العراق وقيام المقاومة
إن وجه المقاومة العراقية يبدو بالنسبة لقوات الاحتلال ومسانديها في صورة أبو مصعب الزرقاوي الملتحي، وذلك بالغم من الأهمية العسكرية الهامشية لمجموعته. إلا أنه لا توجد حركة أو تحالف واحدة يضم كافة المجموعات المتنوعة للمقاومة على مستوى البلاد. ويمكن اعتبار ذلك مصدرا للقوة بشكل ما، باعتبار أنه حتى دون نشأة هيكل سياسي وعسكري وطني موحد فإن الآلاف من الهجمات تشن شهريا ضد قوات التحالف، مما يؤكد بشكل أكثر وضوحا مما قبل أن تلك الحركة هي حركة تمرد شعبية.
إلا أن غياب صوت سياسي وطني يمثل عقبة كما يوضح الجدل الدائر حول المشاركة في الانتخابات، فقد دفع الهجوم الاعتداء الوحشي على الفلوجة “هيئة العلماء المسلمين” إلى الدعوة لمقاطعة الانتخابات، كما دفع “الحزب الإسلامي العراقي”، وهو أحد الأحزاب السنية المعدودة المشاركة في مجلس الحكم المدعوم من قبل سلطة التحالف، إلى تلبية دعوة المقاطعة والانسحاب من الحكومة. في حين نجد أن بعض الشخصيات الشيعية البارزة والمعارضة للاحتلال اتخذت مواقف أكثر التباسا، إذ دعا آية الله على السيستاني الشيعة إلى المشاركة في الانتخابات. وقد ذكر مقتضى الصدر أنه في حالة تشكيل هيئة محايدة للإشراف على الانتخابات فلن تكون هناك ضرورة للمقاطعة، مشجعا العراقيين على “اتباع ضمائرهم” في حالة اقتناعهم بعدم أمانة العملية الانتخابية. ومن جانب نجد أن مقاطعة المجموعات السنية للانتخابات ستلحق خسائر كبيرة بمصداقية الانتخابات، في حين أنها ستكشف أيضا عن ضعف التحالف السني-الشيعي في مواجهة الاحتلال، ذلك التحالف الذي ظهر خلال انتفاضة أبريل 2004.
لقد لعبت المجموعات الإسلامية دورا رياديا في المقاومة، ومن الممكن تطور حركة تحرير وطنية بزعامة إسلامية كما يتضح من التجربة اللبنانية. ولكن مسألة تكوين علاقات للمقاومة مع تجاوز الانقسامات العرقية والطائفية يظل أمرا هاما، حيث لا يمكن حاليا لأي من رجال الدين السنة أو الشيعة في العراق التحدث وحدهم باسم حركة وطنية أصيلة. وقد حققت المقاومة كبرى نجاحاتها عندما برزت كقوة للوحدة الوطنية ذات جاذبية شعبية، بدلا من كونها مجرد مشروع شيعي أو إسلامي سني. ومن اللحظات الفاصلة في انتفاضة أبريل 2004 هي اللحظة التي تمردت فيها القوات العراقية الشيعية في طريقها إلى الفلوجة ورفضت الانضمام إلى الهجمة على المدينة.
وكشفت انتفاضة أبريل عن مشاكل عويصة تواجه القوى المحتلة، فلم تتمكن القوات الأمريكية من دحر الانتفاضة السنية-الشيعية بالقوة، كما اتضح مدى عجز حلفائهم المحليين في مجلس الحكم المحلي والحكومة العراقية، في الوقت الذي انتقلت المبادرات السياسية إلى أيدي شخصيات معارضة للاحتلال، مثل مقتضى الصدر والزعماء السنة من رجال الدين في كل من مقاطعة الأنبار ومدينة بغداد. وفي محاولة للخروج بأنفسهم من تلك الأزمة عقدت القوات الأمريكية اتفاقا يتيح لها وقف هجومها على الفلوجة بينما تدعو كبار رجال الدين الشيعة إلى كبح جماح مقتضى الصدر.
وقد لعب آية الله على السيستاني تحديدا دورا محوريا في وقف التمرد الشيعي في أعقاب انتفاضة أبريل 2004، حيث أصدر قرارا يطالب كافة القوى المسلحة بالخروج من مدينة النجف الأشرف، فانسحب أتباع مقتضى الصدر آخر الأمر من المدينة. وهكذا دون تدخل السيستاني كانت القوات الأمريكية ستجد نفسها تواجه مأزق إما التفاوض المباشر مع مقتضى الصدر لإنهاء المواجهات بين الطرفين، وهي فكرة غير مقبولة بالنسبة للقادة العسكريين الذين كانوا قد تعهدوا بقتله منذ أسابيع معدودة، أو شن هجوم شامل على مدينة النجف مما كان يهدد باشتعال النيران وتفجر الأوضاع في كافة المناطق الشيعية في العراق. ومع ذلك فقد كان لا بد من دفع ثمن مقابل تدخل السيستاني، حيث انسحبت القوات الأمريكية هي الأخرى من النجف، ولم يصب مقتضى الصدر عامة ولا “جيش المهدي” نسبيا بسوء. وفي نفس الوقت تعززت صورة السيستاني على المستوى الوطني باعتباره وسيطا وحكما سياسيا، بينما اضطر مقتضى الصدر إلى الرضوخ للسلطة الدينية، وهو ما انطبق كذلك على سلطات الاحتلال.
تعتبر مساندة السيستاني للانتخابات أمرا حيويا بالنسبة للقوى المحتلة، ففي حالة حدوث مشاركة كبيرة في الانتخابات وتأييد السيستاني لها، فسيمثل ذلك خطوة في إضفاء الشرعية على الحكومة التي ستتولى شئون البلاد، وإذا تحقق آمال المسئولين الأمريكيين في أن تضم تلك الحكومة عددا كافيا من حلفائهم بما يضمن تحقيق أهداف الاحتلال وعددا كافيا أيضا من خصومهم الذين سيؤدي وجودهم في الحكومة إلى تهدئة التمرد، أو تفكيكه على أقل تقدير، فسيكون لأمريكا رغم كل شيء مستقبل في العراق. إلا أن المشكلة تكمن في أن السيستاني ليس دمية أمريكية مثلما هو الحال بالنسبة للعائدين من المنفى الذين انضموا إلى مجلس الحكم. وعلى الرغم من كون السيستاني ذي أصول إيرانية، إلا أنه لا يؤيد نظرية حكم رجال الدين التي حققها الإمام الخميني في إيران، ومن الواضح أيضا انه لا يريد أن يرى تزايد سلطات رجال الدين الشيعي اجتماعيا وسياسيا. وفي إطار دوره كزعيم ديني يتمتع بأتباع يبلغ عددهم الملايين في العراق وإيران ومختلف أنحاء العالم. وقد ساهمت معارضته المبدئية للمخططات الأمريكية لتأجيل الانتخابات في رفع مكانته بصورة مدهشة وذلك على حساب كل من خصمه الراديكالي مقتضى الصدر وقوى الاحتلال وأتباعهم المحليين. ولكن دون وجود حلفاء محليين آخرين ذوي مصداقية فلا بد للمسئولين الأمريكيين مواصلة الأمل في استمرار توافق مصالحهم مع مصالح السيستاني، والمخاطرة هنا كبيرة حيث يوضح “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” الآتي: “لا يجب على الولايات المتحدة أن تنسى أبدا أن فقدان العراقيين الشيعة يعني خسارة الحرب، من حيث فقدان القدرة على تشكيل حكومة نيابية من النوع الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيله.”