السودان: الشمال والجنوب والثورة
بدأت الانتفاضة علي أيدي شباب البروليتارية الرثة (فقراء المدن) من ماسحي الأحذية وغاسلي السيارات، فألقى الصبية منهم الأحجار علي موكب النميري أثناء توجهه للمطار يوم 23 مارس 1985 في طريقه إلي أمريكا. وعقب ذلك اشتعلت المظاهرات وهاجم الشباب الغاضب المحلات الفاخرة وحطم السيارات ومباني الأغنياء (ومن ضمنها مبنى بنك فيصل الإسلامي). تدخلت قوات الأمن لقمع المتظاهرين، فأضرب الأطباء احتجاجا علي قمع السلطة، ودخلت النقابات العمالية والهيئات المهنية ساحة الإضراب العام(82). فأضرب المحامون وعمال البنوك والبرق والتليفون والكهرباء والطباعة، وتوقف الإرسال وحركة الطيران(83). وأرسل سوار الذهب قائد الجيش رسالة إلي النميري في أمريكا يوم 1 أبريل مؤكداً بأن القوات المسلحة “ستظل وفية لقسم الولاء وستتحرك بحزم ضد المنحرفين والخونة”(84) . ولكن مع اتساع الحركة والإضراب ليشملان جميع أرجاء السودان لم يجد الجيش مفراً من الاستيلاء علي الحكم وعزل النميري في 6 إبريل 1985 لامتصاص الموجة الثورية الجماهيرية التي ابتلعت السودان.
أعلن سوار الذهب تكوين مجلس انتقالي عسكري ووعد بنقل السلطة لحكومة مدنية، فماذا كان رد النقابات المهنية والعمالية التي قادت الانتفاضة؟ فلننظر للحزب الشيوعي السوداني أكبر قوى اليسار تأثيراً في النقابات…
بالرغم من تعرض الحزب لضربات قاصمة على يد نظام النميري ومذابح 1971 إلا أنه استمر في نشاطه السياسي السري وبقى مؤثراً في أوساط العمال والمهنيين. ولكن أشاوس الستالينية الذين سيطروا على الحركة رأوا في انتفاضة إبريل 1985 ما رأوه في أكتوبر 1964… أن السودان يمر مرة أخرى بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التي يجب أن تأتى بنظام برجوازي ديمقراطي للحكم. وبالتالي تركزت مطالب وشعارات الهيئات والنقابات حول بعض “الإصلاحات” السياسية مثل : نظام حكم برلماني، وإلغاء قوانين سبتمبر الإسلامية(85) ، ولم يرتفع صوت واحد مطالباً بتأسيس سلطة العمال السودانيين. وما أن داعب سوار الذهب أحلامهم “الوطنية الديمقراطية” بإعلان عزمه على نقل السلطة للبرجوازية “المدنية” والنظر في موضوع قوانين سبتمبر حتى بدأ قادة النقابات في فك الإضراب العام تباعاً ابتداء من 8 إبريل(86)، وتتنفس البرجوازية السودانية صعداء بانتهاء الموجة الثورية.
لم يلغ المجلس الانتقالي العسكري قوانين سبتمبر، ولم يأخذ خطوة يمكن وصفها بالجدية تجاه الحوار مع الجيش الشعبي لتحرير السودان، بل على العكس قام النظام بشراء المزيد من الأسلحة العسكرية من الشقيقة الكبرى مصر بالإضافة إلى ليبيا والأردن للاستعداد لحملات جديدة في الجنوب(87)، وعقدت الانتخابات البرلمانية في يونيو 1986 ليخرج الحزبان الطائفيان كالعادة بنصيب الأسد من الأصوات ففاز الأمة بـ 38% من المقاعد والاتحادي بـ35.(88) ويشكل الصادق المهدي الحكومة الجديدة. أما الإسلاميين بقيادة الترابي (الجبهة القومية الإسلامية) فخرجوا بـ 18.5% من إجمالي المقاعد، وحازوا على 23 مقعداً من الـ 28 مقعد المخصص للخريجين، ويلقى هذا بالضوء على نجاح الإخوان في كوين جذور لهم في قطاع كبير من الطبقات الوسطى الحضرية ورجال الأعمال ويتبع ذلك خلق صلات حميمة بينهم وبين شخصيات هامة في الجيش السوداني.(89)
بالرغم من انتقاد الصادق المهدي لقوانين سبتمبر الإسلامية إبان حكم النميري، إلا أنه لم يعد يتكلم عن إلغائها عند وصوله للسلطة بل تحدث عن “تعديلها” لتناسب الإسلام “الصحيح”.(90) ووصلت مفاوضات السلام بين الصادق وجارانج إلى طريق مسدود بسبب تمسك الأول بتطبيق الشريعة في الجنوب.(91) ويشتعل الصراع مرة أخرى.
ويجئ دخول قوات الجيش الشعبي والسيطرة على مدينتي الكرمك وقسيان ليفجر هستيريا بين الأحزاب الشمالية الحاكمة، فتناسى الجميع خلافاتهم السياسية، ورفعوا لواء الجهاد المقدس “للدفاع عن الإسلام والعروبة” ويشارك حزب الأمة مع الجبهة والاتحادي في إشعال حملة كراهية عنصرية ضد الجنوبيين ولجئوا لمصر والسعودية والعراق لطلب المال والسلاح، ونشط الإخوان في تعبئة الجماهير الشمالية باسم محاربة الشيوعية والكنيسة والإلحاد وجميع خزعبلات القرون الوسطى التي يمكن تخيلها، وعند استعادة المدينتين أقيم احتفال ضخم “بتحرير السودان”.(92) ولكن ضعف الجيش السوداني وسوء تسليحه أمام قوات الجيش الشعبي كان واضحاً. وبعد أسابيع قليلة من احتفالية “التحرير” سقطت مدينة كابريتا.(93) وتتلقى الحكومة السودانية ضربة عسكرية موجعة بتوحد فصائل الأنيانيا 2، مع قوات الجيش الشعبي في أواخر عام 1987.(94)
أدى الارتباك السياسي في الساحة السودانية ورغبة الصادق في فرض سيطرته المطلقة على الحكومة إلى تعاقب الحكومات الائتلافية الواحدة تلو الأخرى في فترة قصيرة، فتشكلت الحكومة الائتلافية الثالثة في 15 مايو 1988 وضمت الأمة والاتحادي والجبهة القومية وبعض الأحزاب الجنوبية المنشقة. وارتفعت أصوات طبول الحرب، فحزب الجبهة والاتحادي شعارهما في التعامل مع الجنوب “السلام من خلال القوة” ولا يختلف عنهما الصادق المهدى كثيراً. فدعا حسن الترابي -أمين عام الجبهة (والذي احتل منصب النائب العام في القضاء السوداني)- الجيش إلى استخدام الأسلحة الكيماوية لإبادة الجنوبيين على شرط أن يتم استخدامها في المناطق التي يصعب دخول الصحفيين الأجانب لها، وحولت الحكومة معظم المساعدات الأجنبية التي كانت موجهة لمنكوبي السيول التي أغرقت السودان في 1988 إلى الجيش أو المناطق المسلمة وحرمت الجنوبيين منها.(95) ووسط كل ذلك فاجأ الحزب الاتحادي الديمقراطي الجميع بتقديمه لمبادرة سلام مع الجيش الشعبي. مثلت تلك المبادرة محاولة يائسة للحزب الاتحادي للخروج من حالة التهميش السياسي التي كان يعاني منها في ظل تسيد المهدى ومناورات الترابي التي لا تنتهي لتوسيع رقعة نفوذه وجاءت أيضاً كمحاولة لرفع شعبيته في وقت كان مؤيدوه يهاجرون بأعداد ضخمة للانخراط في صفوف الجبهة القومية. فحاول الميرغني سبق الجميع والتوصل لاتفاق سلام مع جارانج في نوفمبر 1988.(96)
تضمنت المبادرة تجميد تطبيق الشريعة الإسلامية في الجنوب الشيء الذي أصاب الجبهة بالجنون، فشنت حملات مسعورة ضد المبادرة، واستغل الصادق المهدى رفض الجبهة لإفساد المبادرة تحت دعوى أن الجبهة شريك رئيسي في الائتلاف ولا يمكن تطبيق المبادرة بدون موافقتها.(97)
ثم أقدم الصادق في أواخر ديسمبر على المزيد من الإجراءات التقشفية الاقتصادية في الشمال بإلغاء الدعم عن السلع الأساسية فارتفعت الأسعار بشكل مخيف (على سبيل المثال ارتفع سعر السكر بنسبة 500% !). وتتفاعل الأوضاع المتدهورة في الجنوب مع نيران غضب الجماهير الشمالية لتشتعل انتفاضة جديدة في الشمال.
انتشرت الإضرابات كالنار في الهشيم بالعاصمة وتظاهر عشرات الآلاف من المواطنين في الشوارع منددين بقرارات الصادق ومطالبين بسقوط الحكومة. وأشتبك المتظاهرون مع قوات الأمن في صدامات دامية استخدمت فيها القوات جميع وسائل القمع المعروفة من الغازات المسيلة للدموع إلى الرصاص الحي لإخماد الانتفاضة. وتزداد الأوضاع سوءاً بانسحاب الحزب الاتحادي الديمقراطي من الحكومة يوم 28 ديسمبر تاركاً حكومة الصادق – الترابي في وضع لا يحسد عليه.(98)
ويزداد الطين بلة بتحقيق الجيش الشعبي لانتصارات ساحقة في الجنوب، فبنهاية عام 1988 عزز جارانج موقعه في شرق الاستوائية ودفع بالحرب شمالاً باتجاه جنوب كردفان ومناطق النيل الأزرق. وفى يناير 1989 استولى على الناصر ثم سقطت توريت في 27 فبراير، وبعدها باراجوك ونمولي ومنقلة في مارس، ثم دخل جارانج بقواته مدينة أكوبو في إبريل وبعدها واط في مايو.(99)
ويحاول الصادق المهدى في الوقت الضائع إنقاذ ما يمكن إنقاذه بتشكيل حكومة ائتلافية رابعة، وحاول التظاهر بالسعي الجدي وراء السلام وتقليل نفقات المعيشة واتباع سياسة خارجية “معتدلة”، ولكن محاولاته المفضوحة وكذبه لم ينطليا على أحد. ورفضت الجبهة المشاركة في الحكومة، وبدأت تعبئ مؤيديها في حملات معادية للحكومة في الشوارع والمساجد، وأصبح الطريق مفتوحاً أمامها للقيام بالتحالف مع الجيش بانقلاب عسكري في 30 يونيو 1989 (100) بقيادة عمر البشير.