العراق وقيام المقاومة
إن تغيير اسم “مدينة الصدر”، تلك الضاحية الفقيرة من ضواحي بغداد، يشير إلى خيبة الأمل وفشل حركة التحرر الوطني في الخمسينيات في تحقيق وعودها، حيث أن مؤسسها عبد الكريم قاسم الذي قاد عملية إسقاط الملكية في العراق عام 1958 قد أطلق عليها اسم “مدينة الثورة. وقد كان اسما مناسبا حيث كان سكان تلك الضاحية قد لعبوا دورا محوريا في حركة التمرد في الخمسينيات، كما أنها كانت معقلا للحزب الشيوعي. إلا أن السبعينيات شهدت تحولا حيث اتخذت المدينة طابعا سياسيا مختلفا عندما بدأ حزب الدعوة في تجنيد أبناء الضاحية من الشيعة الفقراء للانضمام إلى الثورة الإسلامية، ونجد أن المنطقة الآن هي معقل لرجل الدين الشيعي المتشدد مقتضى الصدر.
إن نشأة المعارضة الشيعية لها جذور عديدة، حيث كان من نتائج التقارب بين الحزب الشيوعي وحزب البعث ما أتاح الفرصة للشيعة الإسلاميين لتجنيد فئة كانت فيما سبق تميل إلى اليسار. وقد أدرك مؤسسو حزب الدعوة، من صغار رجال الدين في الكليات الدينية بمدينة النجف منذ نهاية الخمسينيات، مقدار الخطر الذي يمثله الشيوعيون للسلطة الدينية التقليدية، ومن هنا قام حزب الدعوة بتشجيع قيام نظريات إسلامية حول الاقتصاد وأسس الحكم لتكون تلك النظريات أساسا فكريا لقيام حركة سياسية شيعية. وهكذا جنبا إلى جنب النشطاء السياسيين (العلمانيين)، بدأ رجال الدين الشباب في بناء حزب سياسي شيعي جديد.
وكانت المنظمة الجديدة بمثابة جسر يربط بين النظام التراتبي الديني التقليدي من ناحية، وبين جيل أصغر من شباب الشيعة، وقد احتفظ رجال الدين الكبار بمسافة تفصلهم رسميا عن تلك الحركة الجديدة، مفسحين المجال للنشطاء ورجال الدين الشباب ليقوموا بدور بارز في بناء الحزب. وكانت الاحتفالات الدينية الشيعية الكبرى بؤرة اهتمام الحركة الجديدة، فبعد سنوات من التراجع شهدت السبعينيات تزايدا مذهلا في حجم المسيرات المقامة في ذكرى سقوط الإمام الحسين، حفيد النبي محمد، شهيدا في معركة كربلاء. وقد كان استشهاد الإمام الحسين كثيرا ما يستخدم كرمز قوي لمقاومة الطغيان، حيث أنه سقط قتيلا في نهاية حركة تمرد بطولية ومأساوية ضد الخليفة يزيد، وهو الخليفة الذي تصفه المصادر الشيعية باعتباره نموذجا للحكم القائم على الطغيان والفساد. أما المواجهة الكبرى فكانت في عام 1977 عندما تحولت مسيرة الحج إلى كربلاء، إلى مظاهرة تلقائية مناهضة للحكومة بمشاركة عشرات الآلاف.
وشهد العامان التاليان قيام الحركة الثورية في إيران وإسقاط نظام الشاه، أما في العراق فقد تم القضاء على حزب الدعوة وإعدام الكثيرين من زعمائه، بما في ذلك كبير منظري الحزب آية الله محمد باقر الصدر. وفي مواجهة القمع من ناحية واندلاع الحرب من ناحية أخرى فر العديد من نشطاء حزب الدعوة إلى جارتهم إيران أو انخرطوا في أنشطة حربية سرية. وفي إيران قام أعضاء حزب الدعوة وغيرهم من الشيعة العراقيين بتأسيس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.” إلا أن حزب الدعوة بدأت تصيبه الانقسامات الداخلية نتيجة للضغوط الناجمة عن الحياة في المنفى واندلاع الحرب، وفوق هذا وذاك، فشل عمليات الاحتجاج الشعبي التي شهدتها أواخر السبعينيات في إسقاط حزب البعث. كما أن اعتماد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق اعتمادا كليا على الحكومة الإيرانية أدى إلى انشقاقات شديدة داخل حزب الدعوة. وفي أثناء الحرب مع إيران شكل المجلس كتيبة من المقاتلين المجندين من بين اللاجئين العراقيين في إيران، المعروفة باسم “سرايا بدر.” وبانتهاء الحرب بدأت الحكومة الإيرانية تدريجيا في تقليل دعمها للمجلس، مما دفع قادة المجلس للبحث عن مصدر آخر مساند، وأخبرا في نهايات التسعينيات وجدوا ذلك الدعم ممثلا في وزارة الخارجية الأمريكية.