العراق وقيام المقاومة
نجد في عديد من المناطق العراقية نظاما للمقاومة نابعا من خبرات السكان المحليين، حيث توجد سلسلة من الهجمات التي خلقت لنفسها إيقاعها الخاص، وتمثل الفلوجة نموذجا جليا في هذا الصدد حيث بدأت المقاومة ردا على مقتل 13 من المتظاهرين العزل من قبل القوات الأمريكية في أبريل 2003، واستمرت الأعمال الهجومية ضد قوات الاحتلال بمعدل متصاعد خلال فصل الصيف، في الوقت الذي أخذت المدينة تتعرض فيه لغارات مكثفة من القوات الأمريكية. وقد كان لشعب الفلوجة أسبابهم الخاصة لحمل السلاح ضد الاحتلال دون الحاجة إلى مصعب الزرقاوي، وهو ما ينطبق أيضا على مناطق أخرى رئيسية حيث نشأت حركات مقاومة في مدن بعقوبة والرمادي ومدينة الصدر وسامراء وتل عفار والموصل.
إلا أنه حتى في المناطق التي لا يوجد بها نظام مقاومة محلي فإن استطلاعات الرأي تشير دوما إلى أن العراقيين يعارضون الاحتلال من حيث المبدأ، فيشير استطلاع كبير تم في مارس 2004 إلى وجود تشابه بالغ بين ردود أفعال سكان المناطق الشيعية من ناحية والسنية التي عانت من العمليات العسكرية الأمريكية من ناحية أخرى. فقد اعتقلت قوات التحالف من الفلوجة وحدها عددا أكبر ممن اعتقلتهم على مستوى المحافظات الثماني الجنوبية كلها، إلا أن 80% من سكان المناطق الشيعية والسنية على السواء قالوا أنهم يعتبرون الآن أن قوات التحالف هي قوات احتلال. ومن الملفت للنظر بصورة أكبر هو أن العديد من الشيعة قد غيروا رأيهم خلال عام واحد، فقد ذكر 47% أنهم كانوا يعتبرون قوات التحالف وقت الغزو قوات احتلال، مقارنة بنسبة 64% من المناطق السنية. وطبقا لاستطلاع قامت به سلطة التحالف المؤقتة في شهر مايو فإن 81% من العراقيين يرون أنه يجب على قوات الاحتلال الرحيل.
وفي أبريل 2004 شهدت المقاومة تغيرا كيفيا لتتحول ولأول مرة إلى انتفاضة شعبية وطنية، وقد بدأ العد التنازلي عندما تم إغلاق صحيفة مقربة لمقتضى الصدر واعتقال أحد كبار معاونيه بتهمة فتل أحد خصومه من رجال الدين. فقد نظم مؤيدو الصدر أنفسهم على مستوى البلاد، كما استولى أعضاء “جيش المهدي” على المباني الحكومية في العديد من المحافظات الجنوبية. وجاء رد فعل المسئولين الأمريكيين ضد الصدر في توقيت قاتل وأتى بنتائج كارثية، ففي 31 مارس تعرض 3 من الجنود الأمريكيين المرتزقة بأيدي حشد من سكان الفلوجة، فأمر الجيش الأمريكي أهل المدينة بتسليم المسئولين عن عملية القتل، ورفض المجلس المحلي تنفيذ الأمر، فاقتحمت القوات المدينة في اليوم التالي بينما ظلت المقاومة متماسكة، ومن هنا بدأ حصار الفلوجة.
وقد كان لقيام القوات الأمريكية بمحاربة تمرد سني شيعي مشترك أثره السياسي الهائل، حيث دخلت مظاهرات التضامن في كافة أنحاء العراق في مواجهات متكررة ضد القوات والشرطة المحلية. وفي بغداد امتلأ مسجد أم القرى السني بعشرات الآلاف من السنة والشيعة لأداء صلوات مشتركة، كما تظاهر ما يزيد على 200 ألف متظاهر يوم 9 أبريل في أكبر احتجاج يتم على مدى جيل بأكمله. وقد استجاب العراقيون لنداءات الفلوجة طلبا للدعم الطبي والدم والمال، وبطول البلاد وعرضها قام رجال مسلحون، وأغلبهم من الشباب المحليين، بمهاجمة قوات التحالف بالحجارة والبنادق.
وخلصت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن الاحتلال قد فقد رصيده الأخلاقي والسياسي تماما بالنسبة للعراقيين العاديين:
إن الانقسام بين السنة والشيعة، والذي أخذ في التراجع في العراق بمعدل أسرع منه في بعض مناطق العالم العربي، هو انقسام تتراجع مظاهره بالتأكيد مع مرور كل يوم يتيقن فيه العراقيون من أن مشكلتهم الأساسية هي الاحتلال. ويتردد الكلام هنا عن أنه مهما كانت قيمة عزل صدام حسين إلا أن الأمريكيين قد استنفذوا حسن نواياهم.
وجاءت الضربة القاضية للهجوم الأمريكي على الفلوجة عندما وقفت الجموع في وجه الكتيبة الثانية من الجيش العراقي التي تضم 650 جنديا والمتوجهة إلى الفلوجة في طريقها من قاعدتها في شمال بغداد، حيث دعا العراقيون القوات ألا تنضم إلى الهجوم المتوقع، مما أصاب الجنود، وكثير منهم من الشيعة، بحالة من الذهول. وفي لحظة حاسمة تم إطلاق النيران التي تسببت في جرح العديد من الجنود. فعادت الكتيبة أدراجها إلى قاعدتها بينما بدأت الاستعدادات تجري لنقل القوات جوا إلى المعركة، ولكنه كان بعد فوات الأوان إذ كان الحس الشعبي قد تغلغل في صفوف القوات فرفضوا تنفيذ الأوامر. وهكذا أدت تلك المواجهة بين الجيش العراقي وجموع العراقيين إلى ترسيخ معارضتهم لتنفيذ المهمة العسكرية.
وعقد العسكريون الأمريكيون اتفاقا مع زعماء مدينة الفلوجة لتشكيل “فرقة الفلوجة” لتكون قوة عسكرية جديدة متكونة من المتطوعين المحليين، على أن تعترف بحكومة بغداد. وقد قال سعد العاني، أمين عام “الاتحاد الإسلامي الصوفي في العراق” بالفلوجة، أن أهل المدينة اعتبروا تشكيل “فرقة الفلوجة” المكونة من أعضاء في الجيش العراقي المدعوم من قوات التحالف جنبا إلى جنب مقاتلي المقاومة العراقية بمثابة انتصار للمقاومة:
إن تكوين “فرقة الفلوجة” كان بالتأكيد انتصارا لشعب الفلوجة ولمقاطعة الأنبار بأسرها، حيث عقد علماء الدين بالفلوجة اتفاقا مع ممثلين عن الحكومة الانتقالية وقاموا باختيار أعضاء “الفرقة” من بين أهل الفلوجة.
وهكذا أدت انتفاضة أبريل إلى وضع السيادة على المدينة في أيدي زعامة سياسية قريبة الصلة بالمقاومة. وكان الزعماء الدينيون السنة يمثلون عنصرا أساسيا في تلك الزعامة، كما أمكنهم الاتصال بشبكة دعم سياسي على مستوى الأنبار وصولا إلى بغداد، وذلك من خلال مجموعات مثل “هيئة العلماء المسلمين” التي لعبت دورا وسيطا أثناء المعركة. ومقارنة بذلك نجد أن الزعماء السياسيين الذين تعاملوا مع الأمريكيين بدوا فاسدين تماما. وقد التقى عبد الكريم برجس، محافظ مقاطعة الأنبار، بالمقاتلين وأعرب عن ندمه لتعاونه مع القوات الأمريكية، معلنا عن استقالته مقابل عودة أبنائه الثلاثة الذين قامت المجموعة باختطافهم في يوليو، وقد تم إطلاق سراح أبنائه فيما بعد.
كذلك فشلت قوات الاحتلال في إخماد ثورة الشيعة، فعلى الرغم من أن القادة العسكريين أعلنوا أن هدفهم هو “قتل أو أسر” مقتضى الصدر، إلا انهم لم يتمكنوا من تحقيق ذلك، بل إن “جيش المهدي” نظم نفسه في النجف الأشرف وفرض سيادته على ضريح الإمام علي وغيره من المواقع في تلك المدينة المقدسة. وبعد تدخل رجال دين شيعيين آخرين بالوساطة، وفي أعقاب نداء وجهه آية الله السيستاني إلى كافة القوات بالانسحاب من مدينتي النجف وكربلاء المقدستين، دعا مقتضى الصدر المقاتلين المتطوعين في “جيش المهدي” إلى العودة لديارهم. وعلى الرغم من أن ذلك كان بعيدا عن هدفه في توحيد كافة القوات الشيعية تحت لوائه إلا أنها مع ذلك كانت بمثابة انسحاب مهين للولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد مأزقها في النجف حاولت الولايات المتحدة إخضاع مدينة الصدر، حيث أرادت القوات الأمريكية أن تزيد من دورياتها في المنطقة وطالبت بإنهاء العمليات الهجومية العراقية ضد مواكبها العسكرية، كما طالبت بحقها في زيادة دورياتها في تلك الضاحية. كما خشي العسكريون الأمريكيون من قيام “جيش المهدي” بإدراك أهمية قواته والعمل على بنائها وتطويرها. وعلى الرغم من أن معركة النجف كانت ورطة للأمريكيين إلا أنها كشفت أيضا عن افتقاد الميليشيات للتنظيم، حيث قاتل المحاربون الشبان بشجاعة ولكنهم لم يتميزوا بنفس القدر من التنسيق الموجود لدى مجموعات المقاومة السنية. وخشيت الولايات المتحدة من قدرة الشيعة على التغلب على نقص الخبرة التكتيكية، وانتشرت الشائعات بأن المتمردين السنة يقومون بتدريب المقاتلين الشيعة مما أفزع العسكريين الأمريكيين.
وقرر الأمريكيون مواجهة “جيش المهدي” في مدينة الصدر، إلا أن شباب المقاتلين التابعين للصدر كانوا في معقلهم، وبالتالي اتجهت الولايات المتحدة إلى القيام بضربات جوية مدمرة بعد زيادة أعداد المصابين الأمريكيين في المعارك الشديدة مع “جيش المهدي.” فوافق الصدر على القيام بتسوية تتضمن نزع أسلحة أتباعه، إلا أن برنامج “المال مقابل السلاح” المدعوم أمريكيا لم يجمع سوى مئات الأسلحة فاقدة الصلاحية. كما توقفت قوات الاحتلال عن محاولة فرض سيطرتها السياسية على المنطقة في نهاية شهر أبريل 2004 في أعقاب اغتيال رئيس المجلس المحلي المدعوم أمريكيا، فأوقف المجلس اجتماعاته لأجل غير مسمى تاركا للجنود الأمريكيين مهمة حماية المبنى المحصن والذي سبق أن كان مقرا للمجلس.
وعلى مدار الأشهر التالية فقدت قوات كل من سلطة التحالف والحكومة العراقية سلطتها السياسية والعسكرية في عدد من المدن بما فيها تل عفار وسامراء ومدينة الصدر. وأنه لبئس الدليل على فشل قوات الاحتلال السياسي والعسكري المتكرر أن نرى الفلوجة، التي كانت قد سقطت في أيدي القوات الأمريكية بلا طلقة نار في مارس 2003، وقد تحولت الآن لتصبح في أيدي المقاومة العراقية. وبحلول 22 يوليو 2004، جاءت تقارير روبرت فيسك لصحيفة “الإندبندنت” قائلا:
“كان المشهد متكررا ميلا بعد ميل في جنوب بغداد: من أقسام شرطة خالية، ونقاط تفتيش للجيش والشرطة العراقية مهجورة، ومخلفات عربات نقل للنفط أمريكية محترقة، وسيارات شرطة دمرتها الصواريخ، كلها على الطريق الرئيسية بين مدينتي الحلة والنجف.”
ومع تزايد حركة التمرد في ربيع 2004، بدا كما لو أن الإسلاميين الشيعة والسنة يستلهمون النموذج اللبناني، حيث قاد “حزب الله” الكفاح من أجل تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. و”حزب الله” هي مجموعة إسلامية شيعية قامت بتعبئة قوى أخرى للانضمام إلى حربها ضد القوات الإسرائيلية، وذلك عن طريق التركيز على التحرر الوطني بدلا من الأجندة الإسلامية. وفي أبريل 2004 أعلن مقتضى الصدر أنه “يد حزب الله الضاربة” في العراق، في الوقت الذي قام فيه الشيخ حارث الداري، رئيس “هيئة العلماء المسلمين” وهي منظمة مهمة معارضة للاحتلال، بالسفر إلى بيروت للقاء حسن نصر الله، زعيم “حزب الله.”