الصين ثورة من؟
شهدت الأعوام التي تلت موت ماو تخلى خلفاؤه عن كل شئ مميز في “الماوية”. مازال ماو ذاته مقدسا كمؤسس الدولة ولكن تم إلغاء كل قرار هام أتخذه خلال العشرين عاما الأخيرة من عمره. هكذا لخص أحد أتباع دينج زياو بنج في 1981 المركز الخالي لماو : ” إن أخطاء ماو مختلفة عن الفكر العلمي لماو تسى تونج، وبالتالي لا يجب الخلط بين تفكير ماو في أعوامه الأخيرة وفكر ماو، وهو نظرية علمية لا تضم أخطاء الرفيق ماو تسي تونج”.(23) أي بعبارة أخرى ‘فكر ماو تسى تونج العلمي هو أي شئ يريدونه أن يكون.’
في الستينات نظر عشرات الآلاف من الثوريين في مختلف أنحاء العالم إلى الصين كالنموذج الملهم للاشتراكيين وكمصدر للعون المادي لحركات التحرر. حطم صعود دينج زياو بنج للسلطة هذين الأمرين. اليوم لا ينظر إلى الصين كنموذج إلا اليمنيون الذين يريدون إثبات التفوق الحتمي لـ “قوى السوق”. وأدى ذلك لكثير من اليساريين للحديث عن صعود “التحريفية” وعن “طبقة رأسمالية جديدة”.
إلا أنه لا يوجد شئ جديد عن هذه الطبقة الرأسمالية. فكثير من عناصر استراتيجية ” التحديث” اُستخدِمَت في أيام ماو عندما كانت تخدم أغراضه. والأكثر جوهرية هو أن ماو و دينج كان لديهما نفس الهدف الجوهري – تكوين اقتصاد قومي قادر على المنافسة مع بقية العالم فكان الخلاف بينهما دائما خلاف حول الوسائل وليس الغايات.
منذ 1949 كانت هذه الحاجة للمنافسة وليست احتياجات العمال والفلاحين الصينيين هي التي حددت معدل- ووجهة تطور الاقتصاد الصيني.
وفى الخمسينات والستينات أخذت هذه المنافسة شكلا عسكريا وتركزت الاستراتيجية الاقتصادية على الحاجة لبناء قدرة عسكرية مساوية للأخطار الخارجية ومن هنا جاء اقتصاد الحصار، الأولوية المطلقة للصناعات الثقيلة، إهدار موارد ضخمة لتصنيع قنبلة ذرية صينية، و”الحملات الجماهيرية” المستمرة لاعتصار المزيد من الإنتاج من العمال والفلاحين. ولكن الفقر المدقع للصين أفشل هذه الاستراتيجية. كان رد ماو هو التغلب على القيود المادية بمجرد قوة الإرادة والعمل الشاق لتعويض رأس المال والتكنولوجيا غير الموجودين.
وبدلا من أن ينجح هذا الأسلوب أُدخِلَ الاقتصاد في أزمة تلو أزمة، فلقد تطورت الصين صناعيا ولكن استمر الاقتصاد في السقوط خارج المنافسة.
لقد تخلص الحكام الجدد من أسلوب ماو لأنه أثبت فشله. فمن وجهة نظرهم أن واقع المنافسة العالمية يملى أن تندمج الصين في الاقتصاد العالمي إذا كان مقدرا لها أن تتقدم. فلو كان من الممكن تحسين ربحية وإنتاجية الصناعة الصينية فلا بد أيضا أن تنتهي قيادة البيروقراطية للاقتصاد من أعلى، فــ “الاشتراكية في بلد واحد” قد ماتت.
هذا لا يعنى أنهم يتخلون عن رأسمالية الدولة في صالح الرأسمالية الفردية. فقد عادت الرأسمالية الفردية للصين – بوضوح في الصناعات الريفية الجديدة، ولكنها لا تمثل إلا كسرا صغيرا جدا من الاقتصاد ككل. والشيء الذي تقوم به الطبقة الحاكمة فعلا هو نقل السيطرة على إدارة الاقتصاد من بضعة مئات من الأيدي في بكين إلى جماهير المسئولين والمديرين الصغار، وتبقى الدولة في القيادة ولكن يصبح لدى أعضاء الطبقة الحاكمة في أعلى الهرم – أي مديري المصانع- السلطة ليحددوا بالضبط كيف يتم تحسين الإنتاجية في كل مصنع أو منجم. ويوجد شرط مسبق لكي يصبح الاقتصاد ككل أكثر قدرة على المنافسة… أن تصبح كل وحدة في الاقتصاد قادرة على المنافسة.
ولكن رغم أن الاقتصاد نما أسرع بكثير من منذ عام 1987 عن قبل ذلك فلقد فقدت الطبقة الحاكمة ككل سيطرتها على هذا النمو أكثر فأكثر. ففي نقلهم للسلطة إلى المسئولين المحليين خلقوا عشرات الآلاف من مراكز صناعة القرار المحلية التي لا يمكن الاعتماد على التزامها برغبات الطبقة الحاكمة ككل. هذا التطور له حركيته الذاتية التي تؤدى للمزيد من الانقسام وعدم التكافؤ وبالتالي الاستقلالية.
وكلما نجحوا في إدماج الصين في الاقتصاد العالمي كلما أصبحت آليات تطور أزمة الاستغلال العالمي تسيطر على الاقتصاد الصيني. فلا يمكن للطبقة الحاكمة أن تخطط مسبقا أي الأسواق ستنجح فيها الصادرات الصينية ولا يمكنها أن تخطط الأسعار التي سيتلقونها مقابل صادراتهم سيجب تعديل الخطط بشكل مستمر حتى تتوافق مع الواقع.
إلا أن سلطة الطبقة الحاكمة تكمن بالضبط في مقدرتها على التحكم في وتوجيه الاقتصاد وتتطلب استراتيجية “التحديث” هذه القدرة بنفس قدر إستراتيجية ماو. ولو كان مقدرا لأي جزء من الصناعة الصينية أن تصبح قادرة بالفعل على التنافس على المستوى العالمي ستكون كمية رأس المال المتطلبة ضخمة لدرجة سيستحيل معها على أي شركة أو مجموعة من الشركات مراكمتها: يجب أن تأتى الأموال من الدولة المركزية. إلا أن سيطرة الدولة على القطاعات المحورية للاقتصاد ستتضاءل باستمرار بسبب غياب سيطرة الدولة على بقية الاقتصاد.
إن التناقض بين التخطيط و “قوى السوق” يعنى أنه يجب على الدولة أن تتدخل باستمرار للحد من سلطة قوى السوق ولاستعادة سلطة الطبقة الحاكمة. ورغم ذلك ففي كل مرة يحدث هذا يجعل معدل النمو الاقتصادي أكثر اهتزازاً. إنها دائرة مفرغة لا يوجد هروب منها في نطاق الدولة- الأمة حتى دولة بحجم الصين.
ولا تعتبر المشاكل الجوهرية التي تواجه الطبقة الحاكمة خصوصية للصين. إنها المشاكل التي تواجه كل طبقة رأسمالية حاكمة تحاول أن توجه اقتصادا قوميا، وفى إطار اقتصادي عالمي لا يمكن التحكم فيه. المشاكل في الصين أسوأ بسبب تخلف الاقتصاد ومحاولات ماو الكارثية للتغلب عليها. إلا أن الاستراتيجية الجديدة ليست أقدر على حل هذه المشاكل من الاستراتيجية القديمة. ولا تقع جذور هذه المشاكل في أخطاء أو عدم كفاءة الطبقة الحاكمة الصينية بل في طبيعة الرأسمالية كنظام إنتاج عالمي أصبحت فيه الدولة – الأمة عقبة أمام التطور الاقتصادي الحقيقي.
بالفعل كلما زاد تأثير حركة النظام العالمي المتأزم على الصين فمن المتوقع جدا أن تكون استراتيجية “التحديث” أسوأ بكثير بالنسبة لجماهير الشعب من الماوية.
في دراسة هامة عن الاقتصاد الصيني في أوائل الثمانينات استنتج البنك الدولي: “رغم أن دورا أكبر للسوق والمنافسة بالتأكيد سيحسن الكفاءة ويسرع التقدم التكنولوجي فإنه قد يسفر أيضا عن عواقب اجتماعية واقتصادية غير مرغوب فيها ويتضمن ذلك البطالة، أجورا منخفضة (ومرتفعة) غير مقبولة وترك الفقراء ليسقطون أكثر من عملية التنمية ….. قليل جدا من الدول مزج بين تحكم السوق والدولة بطريقة تحقق نموا سريعا وذا كفاءة، وعددا أقل نجح في تفادى الفقر غير المحتمل بين قطاعات ولسعة من السكان. وعلى العكس، فهناك عدد أكبر بكثير من الدول لم ينتج فيها المزج بين التخطيط والسوق والمؤسسات الاجتماعية لا النمو السريع و لا الكفاءة و لا تخفيض الفقر.” (24)
هناك بديل لكل ذلك، كما أتضح لفترة في الثورة الأولى 1925 – 1927 جوهره هو: ليس من الضروري أن تظل الطبقة العاملة سلبية في مواجهة بيروقراطية الدولة أو قوى السوق؛ لدى الطبقة العاملة القوة الكافية لمواجهة الطبقة الحاكمة، وجذب الفلاحين خلفهم في النضال. إن سحق هذا البديل هو الذي جعل في التحليل الأخير انتصار ماو ممكنا.
إن إمكانية سلطة العمال الآن أكبر بكثير من 1927. حينذاك لم يكن هناك إلا 3 ملايين عامل صناعي في الصين بأكملها متمركزين بشكل أساسي في الجنوب الشرقي. الآن يوجد أكثر من 150 مليون عامل. وانتشار الصناعة في المناطق الريفية منها وحد نضالات العمال والفلاحين، لدى الطبقة العاملة القوة للتغلب مرة وللأبد على كل الفقر والبؤس الذي كان من نصيب العمال والفلاحين هذا القرن، الشرط المسبق لذلك هو تحطيم الدولة التي أسسها هؤلاء الذين ادعوا أنهم محررو العمال.