الصين ثورة من؟
وصل ” المحدثون” إلى السلطة في أواخر 1978 أساسا لأنه لم يكن لدى أي فريق آخر استراتيجية متماسكة يطرحها. ولكن كان توقيت انتصارهم ذا علاقة وثيقة بحركة معارضة أخرى في الشوارع – حركة حائط الديمقراطية”.
أسس هذه الحركة مجموعة صغيرة من المعارضين بعد انتفاضة 1976، وكان بعضهم على علاقة بمجموعات قديمة من الحرس الأحمر. كانوا يهدفون إلى إيجاد قاعدة جماهيرية لدى الشباب الذين كانوا قد أرسلوا للريف بين 69- 1974 والذين بدءوا يعودون في سرية إلى المدن. وبحلول أواخر 1978 كان هناك حوالي 10 الآلاف شخص من هؤلاء في بكين وحدها ينامون في الشوارع ويعيشون من خلال التسول والسرقة والدعارة.
لم يكن لدى النشطين تحليل سياسي منظور وكانت الاختلافات بينهم كبيرة رغم أنه نادرا ما عبر عنها بصراحة، بنوا الحركة حول مجموعة من المطالب العامة: المزيد من الديمقراطية، إطلاق سراح وإعادة حقوق كل من سُجنوا أثناء الثورة الثقافية، طرد كل المسئولين عن قمع انتفاضة 1976 وإنهاء الرقابة. وبالتالي أيدوا دون تحفظ دينج زياو بنج في حربه ضد بقايا الماويين المتشددين، ولكن بينما ساند النشطون دينج لم يكونوا مستعدين للجلوس ساكنين وتركه يفعل الموضوع بدلا منهم. فمنذ بداية 1978 ظهرت الآلاف من الملصقات في بكين ومدن أخرى ترفع مطالبها – مطالب توافقت مع الهجوم الذي كان المحدثون يشنونه. وبدا واضحا أن الحركة لاقت تأييدا ضمنيا من بعض أعضاء الطبقة الحاكمة، ولكن بدا واضحا أيضا أن الكثير من النشطين اعتبروا مطالبهم كخطوات أولى فقط في عملية تحويل أوسع للمجتمع الصيني.
أثناء اجتماع القيادة العليا التي وافقت على صعود المحدثين للسلطة تم الإعلان عن تغيير الموقف من انتفاضة 1976. الآن اعتبرت الانتفاضة دليلا إيجابيا على الكره الشعبي لـ “عصابة الأربعة”.
وبشكل طبيعي تضاعف عدد الملصقات عدة مرات أثناء الاجتماع. وبعد إعلان القيادة بدأت الحركة علنا في التنظيم بغرب وسط بكين. وأصبح “حائط الديمقراطية” في منتصف هذه المنطقة ساحة لنقاشات لا تتوقف في السياسة والفن والثقافة.
وسرعان ما تعدت حرية الحديث دون الخوف من الاعتقال والتعطش للأفكار والحاجة لسماع الحقيقة عن الأعوام العشرة السابقة مجال ملصقات الحائط. وبحلول ربيع 1979 كانت العشرات من المجلات المطبوعة يدويا تتداول في كل المدن الكبيرة. ومع زيادة التحريض تحرك النشطون من النقاش إلى الفعل ونظمت المظاهرات لمطالبة الدولة بالتحرك خاصة في مسألة هؤلاء الذين رُحِّلوا للريف. وكلما تجاهلت السلطات المطالب كبرت المظاهرات وأصبحت أكثر راديكالية وانتشرت من بكين للمدن الأخرى.
كان رد فعل دينج زياو بنج هو المطالبة بأن تتوقف الحركة عن ” خلق الاضطرابات” وتحدد نفسها لمناقشة الموضوعات الآنية. وردا على ذلك كتب وى جينجشينج، محرر أحد أهم المجلات في الحركة: “هل يريد دينج زياو بنج الديمقراطية؟ لا، إنه لا يريدها. إنه غير قادر على فهم بؤس عامة الشعب. إنه يصف النضال من أجل الديمقراطية… كأفعال مثيري الشغب الذين يجب قمعهم. فاللجوء لمثل تلك الأساليب للتعامل مع من ينتقدون السياسات الاجتماعية ويطالبون بالتطور الاجتماعي يرينا أن الحكومة خائفة جدا من هذه الحركة الشعبية”.(18)
وبعد أسبوعين أثبتت الحكومة صحة كلام وى باعتقاله ثم اعتقال أعضاء آخرين في الحركة ذهبوا يطالبون بالإفراج عنه. زاد القمع خلال 1979؛ وأعلنت الحكومة أنها ستحتمل الحركة طالما بقيت ضمن الحدود التي رسمتها الدولة. بالنسبة لدينج زياو بنج كانت الحركة قد أدت مهمتها، ولكنه كان غير راغب في تشويه صورته أمام العالم كليبرالي بالتحول إلى سياسة القبضة الحديدية بسرعة.
إلا أن الحركة رفضت أن تختفي أو أن تفعل كما قيل لها. وفي بداية 1980 تم منع كل ملصقات الحائط ونشر المجلات غير الرسمية؛ ولم يعرف فقط النشطون كيف يبقون في النشاط السري، بل استطاعوا أن يوسعوا من تنظيمهم وتأثيرهم. وفي سبتمبر 1980 عقد اجتماع لممثلي أكثر من 50 مجلة غير رسمية في حوانجزو. وشهد الشهر التالي مظاهرتين طلابيتين مهمتين. وبعد صعود منظمة التضامن في بولندا تحولت أجزاء من الحركة لتنظيم عمال المصانع. بحلول 1981 بدأت تظهر تقارير عن نقابات عمالية غير رسمية في مدن شنغهاي و ووهان و زيان. ولم يطل بهم العمر كثيرا فلقد بدأت حملة تصفية ضخمة دمرت الحركة في 1983.
وأعلن عن حملة التصفية على أنها حملة ضد “الشغب” وهو تعبير عام يغطى كل شئ من المعارضة السياسية إلى جرائم عادية. فزادت الإعدامات العلنية والترحيل الجماعي لشباب العمال – وبحلول أغسطس 1983- أصبح معدل الإعدامات هو عملية إعدام يومية في بكين وحدها. ولم تعط أرقام عن الوفيات بالإعدام ولكن الواضح أن الرقم قد دخل في عداد عشرات الآلاف.
كان حكام الصين الجدد يستطيعون تدمير الحركة، ولكنهم لم يستطيعوا محو ظروف الفقر واليأس التي أملت قيامها. كما لم يستطيعوا التخلي عن التقسيمات الموجودة في أوساط الحزب الحاكم مما فتح مجالا للمعارضين لكي يتحركوا. استطاعت حركة “حائط الديمقراطية” أن تنمو بسبب الانقسامات في داخل الطبقة الحاكمة في 1978 بين المحدثين وبين مؤيدي ماو. وبحلول 1981 بدأت انقسامات أخرى تظهر بين المحدثين أنفسهم حينما ظهرت التناقضات في السياسات الاقتصادية إلى الساحة.
في عام 1978 بدأ “المحدثون” برنامجا طموحا لتحويل الاقتصاد الصيني، وهدف البرنامج إلى مضاعفة الإنتاج الزراعي والصناعي بحلول عام 2000. وكان هناك مكونين رئيسيين لهذه الاستراتيجية؛ الأول كان الاستيراد الكامل للصناعة والتكنولوجيا وذلك للتغلب السريع على التخلف التكنولوجي الصيني. الثاني كان إعادة بناء الاقتصاد الداخلي بالتدريج وذلك لتقليل سيطرة الدولة على الإنتاج والاستثمار، واستبدالها بتأثير “قوى السوق” لجعل الاقتصاد تنافسيا في مجمله.
ومنذ أوائل الثمانينات قلت أهمية المكون الأول – الاستيراد الصناعي-. وكان السبب الرئيسي في ذلك هو اكتشاف الطبقة الحاكمة في العديد من المناسبات أنها غير قادرة على تغطية تكاليف الآلات الجديدة التي تعاقدت على شرائها. كانت هناك تخفيضات كبيرة في المشتريات من الخارج في 1979-1980 و 1983 و 1985. وتركت كل جولة من التخفيضات عددا من المشروعات نصف مبنى ونصف مهجور وكل من هذه الحالات كانت تعنى أن الرأسماليين الغربيين واليابانيين يزداد قلقهم إزاء تلك المشروعات.
كان محور الاهتمام هو تطوير ما يسمى بـ”اشتراكية السوق”. أدت هذه السياسات بدون شك إلى زيادات كبيرة في الإنتاج وأعلى معدلات للنمو الاقتصادي منذ 1949. ولكن كلما مضت الطبقة الحاكمة في هذه الاستراتيجية أصبح واضحا أنها قد استبدلت مجموعة من المشاكل التي لا حل لها بمجموعة أخرى.
في البداية سُجل أهم تقدم في الزراعة بسياسة “مسئولية المنزل” والذي بدأت في 1978 وغطت كل البلاد. وتم إلغاء الأشكال الجماعية القديمة. في محل ذلك حصلت كل أسرة على قطعة أرض يزرعون عليها ما يشاءون. ويتعاقدون مع الدولة ليوردوا كمية محدودة في شكل ضرائب والباقي هو ملكهم يستهلكونه أو يبيعونه في السوق الحرة.
وكانت النتيجة زيادة ضخمة في كل من الإنتاج والإنتاجية. فبين 1978 و 1983 زاد الناتج بأكثر من 60% بينما تضاعف – أو أكثر- متوسط الدخول. ومعظم هذا الدخل الزائد ذهب إلى تطوير الصناعات الريفية التي استخدمت كل من ترك بدون أرض.
ولكن دفع الفلاحون الثمن غالياً من أجل تلك المكاسب. كانت نية الدولة أن تستثمر الدخول الزائدة في الماكينات الزراعية، ومشروعات الري والسماد، وما شابه ذلك، وبالتالي ينخفض المقدار الذي تستثمره الدولة في الزراعة. ولكن صغر حجم معظم القطع الزراعية يجعل مثل هذا الاستثمار أمرا غير اقتصادي بالمرة.
والآن أصبحت الأرض التي تُحرث أو تجنى بالماكينات أقل من تلك في 1978، وانخفض أيضا استخدام الري والأسمدة الكيماوية.
أي جاءت الزيادة في الناتج بالكامل من فلاحين المثقلين بعمل أكثر بكثير مما اعتادوا، مما عنى أن معدلات نمو أوائل الثمانينات كان لا يمكن الحفاظ عليها. وعنى الاستخدام المتزايد للأرض في الصناعة والإسكان بدلا من الزراعة؛ أنه لو ركدت معدلات النمو سيهبط الناتج سريعا.
أما التكلفة الاجتماعية فهي أسوأ. فليس لدى معظم القرى الآن أي نظام تأمين صحي – فلقد ذهب الأطباء للعمل في المدن، وهبط مستوى التعليم لحد مفزع حيث يخرج الأهالي أطفالهم من المدارس ليعملوا الأرض. و هبطت بين عامي 1978 و1983 معدلات قيد المدارس الثانوية من 46% إلى 30%،(19) وبالطبع فإن أرقام القيد أعلى من عدد الذين يواظبون بالفعل.
وتعرض وضع النساء في الريف لتدهور مماثل. فتحت نظام زراعة الأرض جماعيا ورغم أن أجور النساء كانت 80- 90 % فقط من أجور الرجال كان لدى النساء على الأقل نظريا دخلا مستقلا (رغم أنه في الواقع كان يدفع للزوج أو للابن الأكبر). الآن حتى هذا الاستقلال المحدود قد انتهى، وكما كتب أحد المتخصصين في شئون المرأة عن الصين: ” …… إن النظام الاقتصادي الجديد في الريف يعيد النساء إلى وضع ما قبل تحررهم في مواجهة وسائل الإنتاج. الآن بدلا من أن تذهب المرأة لقائد فريق العمل لتحصل على جدولها تكون المرأة تحت إشراف الذكر الأساسي لبيتها. سيقرر هو متى تعمل وكيف تعمل وإذا ما كان يمكنها أخذ بعض الوقت للراحة”.(20)
أخيرا، شهد النظام الجديد زيادة كبيرة في الفجوة بين الأغنياء والفقراء في القرى. ولأن النمو قد اعتمد بالكامل تقريبا على العمل الأشد بدلا من الزيادة في الاستثمار فإن المناطق التي اغتنت هي التي بدأت بظروف طبيعية جيدة ومستوى عال نسبيا من الاستثمار. وتعد أجزاء من مقاطعات زيانج و جيانجس من أغنى المناطق في الصين حاليا – حيث توجد مستويات معيشية أعلى بكثير من المدن. ولكن في المناطق الأفقر والأكثر تخلفا لم يحدث تغير يذكر. ورغم أنه يمكن القول بأن الكل عموما في المناطق الفقيرة فقير إلا أن العكس ليس صحيحا. فحتى في أكثر المناطق نجاحا مازالت هناك جيوب كبيرة للفقر.
مثل تلك الفروق هي التي تقلق الدولة لأنها واضحة جدا للأشخاص الذين يعانون منها ومع ذلك فإن رد فعل الطبقة الحاكمة هو رد ممثليها وكما قال أحد المسئولين الكبار :” إن تحقيق الثراء العام لا يعنى أن الكل سيصبح مرتاحا ماديا في نفس الوقت أو سيتمتع بنفس درجة النفوذ فالدروس التاريخية تخبرنا أن السعي وراء الغنى المتساوي للكل في نفس الوقت يؤدى إلى تهديد المساواة، والفقر العام”.(21)
إلا أن نجاح ” نظام المسئولية” هو بالضبط الذي أرغم الطبقة الحاكمة على إعادة النظر بشكل متكرر في هذه السياسات.
فبالتحديد لأن “قوى السوق” قد فعلت فعلها كانت أسعار الغذاء ترتفع بثبات منذ 1978 (بمعدل وصل 20% سنويا) مؤدية إلى ضغوط ضخمة على الأجور. واضطرت الطبقة الحاكمة إلى إعطاء زيادات كبيرة في الأجور وبطريقة جنونية لتوازى سرعة زيادة التضخم. ولأن معظم أنواع الطعام تباع الآن في الأسواق الحرة فإن الطبقة الحاكمة لا تستطيع أن تفعل شئ لتتحكم في زيادة أسعار الطعام.
وأكثر من ذلك فإن المنتج من الذرة (التي ما تزال الطعام الأساسي في الصين) قد هبط ذروة إنتاجه في 1984، مرة أخرى بالتحديد بسبب الاستراتيجية المتبعة. فالفلاحين تحولوا عن إنتاج الذرة لأن أسعار المحاصيل الأخرى (خاصة المحاصيل “الصناعية”” مثل القطن والتبغ والجوت) كانت وما تزال أعلى من أسعار الذرة. في 1985 اضطرت الدولة لتقديم دعم كبير لزارعي الذرة ففي العام التالي هبطت كمية الأرض المخصصة لزراعة الذرة في عشرة مقاطعات.
لا يمكن أن تحل المشكلة إلا على حساب فائض الدولة وبالتالي تخفيض الاستثمار الصناعي – وهو بالضبط عكس ما كان المفروض أن تحققه الإصلاحات الزراعية.
فإذا كانت مشاكل الزراعة هي الركود، فإن مشاكل الصناعة هي النمو السريع جدا. منذ أوائل الثمانينات أعطى الكثير من مديري المصانع حق الاحتفاظ بأرباحهم وإعادة استثمارها كما يرونه مناسبا. كانت النتيجة هي معدل نمو صناعي قوى ومتصاعد بثبات.
ففي عامي 1983 و 1985 جاءت الزيادة في المنتج مساوية للمنتج الكلى لكوريا الجنوبية في تلك الأعوام.
ولكن تقدم معدل النمو أعلى بكثير من الذي كانت تسمح به خطة الدولة، وأدى ذلك إلى نقوصات في الطاقة، النقل والمواد الخام (وبالتالي إلى فاقد ضخم). وتضخم العجز في ميزان المدفوعات لأن الواردات كانت تنمو أسرع بكثير من الصادرات. وبحلول 1985 وصل معدل النمو الصناعي 18% بينما لم تكن تسمح ميزانية الخطة الخمسية إلا بـ 8% وتراجعت الطبقة الحاكمة معيدة الكثير من القيود على مديري المصانع –تلك القيود التي كانت قد أزالها قبل قليل- وطالبت بمعدلات نمو واقعية. ورغم أن هذا التدبير نجح لعدة شهور إلا أن أرقام 1986 أظهرت أن كلا من النمو والاستثمار ظلا أعلى بكثير من المستويات المخطط لها ومازالت المشكلة كما هي حتى وقتنا الحاضر.
السبب الأساسي لذلك هو أن الدولة المركزية فقدت السيطرة على جيش صغار المسئولين الذين يديرون الاقتصاد على أساس يومي. ويعد استثمار الدولة من ميزانيتها أقل من نصف إجمالي الاستثمارات. يصنع المديرون والمسئولون المحليون الذين يسيطرون على معظم الاستثمار القرارات على أساس مصالحهم الخاصة (والمتعارضة)، وليس على أساس مصالح الطبقة الحاكمة ككل. ويجد هذا التناقض أحد التعبيرات عنه في المجال المعروف بـ “الجريمة الاقتصادية” أي الممارسات التجارية غير القانونية. أقلية من تلك هي حالات جشع شخصي محض مثل مدير شركة الكهرباء الذي قطع الكهرباء من المسرح المحلي لرفض إعطائه تذاكر مجانية؛ أو مدير الغاز الذي كان يدير خطا لحسابه الخاص من خطوط الشركة. الغالبية العظمى، على عكس ذلك، هي حالات تطبيق مبدع لاستراتيجية “اشتراكية السوق”- أولوية حافز الربح ممتدا إلى نهايته المنطقية. فإذا كان معدل الربح من استيراد التليفزيونات الملونة المهربة أعلى من إنتاج الراديوهات (وهذه هي الحقيقة) فسيفعل ذلك المديرون الذين يعتقدون أنه يمكنهم تأمين العملية بغض النظر عن التقنيات مثل القانون (أو المصلحة القومية). المنطق هنا متسق، لكنه منطق يجب أن تحاربه الدولة المركزية إذا كانت تريد الاحتفاظ بالسيطرة على الاقتصاد.
وعندما وصلت المشكلة إلى مستوى وبائي في أوائل الثمانينات هجمت عليها الطبقة الحاكمة بسلسلة من الاعدامات التي روج عنها دعائيا بشكل كبير. ودب الرعب في قلوب مديري المصانع وابتعدوا أيضا عن أية ابتكارات يتضح أنها ” جرائم اقتصادية”. ومع هدوء الحملة سرعان ما عادت المشكلة وتبع ذلك المزيد من الأزمات بين الوقت والآخر. إلا أنها لا تستطيع أن تزيل المشكلة بل ستبقى الغطاء عليها لفترة ما. ولأن الطبقة الحاكمة لا يمكنها أن تثق بعد الآن بالبيروقراطية المحلية لا يمكنها أكثر أن تتحمل اغترابها. فلا يمكن تنفيذ التغيرات المطلوبة لجعل الصناعة الصينية منافسة في الاقتصاد العالمي-وخاصة زيادة الإنتاجية وتخفيض تكاليف قوة العمل- إلا بواسطة هؤلاء المسئولين.
عملية التغيير تلك ستكون مكلفة للغاية. بالنسبة للطبقة العاملة الصينية. ففي الوقت الحالي تعمل حوالي 20% من المصانع بخسارة. وبسبب البطالة المقنعة تعتبر كل المصانع “مزدحمة للغاية” مقارنة بالمستويات العالمية. فلرفع الإنتاجية والربح للمستويات المطلوبة يجب طرد العمال على نطاق واسع وطبقا لتقدير أعطاه وزير العمل في 1986 قال :” سيصبح 15 مليون شخص عمالة زائدة في الشركات التي تملكها الدولة خلال الأعوام الخمسة القادمة”.(22) وهذا يشكل سدس الطبقة العاملة المدنية تقريبا.
ومع ذلك سيتخطى هجوم الطبقة الحاكمة الطرد الواسع النطاق بكثير. فهم يهدفون لتغيير ظروف العمل جوهريا بإلغاء حق العمل للأبد وإدخال “عقود المسئولين”، حيث سيرتبط الأجر مباشرة بالإنتاج وسيطرد العمال المنخفضو الإنتاجية. أما كل الخدمات المعيشية التي تدفعها المصانع للعمال (والتي تفوق متوسط الأجر السنوي) فستلغى كما سيلغى كل دعم من الدولة لأسعار الطعام وتكاليف الإنتاج. إنه الوقوف على قدميهم بالغرامات”
ولكن الفجوة بين النظرية والتطبيق كبيرة. فبرغم أن تلك الأفكار متداولة منذ أوائل الثمانينات فلقد تحركت الطبقة الحاكمة بحذر شديد فقط لمعرفتها الجيدة جدا بالمخاطر المتضمنة. ولكنهم أيضا واعون بمخاطر اللعب بالوقت – فالمناخ في الاقتصاد العالمي، حيث يجب أن ينافسوا، يزداد خشونة. وكلما أجلوا هجومهم كلما تخلفوا أكثر في المنافسة وبالتالي ستزيد الحاجة لشمولية الهجوم على الطبقة العاملة.
ظهر انشقاق عميق في صفوف “المحدثين” منذ 1981 بسبب كل نتائج استراتيجية “التحديث” تلك والتي لم تكن في النية. فالخلاف الجوهري هنا حول طبيعة وسرعة واتجاه الاستثمارات كلها إلا أن هذا ليس انشقاقا بين مجموعتين من المبادئ المتعارضة والواضحة والمعرفة بشكل جيد؛ بل هو انعكاس للمعضلة الأساسية التي تواجه الطبقة الحاكمة.
ويدى الأمر بالنسبة “للمحافظين” –كما أصبح يطلق على معارضي دينج زياو بنج- أنه يجب أن تعكس سرعة النمو الاقتصادي تخلف الصين حيث تركز الدولة على تطوير مناطق رئيسية. ويجب أن تضمن سرعة النمو احتفاظ الطبقة الحاكمة بوجهة وتطوير الاقتصاد.
فسلطتهم ترتكز فوق كل شئ على تلك السيطرة التي لو خسروها، فما الذي سيتبقى من سلطتهم؟
إنه سؤال جيد ولا يوجد لمعارضيهم إجابة بسيطة عليه، إنهم يشيرون بدلا من ذلك إلى الحاجة للمنافسة في السوق العالمي. فلقد تركت سنوات سيطرة الدولة في عهد ماو الصين متخلفة عن باقي الدول، ويمكن فقط بدرجة أكبر من اللامركزية و “اشتراكية السوق” إعطاء الاقتصاد الحركية التي يحتاجها للمنافسة، وخسارة قدر من السيطرة على سرعة النمو الاقتصادي – هو أثر جانبي مؤسف ولكن البديل أسوأ بكثير.
المجموعة الأولى تقول أنه في الحقيقة يجب أن يتعلم الاقتصاد الصيني المشي قبل أن يستطيع الجري حتى يحافظ على توازنه. وترد المجموعة الثانية بأن متطلبات المنافسة العالمية تملى أنه يجب أن يتعلم الاقتصاد الجري قبل أن يستطيع المشي حتى ولو كان يعنى ذلك السقوط كثيراً. ولا يمكن حسم الجدل بإحدى الطريقتين لأن المجموعتين مصيبتين في الإشارة للقيود المادية على أفعالهم. إن التناقض بين قدرات الاقتصاد الصيني والمتطلبات التي تفرضها المنافسة العالمية لا يمكن حلها.
بالتالي شهدت الأعوام منذ 1982 انتقال التركيز في السياسة الاقتصادية من اللامركزية للتخطيط وثم اللامركزية مرة أخرى وهكذا حسب كون الأولوية في استعادة السيطرة أو النمو وتشجيعه. أضاف هذا التنقل أو التغيير المزيد إلى عدم استقرار الاقتصاد والضعف الذي أصاب سيطرة الطبقة الحاكمة على معدل النمو، ومع ازدياد صعوبة تقرير الاختيارات أصبحت الانشقاقات داخل الطبقة أعمق بكثير.
في 1985 طفت الانشقاقات على السطح. فلقد هوجم دينج زياو بنج من قبل الاقتصادي الشهير تشين يول بسبب طريقة إدارته للاقتصاد، وبسبب الفساد المتفشي بين المسئولين الصغار، والسخط المنتشر بين شباب العمال، وسلطة اليابان الاقتصادية المتزايدة على الصين.
وكما حدث كثيرا من قبل، أتاح الظهور العلني للانقسامات داخل الطبقة الحاكمة مجالا أمام المعارضة من أسفل. فشهد شهر سبتمبر 1985 نزول آلاف الطلبة لشوارع بكين، و ووهان، وتشنجدو ضد السيطرة اليابانية على الاقتصاد، وبعد ذلك بأربعة شهور نظم الطلبة في تشينجيانج أول احتجاج من نوعه ضد اختبارات الصين في مجال الأسلحة النووية. فلقد كان الحرم الجامعي في حالة تحريض منذ صيف 1984 تخللها عدة احتجاجات في مدن كبيرة ضد ظروف المعيشة إلا أنه في مسيرات 1985 فتحت طريقا جديدة في مخاطبة المسائل السياسية مباشرة.
وتم رأب الانشقاق داخل الطبقة الحاكمة بسرعة، واختفت المساحة التي كانت أمام الاحتجاجات. ولكن مع فشل الاقتصاد في الاستجابة لمجهودات إخضاعه لسلطة الدولة اشتعل الخلاف مرة أخرى في العام الذي تلاه. هذه المرة جاءت حركة الاحتجاجات التي صعدت كنتيجة للانقسامات أكبر بكثير وموجهة أكثر صراحة ضد الطبقة الحاكمة وتوسعت لتتجاوز قاعدتها الطلابية الأصلية.
في البدء كانت المسيرات أمرا مروضا تبدو كأنها هدفت لتأييد دينج زياو بينج ضد ” المحافظين” وتدعو ببساطة لتغيير أسلوب الانتخابات المحلية. ولكن في ظل الظروف في الصين في ذلك الوقت فإن أي دعوة للديمقراطية هي قنبلة موقوتة. وبوصول الاحتجاجات إلى شنغهاى في منتصف ديسمبر 1986 كانت قد كبرت بشدة في أفقها.
انضم العمال للاحتجاجات بأعداد كبيرة – أخبر أحد العمال مراسل الفيننشال تايمز أنه شارك لأن ” رؤساءه يحصلون على كل الفائدة من الإصلاح الاقتصادي بينما هو لا يحصل على شئ”. ولمدة خمسة أيام ظل وسط مدينة شنغهاى مغلقا بحشود وصلت إلى 70 ألف شخص.
ووقعت احتجاجات مماثلة في 15 مدينة أخرى رغم أنها لم تكن على نفس نطاق شنغهاى في أي منها. وفى بكين لم يخالف أسبوع كامل من المسيرات حظر الحكومة للتظاهر فقط، بل أرغمها على إطلاق سراح 25 طالب اعتقلوا لاشتراكهم في المسيرات.
اهتزت الطبقة الحاكمة بشدة ولعدة أسابيع كان واضحا للعيان انقسامهم حول الطريقة التي يجب أن يتبعوها في التعامل مع الحركة. ولكن مع انحسار الاحتجاجات بدا أن الجناح ” المحافظ ” قد أحرز نصرا وأرغموا السكرتير العام للحزب الشيوعي الصيني الذي كان يعتبر اليد اليمنى لدينج زياو بنج منذ 1978 على الاستقالة، وشنوا حملة ضد “الاتجاه لليبرالية البرجوازية” هجمت أيضا على الانفتاح المحدود في الحرية الثقافية و الأكاديمية للعامين اللذين سبقا. وتم للدولة استعادة هيمنتها ضد أي تحدى لاحتكار الطبقة الحاكمة للأفكار.
الأهم من ذلك أن الاحتجاجات كانت تعنى تأجيل عدد من الهجمات على مستوى معيشة العمال والتي كان مقررا لها في 1987 أن تحدث خوفا من أن يقلد العمال الطلبة فيما فعلوه. ولكن البندول ارتد نحو سيطرة أكبر للطلبة على كل من المجتمع والاقتصاد. وحتى وقوع انتفاضة التبت في أكتوبر 1987 بدا أن المحافظين كانوا في موقع يسمح لهم بعرقلة المزيد من التغير الاجتماعي.
ولكن أيا كان الجناح الذي سينتصر في هذا الصراع فإن الهجوم على الطبقة العاملة سيأتي عاجلا أم آجلا على رأس أجندتهم. ولا يمكن أن يكون هناك ضمان بأنه عندما يقع الهجوم فإن العمال سيقاومون- ولكن كلما تم تأخير الهجوم كلما كبرت احتمالية هذه المقاومة.
لقد أوضح تاريخ حركات المعارضة السابقة أنه رغم أن الدولة نجحت في احتوائها وسحقها فإن أفكارها وآمالها بقيت في الذاكرة لتلهم الجولة التالية في النضال. يوجد الآن في الصين تراث خطير في معارك الشوارع والاحتجاجات ضد الدولة وضد الثورة الثقافية والعمال كانوا دائما جزءا من هذه المعارك لو أنتشر هذا التقليد إلى الطبقة العاملة ككل فستواجه الطبقة الحاكمة عندئذ حربا أعنف بكثير من أي شئ واجهوه من قبل.