولكن كان السبب الحقيقيى وراء تلك الحرب، والتي هي واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية، هو التنافس الهمجي للصوص الرأسماليين وحاجتهم الدائمة للتوسع. راح ضحية تلك الحرب حوالى 10 ملايين إنسان، منهم 1,7 مليون روسى و1,8 مليون ألماني. كانت تلك الحرب هي الأولى التي أعادت تشكيل اقتصاديات ومجتمعات كاملة عبر العالم.
دشن حكام الدول المتحاربة، من أجل تدعيم أوضاعهم في الحرب، موجة من القومية المتعصبة، وهكذا انحدرت أوروبا إلى حمامات دم بشعة، فيما وصفه تروتسكي بـ “العواء الوطني للذئاب الرأسماليين”.
قبل بدء الحرب، تجمعت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فيما عُرف بالأممية الثانية (كانت الأممية الأولى في عهد ماركس)، لتعلن عن معارضتها الجماعية لهذه الحرب الإمبريالية. لكن عندما شُنت الحرب، انساقت نفس تلك الأحزاب وراء حكوماتها وأيّدت إعلان الحرب، أما الاستثناء الوحيد فقد كان الاشتراكيين الروس، وبالأخص الحزب البلشفي، وعدد ضئيل آخر من المناضلين الاشتراكيين في أوروبا والذين خاضوا حملة شعواء لمناهضة الحرب.
ومع بداية الحرب، كان تروتسكي يعيش في فيينا بعد نجاحه في الهرب للمرة الثانية من منفاه في سيبيريا. وبعدما هددته الحكومة النمساوية بالاعتقال، اضطر للانتقال إلى سويسرا التي اتخذت موقفاً محايداً من الحرب آنذاك. حينها كتب تروتسكي كراسه الشهير “الحرب والأممية” والذي يُعتبر أول ما كتبه ثوري روسي لمناهضة الحرب. تضمن الكراس هجمة شرسة على خيانة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني – أكبر أحزاب الأممية الثانية – لتأييده للحرب، ذلك الموقف الذي نزل كالصاعقة على لينين وتروتسكي.
كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بمثابة ماكينة ضخمة في العمل أثناء فترات الانتخابات البرلمانية، وساعده في ذلك الأعداد الهائلة التي ضمها في عضويته، وبتأييده للحرب كان الحزب يستكمل مسيرته في العمل ضمن إطار الرأسمالية نفسها.
أخذ الكثيرون من أعضاء ذلك الحزب في الدفاع عن موقفه المخزي من الحرب بدعوى أن ألمانيا أكثر تقدماً من روسيا القيصرية بمراحل عديدة. لكن ذلك استثار تروتسكي الذي أشار بوضوح إلى أن تدخل قوى إمبريالية في روسيا لن يؤدى سوى إلى عرقلة نضال الجماهير الروسية ضد سلطة القيصر.
لم يكتف تروتسكي فقط بمناهضة الحرب، بل عمد إلى دراسة طبيعة القوى التي قادت لاندلاع الحرب. رأى تروتسكي أن القوى الاقتصادية للرأسمالية قد نمت بشكل يتجاوز حدود الدولة القومية، وهكذا صارت الحرب أحد السمات الرئيسية للرأسمالية حيث تتدافع الدول المسلحة من أجل مزيد من السلطة والنفوذ في سوق عالمي متكامل. فيما دعا تروتسكي بكل حزم إلى السلام على أساس الثورة الجماهيرية وحق الأمم في تقرير مصيرها.
قطع تروتسكي صلته بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، والذي كان الحزب الأهم في الأممية الثانية حتى ذلك الحين، كما قطع صلته بالكثير من الأصدقاء والرفاق القدامى الذين أيدوا حكوماتهم في الحرب، وقد كان الأمر يبدو، كما كتب تروتسكي، كـ “عزاء لأصدقاء أحياء”. وفي المقابل نسج تروتسكي صداقات وعلاقات سياسية استمرت طويلاً مع بعض الرفاق الذين عارضوا الحرب بلا هوادة في أوروبا.
خلال الحرب، اتسعت الفجوة بين البلاشفة الذين اتخذوا موقفاً صارماً في مناهضة الحرب من جانب، وبين المناشفة الذين ارتموا في أحضان الإصلاحية من الجانب الأخر. وعلى الرغم من أن تروتسكي قد انتقد المناشفة بكل حدة على خلفية موقفهم تجاه الحرب، إلا أنه لم يكن مستعداً بعد للانضمام للبلاشفة.
ساهم تروتسكي بشكل كبير في المحاولات الأولى لتجميع الثوريين المناهضين للحرب عبر العالم في مؤتمر انعقد في سبتمبر 1915 في زيمرفالد بسويسرا. وعلى الرغم من قلة عدد مندوبي المؤتمر (فقط 38 مندوباً)، إلا أن الأمر كان ذا أهمية فائقة لتجميع المناضلين الاشتراكيين المناهضين للحرب بالأخص من الدول المتحاربة وبعض الدول المحايدة.
كان كل من لينين وتروتسكي على قناعة تامة بأن موقف الأممية الثانية من الحرب، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الألماني، قد جعل محاولة إصلاح تلك الأممية وهماً. إلا أن مؤتمر زيمرفالد قد شكّل نقطة بداية لتجمع أممي جديد مبني على رفض الحرب، وعلى الثورة الجماهيرية والانحياز للطبقات العاملة باختلاف قومياتها.
كان تروتسكي يعيش في ذلك الحين في باريس حيث كان عمل صحفياً في تغطية الحرب، بجانب نشاطه في تحرير إحدى الصحف الاشتراكية. وفي أكتوبر 1916 تم ترحيله إلى إسبانيا، ثم إلى نيويورك، وحينها كتب: “لقد تركت أوروبا غارقةً في الدماء.. لكنني تركتها بأمل واثق في ثورة قادمة”.