بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العراق وقيام المقاومة

« السابق التالي »

13. صعود مقتضى الصدر

منذ سقوط صدام حسين ظهرت ثلاثة تيارات سياسية رئيسية بين رجال الدين الشيعة، فقد وافق بعض كبار أعضاء “حزب الدعوة” و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” على شغل مقاعد في مجلس الحكم ومناصب في الحكومة الانتقالية. أما آية الله علي السيستاني، وهو من كبار رجال الدين الشيعة على مستوى العالم، فقد التزم بموقف يميل إلى الهدوء أول الأمر مؤكدا على أنه يجب على رجال الدين عدم التدخل في الشئون السياسية. ولكنه قام فيما بعد بتوجيه انتقادات إلى سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم لقيامهما بتأجيل الانتخابات الوطنية، كما أعرب عن رفضه للدستور الانتقالي الذي تم توقيعه في مارس 2004. ويمثل مقتضى الصدر تيارا ثالثا، شديد المعارضة للاحتلال، ومصرا في دعوته إلى رجال الدين للقيام بدور فعال في الحكومة، بل ومستعدا لحمل السلاح ضد الاحتلال.

وقبل سقوط صدام حسين لم يكن مقتضى الصدر معروفا بالخارج سوى للقليل من الناس، إلا أنه طبقا لاستطلاع للرأي قامت به سلطة التحالف المؤقتة في مايو 2004 فإن مقتضى الصدر هو ثاني أكثر الشخصيات شعبية في العراق بعد على السيستاني، وأعرب حوالي 70% ممن شملهم الاستطلاع عن مساندتهم أو دعمهم الشديد له. ففي أعقاب سقوط صدام حسين قام مقتضى الصدر بإعادة إحياء عادة والده في إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة الكبير، حيث توافد الآلاف للاستماع إلى خطبة الجمعة التي كان يلقيها محمد صادق الصدر في الفترة ما بين عام 1997 و1999، عام وفاته، حيث كانت شعبيته قد بلغت درجة فاقت احتمال نظام البعث، فمات مقتولا. وقد استخدم مقتضى الصدر، مثله في ذلك مثل والده من قبل، خطب الجمعة لإعلان آرائه السياسية على العالم، فمن على منبر مسجد الكوفة أعلن تشكيل “حكومة ظل” موازية لمجلس الحكم الذي عينته أمريكا في أكتوبر 2003.

كما قام مقتضى الصدر بتشكيل قوات مساحة أثبتت كونها أهم وسائله للحصول على الدعم، حيث تم تأسيس “جيش المهدي” في نهايات شهر يونيو 2003، وهي منظمة تشتق اسمها من الإمام المنتظر محمد المهدي، آخر المعصومين من بيت النبوة، والذي يعتبر ظهوره علامة لنهاية العالم. وقد ازداد حجم تلك الميليشيات بسرعة بالغة في ظل الاحتلال الأمريكي، فقد أدى قرار المسئولين الأمريكيين حل الجيش العراقي في مايو 2003 إلى قيام جمع من 400 ألف رجل مسلح يعاني من البطالة والغضب وبلا أمل في الحصول على فرصة عمل، وكان قد تمت إعادة تعيين بعضهم من قبل سلطة التحالف المؤقتة وذلك للعمل في مجال الجهاز الأمني الوليد، بينما انجذب آخرون نحو “جيش المهدي” وغيره من الميليشيات أو حركات المقاومة. وعلى الرغم من علاقة “جيش المهدي” بمصادمات كبيرة المدى ضد القوات الأمريكية إلا أنه لم ينشأ أساسا بهدف مقاومة الاحتلال، وإنما يعبر عن عسكرة السياسة الشيعية وعن المنافسة القائمة بين مقتضى الصدر غيره من الزعماء الشيعة.

وقد كانت معارضة مقتضى الصدر للاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية مصدر جذب للعديد من شباب الشيعة الفقراء الذين تغمرهم حالة من الاستياء، حيث أنه سرعان ما تحولت توقعات وآمال الشيعة المشوبة بالحذر إلى شعور بالمرارة بسبب البطالة وتصاعد معدلات الجريمة. ومن العلامات الدالة على هذا التغير في الحالة السياسية هو رد فعل مدينة الصدر للنشاط العسكري الأمريكي، ففي الشهور الولى للاحتلال لاحظ الصحفيون الغربيون أن الجنود الأمريكيين عادة ما كانوا يستقبلون بالحفاوة في مدينة الصدر، وذلك مقارنة بمناطق أخرى من العاصمة، إلا أنه في نوفمبر 2003 حاول مؤيدو الصدر التخلص من المجلس المحلي المعين من قبل أمريكا. وعلى مدى الأشهر التالية من المصادمات بين الطرفين، يقدر القادة العسكريون الأمريكيون أنهم قد قتلوا 800 عراقي في مدينة الصدر ومنهم أعداد كبيرة من الشباب المراهقين أعضاء “جيش المهدي.”

وتوضح العلاقة بين مقتضى الصدر وعلي السيستاني بعض التناقضات القائمة في سياسة الشيعة في عراق ما بعد الحرب، حيث أن السيستاني يحتل مرتبة أعلى من الصدر في إطار التراتبية الدينية، ففي المذهب الشيعي يجب على كل شيعي بالغ اختيار “مرجع” وهو رجل دين كبير يحق له إصدار الأحكام الدينية الملزمة لأتباعه. وهكذا على العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي تتمتع بهيكل تراتبي مركزي، فإننا نجد لدى الشيعة العديد من “المراجع” في نفس الوقت ولكل منهم الملايين من الأتباع. إن أتباع السيستاني يديرون مؤسسات خيرية يبلغ دخلها ملايين الدولارات سنويا، ويديرون نشاطها من خلال شبكة من المكاتب الموجودة في العراق وإيران. وعلى الرغم من صغر سن مقتضى الصدر وبالتالي عدم كونه “مرجعا دينيا” بعد، إلا أنه قد ورث عن والده سلطة إدارة منظمة شبيهة لمنظمة السيستاني. ومع ذلك يظل ملتزما بهيكل السلطة الدينية التي تمنح السيستاني الأسبقية وسلطات أعلى منه، كما أن نداءاته إلى أتباعه والمجتمع الشيعي عامة تتحدث عن الولاء لرجال الدين الشيعة بشكل عام وعلى رأسهم الكلية الدينية في النجف أي “الحوزة الشيعية.”

إن نجاح مقتضى الصدر في التعامل مع حالة خيبة الأمل والاستياء تجاه الاحتلال هو نجاح يعكس أيضا ضعف خصومه السياسيين، فإذا كان المنفيون السابقون من أعضاء حزب الدعوة والمجلس العلى للثورة الإسلامية في العراقي يتمتعون بولاء الجيل الأكبر سنا من النشطاء إلا أن الكثير من الشباب يرونهم موصومين بعلاقاتهم بإيران أولا ثم بالاحتلال. إلا أن مقتضى الصدر يواجه تناقضا بشأن مصير الشباب الذين يجندهم، وهي مشكلة تقع في صلب الإسلام الشيعي في العراق. إن خيبة الأمل في محاولات حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق لإقامة أحزاب سياسية إسلامية أضفت الشرعية على العودة إلى هياكل أكثر تقليدية للسلطة الشيعية، فكلا النموذجين التنظيميين يحملان في حالة نجاحهما قدرا من المجازفة برفع مجال التوقعات، بشأن التغييرات السياسية والاجتماعية، إلى معدلات لا يمكنهما تحقيقها. إن ميليشيات الصدر غير قادرة وحدها على إلحاق الهزيمة بالقوات الأمريكية على الرغم من محاولات رجال الدين ملء الفراغ الموجود في مجال الرعاية الصحية والتعليم عن طريق العمل الخيري، إلا أنه لا يمكن تلبية احتياجات ملايين الفقراء من سكان مدينة الصدر دون الحصول على دعم من الدولة. كما أن تكوين حركة قادرة فعليا على أن مواجهة الاحتلال سيؤدي كذلك إلى إضعاف نفوذ نظام السلطة الدينية الذي تمثله حركة مقتضى الصدر.

« السابق التالي »