العراق وقيام المقاومة
ردا على فشلهم في انتفاضة أبريل، قام الأمريكيون بتطوير استراتيجية جديدة تقوم على إحداث انقسام بين زعماء المدن وبين المقاتلين، واستهدفت تلك الاستراتيجية من ناحية جذب الزعماء السياسيين المعادين لأمريكا ودفعهم للتعاون مع حكومة بغداد، وإقناع المعتدلين من أمثال على السيستاني بتأييد الانتخابات من ناحية أخرى. وتم منح الزعماء المحليين الخيار التالي: إذا أوقفوا المقاومة واعترفوا بحكومة العلاوي فستسمح الولايات المتحدة للمجالس المحلية التي نشأت أثناء الانتفاضة أن تمارس دورها في إدارة شئون المدن، بشرط سيطرة الشرطة العراقية على الشوارع. كما تمت إضافة حافز آخر ممثلا في مساعدات تبلغ ملايين الدولارات لإعادة الإعمار. وتضمن الاتفاق أيضا تسليم أعضاء حركة المقاومة مقابل تعهد الولايات المتحدة بعدم التدخل في الشئون الداخلية للمدن. أما البديل لذلك الخيار فكان هو الغزو والدمار مع التأكيد على استهداف المدنيين تحت ستار استهداف معاقل المقاتلين.
وقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن هذا التغير في الموقف حيث ورد فيها:
إن خطة البنتاجون الجديدة التي تمت صياغتها خلال صيف 2004 ترتكز على جذب عدد أكبر من السنة إلى داخل العملية السياسية، مع استهداف المجموعات الإسلامية المتشددة بغرض القضاء عليها. إن الأمر يعتمد بشدة على بناء قوات عراقية بنجاح أكبر مما تحقق خلال العام الماضي، ويعتمد أيضا على تجاوز العقبات البيروقراطية التي أحبطت محاولات تدفق مساعدات إعادة الإعمار إلى المدن التي يسيطر عليها المتمردون مثل سامراء، وذلك لكسب تأييد المدنيين العراقيين.
وقد كان الأمريكيون يأملون في عزل المقاتلين عن قواعدهم في المدن بما يتيح للولايات المتحدة التحكم في الانتخابات أو ضمان مستويات من المشاركة تمنح الشرعية لحكومة مساندة لأمريكا. وفي الخمسينيات أثناء “حالة الطوارئ الماليزية” استخدمت القوات البريطانية تركيبة شبيهة تتضمن القوة العسكرية والاستدراج السياسي في تعاملها مع حركة النضال من أجل الاستقلال التي قادها الحزب الشيوعي الماليزي، حيث قامت القوات البريطانية بعزل المقاتلين عن مؤيديهم في الوقت ذاته الذي قامت فيه بمساندة الزعماء الماليزيين المعتدلين عن طريق التعهد بمنحهم الاستقلال.
وبعدما توقف القتال في النجف قامت القوات الأمريكية في سبتمبر 2004 بغلق الجسر الرئيسي المؤدي إلى سامراء، وهي عملية أحدثت انشقاقا بين أعضاء المجلس المحلي، عندما رضخت مجموعة من رجال الدين للمطالب الأمريكية بشأن الدوريات والاعتراف بحكومة بغداد. فدخلت القوات الأمريكية إلى المدينة واستولت على مبنى مجلس المدينة وأعلنت عن تشكيل حكومة محلية مساندة لأمريكا. ومن ناحيتها أعلنت المقاومة، المدعومة بعدد من زعماء المدينة من رجال الدين، تشكيل حكومة بديلة متحالفة مع الفلوجة، مما أدى إلى قيام معركة دامت أسبوعا قبل اختفاء المتمردين. وقد أوحى ذلك بنجاح استراتيجية الولايات المتحدة.
إلا أن الأحداث التي جرت شمال العراق تبين أن المقاومة كانت قادرة على تجاوز الفواصل العرقية والطائفية في العراق، فبعد استيلائهم على سامراء وجه الأمريكيون انتباههم صوب تل عفار، في تحرك تسبب في انشقاق بين غالبية من الشيعة التركمان وحلفائهم العرب السنة وبين فرق “البشمرجة” الكردية المدعومة أمريكيا. حيث تحولت تل عفار إلى مركز لعمليات التهريب التي تقوم بها المقاومة وذلك على طريق هام من سوريا إلى العراق. فعلى طول الحدود كان بوسع المئات من مقاتلي المقاومة التسلل إلى سوريا وبعيدا عن أيدي القوات الأمريكية.
وقد رفضت القيادة التركمانية الإنذار الذي وجهه الأمريكيون بشأن نزع سلاح المقاومة، فدفعت المدينة ثمنا باهظا نتيجة لذلك، حيث أطلقت الولايات المتحدة عملية انتقامية قذفا بالقنابل، متسببة في مقتل المئات من المدنيين ودفعت بما يزيد على 250 ألفا من سكان المدينة البالغ تعدادها 350 ألفا إلى معسكرات للاجئين. ولكن بعيدا عن المواجهات مع العرب السنة وجدت القوات الأمريكية نفسها أيضا في معركة مع التركمان المحليين، وهو أمر ألقى بأضوائه على أحد أبرز جوانب التمرد كما يراه مايكل شوارتز:
فبينما يتضح جليا أن العديد من التركمان الشيعة يساندون المقاتلين، يصر الجيش الأمريكي، ويوافقه في ذلك بعض المراقبين المستقلين، على أن الكثير إن لم يكن جميع المتمردين هم من العرب السنة. وإذا صح ذلك الأمر فإنه سيمثل تحالفا غير مسبوق بين الطوائف العرقية في العراق، وهو تحالف ينبئ بتمرد أكثر قوة واتحادا.
وبمجرد انتصارهم في المعركة لجأ القادة العسكريون الأمريكيون إلى الميليشيات الكردية للسيطرة على المدينة، واعتبر الأمريكيون معركة تل عفار نصرا كبيرا ولكنه أثبت فيما بعد أنه كان نصرا دفع الاحتلال ثمنه باهظا، حيث نتج عنه بناء تحالف بين أهل المدينة ومقاتلي حركة المقاومة. فقد خشي التركمان من سيطرة الأكراد على المدينة وأصبحوا، منعا لذلك، على استعداد لربط أقدارهم بالمقاومة. وبحلول شهر نوفمبر 2004 كانت حركة المقاومة قد عادت إلى الظهور في تل عفار.
أصبحت الفلوجة هي الهدف الأساسي للاعتداء الأمريكي الجديد، حيث كانت المدينة المركزية للتمرد نموذجا للعراق المحرر، ونظرا لدور قيادتها المحلية وعلاقاتها الوطيدة بالمقاومة، صارت الفلوجة هي المركز السياسي لحركة الاستقلال. ومن هنا كان لا بد من تدميرها، فتم إعطاء إنذار لزعماء المدينة الذين ظهروا على السطح في أبريل، وهو إنذار بتسليم كافة المقاتلين الأجانب، والخضوع لسلطة علاوي وقبول الدوريات الأمريكية في المدينة. ورفضت المدينة الإنذار. وأثناء انخراط المدينة في محاربة القوات الأمريكية البالغ عددها 15 ألف جندي تساندهم المدفعية والسلاح الجوي والدروع الجوية، خرج الآلاف من المقاتلين إلى الشوارع في كافة أنحاء العراق، وقاموا بطرد رجال الشرطة والحرس الوطني من مواقعهم، وهكذا وجدت الولايات المتحدة نفسها متورطة في حرب دائرية تستولي فيها على مدينة في الوقت الذي تفقد فيه سيطرتها على غيرها.
وربما كانت تلك مجازفة جديرة بالمحاولة بالنسبة لقوات الاحتلال، فقد كان تدمير المدينة سيؤدي إلى تأكيد قوة تلك الاستراتيجية الجديدة القائمة على الخيار ما بين الاعتراف والدعم من ناحية أو المقاومة والدمار من ناحية أخرى. وفي نوفمبر قام مقاتل من الموصل بتوضيح أثر ذلك الاعتداء على استراتيجية المقاومة، قائلا: “إذا أصبحت الموصل مثل الفلوجة وخرج الجميع للقتال، فسيستدعي الأمريكيون القوات الجوية وسيدمرون المدينة. ويرى الكثير منا أن العمليات الهجومية التي يقوم بها المقاتلون هي أفضل من حالة التمرد العام على مستوى المدينة.”
وقد أدى الاعتداء على المدينة إلى الدمار والخراب. واستعانت القوات الأمريكية بالأعمال التكتيكية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فسوت المنازل ومباني المدينة بالأرض، ويقدر عدد القتلى من المدنيين العراقيين بحوالي ثلاثة آلاف قتيل فضلا عن أعداد لا حصر لها من الجرحى. كما قتل سبعون من القوات الأمريكية في الاعتداء، وذلك خلال أسبوع واحد، بما يتوافق مع معدلات أعداد القتلى أثناء حرب فيتنام، ذلك بالإضافة إلى 800 من الجرحى. وعلى الرغم من الدمار والخراب والأعداد الرهيبة من القتلى إلا أن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” في واشنطن كان ملفتا في تقييمه للاستراتيجية العسكرية الأمريكية، فقد جاء في إحدى وثائقها رأي صاحبها كالآتي:
إن ما يسوؤنا هو أن النصر العسكري الأمريكي في الفلوجة ربما لم يؤثر سوى على 10-20% من المتمردين السنة المتفرغين للقتال في العراق، بل يبدو إن كثيرا منهم قد أسرع بالفرار. وقام متمردون آخرون من السنة بشن هجمات في كافة أنحاء العراق خلال تلك المعركة ونجحوا بدرجة ما في إشعال انتفاضة في الموصل. وقد عارض كل من رئيس العراق السني وكبار رجال الدين السنة وعدد آخر من السياسيين العراقيين قرار شن الهجوم على الفلوجة. وكانت تغطية الإعلام العربي السني تكاد تكون في مجملها عدائية سواء في داخل العراق أو خارجه، وقد صاحب تلك الصور الإعلامية السلبية تغطية تلفزيونية نقلت صورة جندي مارينز أمريكي وهو يقتل سجينا جريحا أعزل أعقبتها صورة مدينة مدمرة ومهجورة.