الصين ثورة من؟
1949 كانت ثورة حقيقية تخلص فيها جيش ملايين الفلاحين من الطبقات الحاكمة القديمة وكسر قوة الإمبريالية الغربية ووضع الأساس لنظام اجتماعي جديد. ولكنها لم تكن ثورة اشتراكية بأي شكل من الأشكال.
بالنسبة لماركس، كما بالنسبة لينين، كانت الاشتراكية بالضرورة هي التحرر الذاتي للطبقة العاملة. في 1949 لم يلعب العمال الصينيون أي دور على الإطلاق في انتصار الحزب الشيوعي الصيني؛ فبوصول الجيش الأحمر للمدن كانت المعارك الحاسمة للثورة قد تم الانتصار فيها. وبينما كان الجيش الأحمر يستولي على المدن كان العمال مجرد مشاهدين سلبيين، فلقد أتى إليهم ‘التحرير’ من الخارج.
لم يكن هذا لأن العمال الصينيين غير قادرين على النضال.
فالأعوام بين 1945 و1949 شهدت صعودا متزايدا لموجات من النضالات في معظم المدن حيث حاربت الطبقة العاملة للدفاع عن مستوى معيشتها ضد التضخم الحاد. ودخلت المدن في حالة هدوء تام بناءا على توجيهات من الحزب الشيوعي الصيني. فبينما كانت الجيوش الحمراء تقترب من مدن جنوب شرق الصين في صيف 1949 أرسلت قبلها مجموعة من الأوامر “… سيستمر العمال والموظفون في كل المهن في العمل، وستعمل التجارة كالمعتاد”.(7) بل وأصروا أن يستمر كل هؤلاء المسئولين عن إدارة جهاز الدولة القديم في مواقعهم لضمان انتقال السلطة بسلاسة.
لم تكن هذه السياسة مجرد صدفة؛ ولكنها نتيجة حتمية للنضال الذي شنه الحزب الشيوعي. لأن الثورة كانت فوق كل شئ ثورة وطنية : كان الهدف بناء اقتصاد قوى قومي و مستقل. كانت الثورة المسلحة أمرا مطلوبا للتخلص من الطبقات الحاكمة القديمة (التي أثبتت عدم قدرتها على الدفاع عن المصالح القومية الصينية) ولكنها -أي الثورة- كان يجب أن تظل مُتحكَم فيها بصرامة من أعلى.
جادل ليون تروتسكي وهو يطور نظرية الثورة الدائمة أنه في البلاد الشبيهة بالصين لم يكن بإمكان البرجوازية القومية أن تقوم بالمهمات الأساسية للثورة الوطنية – كسر قوة الإمبريالية وملاك الأراضي. يرجع هذا لسببين هما العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الوطيدة بين البرجوازية القومية كطبقة وبين ملاك الأراضي. والسبب الأكثر أهمية هو أن القوة الكامنة لنضالات العمال والفلاحين كانت خطرا أكبر على البرجوازية من خطر الإمبريالية. وأكدت تجربة 1927 بحسم مقولة تروتسكي.
ويمضى تروتسكي مصراً على أن الفلاحين كطبقة غير قادرين على قيادة مثل هذا النضال رغم أنهم بالضرورة سيلعبون دورا كبيرا فيها. فظروف حياتهم تحتم عليهم أن يبحثوا عن حلول فردية بدلا من حلول جماعية. يمكن بالفعل كسب الفلاحين للثورة ولكن فقط بواسطة قوة من خارج القرى. يجب أن تأتى القيادة من طبقة مدنية –ولا يمكن أن تكون هذه إلا الطبقة العاملة.
لذا جادل تروتسكي، إن نجاح الثورة الوطنية ممكنا فقط من خلال نضال يقوده عمال المدن. وهذا يعنى أن الثورتين الاشتراكية والوطنية سيندمجان في عملية واحدة.
أثبتت أحداث 1949 صحة كلام تروتسكي إلا النقطتين الأخيرتين وهما أهم أجزاء تحليله. لأن تلك الأجزاء اعتمدت على الاعتقاد بأن الطبقة العاملة هي قوة ثورية واعية في كل الأوقات. إلا أن مذابح 1927 كسرت الروح الثورية في مدن الصين. رغم ذلك فإنه في غياب الطبقة العاملة تبقى إمكانية حدوث ثورة. أثبت جزء من الانتلجنسيا المدنية قدرته على ملء فراغ القيادة بانيا حركة مسلحة جماهيرية من الفلاحين تحت سيطرته الصارمة.
أصبحت الآن “الثورة الدائمة” التي تصورها تروتسكي بقيادة الطبقة العاملة المؤدية إلى الاشتراكية منحرفة في طريق وطني صافي.
تم تحقيق رغبة الوطنية الصينية في اقتصاد وطني مستقل يستطيع أن يبدأ في منافسة الاقتصاد العالمي- ولكن الوسيلة الحاسمة للتغيير كانت الدولة الجديدة. أتى قادتها إلى السلطة كقوة في حد ذاتها، كقوة فوق كل طبقات المجتمع القديم. إلا أنهم لم يكن بإمكانهم أن يتصرفوا كما أرادوا هكذا ببساطة. فوجود اقتصاد عالمي شديد المنافسة وعدائي أملى الحاجة لاقتصاد قومي قوى، وضرورة المنافسة مع هذا الاقتصاد العالمي.
بالتالي حددت الأولويات الاقتصادية للدولة الجديدة. عنى هذا فوق كل شئ مراكمة رأس المال من موارد الصين الضعيفة لبدء مهمة تشييد أساس صناعي، وهى العملية التي خلقت طبقة حاكمة من كبار البيروقراطيين، مديري المصانع، القادة العسكريين، ومثلهم …واستقدمت الغالبية العظمى من هؤلاء من الصفوف العليا للحزب الشيوعي. وجاء ارتباطهم معاً كطبقة بسبب سيطرتهم على أولويات الاقتصاد وبسبب الحتمية التناقصية لعلاقتهم مع الطبقة العاملة والفلاحين. ولأن التراكم هو الهدف المركزي إذن كان يجب أن يخضع إشباع الحاجات الإنسانية بوضوح لهذا الهدف. هكذا ذهب 25% من الناتج القومي إلى التراكم الرأسمالي في الخمسينات وصعد هذا الرقم إلى 30% في بداية الستينات.(8) ذهبت الغالبية العظمى من هذا التراكم في الإنفاق على الصناعة الثقيلة والأسلحة في الوقت ذاته ارتفع مستوى المعيشة بنسبة 2% في أوائل الخمسينات وهبط بشدة بين 1959و 1961.
لقد أعلن ماو في يونيو 1949 بأن “سياستنا الحالية هي تنظيم الرأسمالية، وليس تحطيمها”.(9) وعندما بدأت الدولة تستولي على رأس المال الخاص بالتدريج في أوائل الخمسينات (وكثيرا ما أبقوا على الملاك القدماء كمدراء للمصانع) حلت ببساطة رأسمالية الدولة البيروقراطية محل الرأسمالية الخاصة. في البداية صيغ نمط التصنيع في الصين على النموذج الذي أتبعه ستالين في الاتحاد السوفيتي في الثلاثينات – بالذات الخطة الخمسية الشاملة التي تسيطر على كل أوجه التنمية الاقتصادية. ولكن رغم أن خطة الصين الخمسية الأولى طورت بالفعل الاقتصاد إلا أنها لم تفعل ذلك بالسرعة الكافية بالنسبة للطبقة الحاكمة. كان الانتعاش في الاقتصاد العالمي يعنى أنه رغم أن الاقتصاد الصيني نما بسرعة بالمقارنة بأعوام ما قبل 1949، فبالمقارنة بالمنافسة (على الصعيد العالمي) كان هذا الاقتصاد يتقهقر للخلف أكثر.
دفع هذا الحزب الشيوعي الصيني لتغيير مساره. كان يجب زيادة سرعة النمو الاقتصادي بحدة وفى غياب رأس المال الزائد للاستثمار كان من الممكن زيادة سرعة النمو فقط من خلال تكثيف استغلال العمال والفلاحين. كان هذا هو الحافز على “القفزة الكبرى للأمام” في أعوام 1958 – 1960. تم وضع أهداف متضخمة جدا لكل من الإنتاج الصناعي والزراعي، وتم البدء في ” حملات جماهيرية” لفرض الأهداف الجديدة والنظام والطاعة والعمل. وأرغم مديرو المصانع عمالهم بالتهديد على محاولة تحقيق هذه الأهداف، وذلك من خلال إلغاء راحات الغذاء، إدخال ورديات 18 و24 ساعة، والتخلي عن كل ممارسات الأمن الصناعي. وعندما لم تنجح كل هذه الأساليب كذب المديرون ببساطة حول أرقام الإنتاج محدثين بذلك المزيد من الدمار حيث رفعت أهداف مصانع أخرى للاستفادة من هذه الزيادات الوهمية في الإنتاج.
في المدن سرعان ما انهارت القفزة الكبرى تحت ثقل تناقضاتها الذاتية. فقد كان من الممكن إرغام العمال على عمل ورديات من 18 ساعة مرة أو مرتين -ولكن لم يكن ممكنا أن يصبح هذا هو يوم العمل العادي. أما الماكينات التي عملت بضعف سرعتها العادية فقد انتهى عمرها في نصف الوقت أيضا. وكان عدم التوازن بين القطاعات المختلفة للصناعة يعنى أن الكثير من الزيادة الحقيقية في الإنتاج ضاعت ببساطة لأنه لم يمكن استخدامها.
وإذا كانت القفزة الكبرى في المدن محض خيبة ففي الريف كانت كارثة. في عام 1952 أعاد إصلاح زراعي شامل توزيع الأراضي من الفلاحين الأغنياء وملاك الأراضي إلى الفلاحين الفقراء معطيا معظم أسر الفلاحين ما يكفى من الأرض ليعيشوا عليها. منذ ذلك الحين تحركت الدولة بحذر لتدخل أشكالا مختلفة من العمل الجماعي لزيادة الإنتاج دون زيادة الاستثمار. جاء التقدم في عمومه ضعيفا وبطيئا حيث أرادت الدولة كسب موافقة الفلاحين على كل مرحلة لتجنب توقف الإنتاج. ووصل الأمر في 1956 إلى إبطاء العملية نفسها حيث أصبح واضحا أن مقاومة الفلاحين كانت تتزايد.
ولكن في عام 1958 تم إلقاء الحذر في البحر مع تكوين “كوميونات الشعب” وهى بنيات اقتصادية جديدة للريف تغطى كل منها في المتوسط 25 ألف شخص. تم تجميع الأرض بالقوة وتنظيم الفلاحين في مجموعات عمل كبيرة لتحقيق أهداف الإنتاج التي حددتها الدولة.
وأُقيمَت مطابخ وحضانات كوميونية ليس لتحرير المرأة من عبء عمل المنزل ولكن لإرغامها على العمل داخل وخارج المنزل. تم أيضا تأسيس آلاف المصانع الريفية الصغيرة مستخدمة رأس المال الذي تستطيع الكوميونة أن تراكمه وذلك لتقليل الحاجة لأن تستثمر الدولة أكثر في الريف.
كانت تلك المصانع حتما مصدر نزيف للاقتصاد، فلقد استخدمت مصانع الصلب الصغيرة (مصانع “الحديقة الخلفية”) التي أُقيمَت في آلاف القرى صلبا صناعيا أكثر مما أنتجته! ولكن أسوأ الآثار كان يمكن رؤيتها على الأرض ذاتها. جاء رد فعل الفلاحين على فقدانهم لأراضيهم بالامتناع عن العمل أو العمل بالقدر الأدنى. استخدم موظفو الكوميونات كل الوسائل المتاحة لتحقيق الأهداف المستحيلة التي حددتها الدولة وعندما فشلوا لجئوا للكذب على نطاق واسع. فمحصول الذرة في 1958 والذي قيل عنه في البداية أنه 375 مليون طن ظهر أنه لم يتجاوز في الحقيقة ال250 مليون طن.
1958 كان عاما جيدا. الأعوام الثلاثة التالية لم تكن كذلك. فبحلول 1961 عادت المجاعات إلى الظهور فى أنحاء كبيرة من شمال الصين، واشتعلت انتفاضات مسلحة في مقاطعتين على الأقل وهرب حوالي 20 ألف من مقاطعة زينجانج الغربية إلى الاتحاد السوفيتي. وكان التغلب على هذه الفوضى في المدن أسهل منه في الريف. أضاعت القفزة الكبرى حوالي عقداً من النمو الاقتصادي؛ بدلا من أن توسع وتطور الاقتصاد كما كان يأمل ماو.
شهد 1961 أيضا بداية الانقسام الصيني السوفيتي. ورغم إدعاء ماو لاحقاً أن هذا الانقسام كان جزءا من النضال العالمي بين “التحريفية” و “الماركسية الحقيقية” فإن الجذور الحقيقية له كانت في الطموحات المختلفة للطبقتين الحاكمتين الصينية والسوفيتية.
فبينما زود الاتحاد السوفيتي الصين بالكثير مما كانت تحتاجه من التكنولوجيا والتقنيين للتطور الاقتصادي، كان الثمن المطلوب غاليا. أرادت البيروقراطية السوفيتية معاملة الصين كما كانت تعامل حين ذلك الدول التي كانت تدور في فلكها بأوروبا الشرقية – كمصدر لفائض القيمة التي يمتصها الاقتصاد الروسي ولم يكن أمام الطبقات الحاكمة في أوروبا الشرقية اختيارا آخر في ذلك الوقت – فلقد تم بناء سلطتهم بالدبابات السوفيتية وضَمنَ غزو المجر في 1956 عدم نسيانهم لذلك.
ماو – على العكس من ذلك – قد أتى إلى السلطة ليس فقط باستقلال عن ستالين بل ضد جهود هذا الأخير. لم يصدق ستالين أبدا أن جيوش ماو الحمراء يمكنها أن تستولي على السلطة؛ في 1944 وصفهم ستالين في محادثاته مع السفير الأمريكي في روسيا بـ “الشيوعيين الزبدة”. وطول الوقت إلى أن جاء انتصار ماو في 1949 ظل الاتحاد السوفيتي مساندا للكومنتانج. وعند نهاية الحرب العالمية الثانية نهبت الجيوش الروسية الصناعة الثقيلة لشمال شرق الصين “كتعويضات حرب” من الإمبريالية اليابانية (كان ستالين قد أعلن الحرب على اليابان قبل استسلامها بـ 9 أيام)!
انخفضت الحساسية بين الطبقتين الحاكمتين للاتحاد السوفيتي والصين في الخمسينات حيث كان الحزب الشيوعي الصيني يحتاج للتكنولوجيا والاستثمار الروسي أكثر من اهتمامه بالثمن ولكن عندما تزامن تزايد المطالب الروسية مع تخفيض في مقدار الاستثمار والمعونة للصين، كان لدى الحزب الشيوعي الصيني قاعدة قوية رئيسية تمكنه من مخالفة الروس.
ورغم أن ماو كان المحرك الأساسي وراء انقسام 1961؛ إلا أنه كان على هذا الوقت قد خسر التحكم الفعلي في الاقتصاد الصيني. لقد تم إلقاء لوم كوارث “القفزة الكبرى” في البداية على المسئولين المحليين الذين نفذوا السياسة ولكن في 1959 وفى اجتماع موسع للجنة المركزية للحزب حمل ماو نفسه اللوم وتخلى عن معظم مناصبه الرسمية. وعزلته عن الطبقة الحاكمة ربما يكون قد فعلها لتجنب الانقسام بين العامة، إلا أن حركة ماو قد عمقت عزلته.
واندفعت السياسة الاقتصادية في الاتجاه المضاد. رغم أن معظم الكوميونات بقيت كهياكل إدارية فقد عادت السيطرة على الإنتاج الزراعي إلى مستوى القرية. خُفِضَت الأهداف بحدة وشُجِعَت قطع الأرض الخاصة على زيادة الإنتاج. وبحلول 1962 جاء محصول الذرة الخاص على الأقل في ثلاث مقاطعات أكبر منه في المزارع المجمعة وعادت الفروق الكبيرة بين الفلاحين الأغنياء والفقراء للظهور.
وفى المدن حدث تحرير مماثل. أُعِيدَت المكافآت الإنتاجية والعمل بالقطعة للمصانع وأُعطي مديرو المصانع سيطرة أكبر على عملياتهم وعادت الأسواق الخاصة للظهور وتم زيادة التجارة الخارجية. لم تكن هذه استراتيجية مختلفة الجوهر عن تلك التي أتبعها ماو كما قيل بعد ذلك، بل كانت رد فعل ضروري على الخسائر التي أحدثتها “القفزة الكبرى”.
ولكن في حين خففت هذه السياسة الجديدة المشاكل المباشرة للاقتصاد فإنها لم تفعل أي شئ لحل المعضلات الأعمق التي تواجه الطبقة الحاكمة. بعيدا جدا عن اللحاق باقتصاد الدول المتقدمة كان الاقتصاد الصيني يتقهقر أكثر للوراء. في نفس الوقت كان الانقسام الصيني السوفيتي يعنى زيادة عظيمة في الخطر العسكري الخارجي. لقد نجح أعداء ماو داخل الطبقة الحاكمة في تحييده بتحويله إلى رمز؛ ولكن لم يكن لديهم آية استراتيجية بديلة للاقتصاد الصيني.