العراق وقيام المقاومة
كثيرا ما يتم في الغرب تفسير استمرار النظام البعثي في الحكم لفترة طويلة من منطلق سيادة الخوف والتعذيب ودائرة المنبهرين بشخصية صدام، إلا أن واقع الأمر هو أن حزب البعث قد نجح في البقاء والاستمرار في موقع السلطة نتيجة لاستراتيجيته المتفق عليها لبناء قاعدة اجتماعية للنظام الجديد، حيث عملت سياسات البعث الاقتصادية، وخاصة تأميم صناعة النفط في عام 1972، على خلق الظروف المناسبة لنشأة طبقة متوسطة جديدة، والسماح بإعادة توزيع بعض الثروات على الطبقة العاملة.
ففي ظل الحكم الملكي كانت الصناعة النفطية خاضعة لشركة النفط العراقية التي تضم مجموعة من شركات النفط متعددة الجنسيات. أما الزراعة فكانت حكرا على كبار ملاك الأراضي وقائمة على قلة المحاصيل وقلة الإنتاج وعلاقات اجتماعية مجحفة. وكان كلا هذين القطاعين يوفران ما يزيد على 50% من إجمالي الدخل القومي في العراق، بينما لم تساهم الصناعة سوى بمعدل 5% فقط من إجمالي الدخل القومي. وبالرغم من ارتفاع الإنتاج الصناعي ليصل إلى 14% من الدخل القومي عام 1969، إلا أن الغالبية العظمى من المشاريع الصناعية كانت مجرد ورش صغيرة. ومع حدوث انقلاب حزب البعث في عام 1969 قامت عملية الإصلاح الزراعي بتقليل سلطة كبار ملاك الأراضي عن طريق وضع حد أقصى لملكية الأراضي. إلا أن تدهور الإنتاج الزراعي في السبعينيات جعل قطاع الزراعة غير صالح كأداة لتعزيز الوضع السياسي أو كمصدر للثروة المالية مثلما كان الأمر عليه إبان النظام الملكي. وهكذا أصبح السبيل الوحيد لتحقيق الثروة والسلطة هو ضمان الحصول على عقود للدولة، وخاصة في ظل قيام حكومة البعث ببرامج طموحة للإنفاق على مجالات اجتماعية متنوعة مثل الصحة والسكن والتعليم وإقامة البنية التحتية للبلاد. ويوضح كل من ماريون فاروق سلاجليت وبيتر سلاجليت الآتي:
حيث أن النظام الذي أصبح مرادفا لـ”صدام حسين ودائرته المقربة” كان هو المسيطر على الاقتصاد بمعدل فاق تماما أيا من الأنظمة السابقة، فقد وجد نفسه في موقع لفرض الوصاية وتوزيع العقود بلا حدود. وكان المستفيدون الرئيسيون محليا هم رجال الأعمال والسماسرة والمقاولون من كل نوع، الذين أصبحوا يمثلون قاعدة اجتماعية واسعة للنظام.
إن مصدر الثروة العراقية كان نتيجة للزيادة الضخمة في الدخل من النفط، ففي عام 1972 إبان فترة التأميم كان الدخل الناتج عن النفط هو 575 مليون دولار، وفي العام التالي ارتفع الدخل ليصل إلى 1840 مليون دولار، وبحلول عام 1974 كان قد بلغ 5700 مليون دولار. ويرجع هذا الارتفاع جزئيا إلى زيادة الإنتاج، ولكن العامل الأساسي كان الارتفاع في أسعار النفط في أعقاب حرب 1973 بين العرب وإسرائيل. أما في الثمانينيات التي شهدت وضعا اقتصاديا قاسيا اتجه البعثيون إلى أساليب أخرى للحفاظ على قاعدتهم الاجتماعية. وأدى انهيار أسعار النفط إلى إحداث خفض كبير في قدرة الدولة على الإنفاق العام، مما دفع الحكومة إلى خصخصة 47 شركة تابعة للدولة. وقد توقفت التوجهات الاقتصادية الليبرالية مؤقتا لاندلاع حرب الخليج عام 1991، إلا أنه وحتى إبان خضوع العراق للعقوبات الاقتصادية (التي تم فرضها على العراق بعد غزوه الكويت عام 1990) واصل النظام اتباع سياسات مشابهة، حيث أقام العراق عديدا من “مناطق التجارة الحرة” خلال عامي 2000 و2001 وذلك بعد توقيع اتفاقيات تجارية مع عدد من الدول العربية. وقد ساهم الاقتصاد الذي أنهكته سنوات الحصار في خلق فرص أخرى للكسب لبعض المقربين من النظام. فقد تشكلت سوق سوداء كبيرة، كما كان عدي حسين، أكبر أبناء صدام حسين، المستفيد الرئيسي من التجارة غير المشروعة في النفط والسجائر والأسلحة والسيارات الفارهة.