العراق وقيام المقاومة
إن المسئولين الأمريكيون وأتباعهم في الأمم المتحدة وفي المؤسسات المالية العالمية يفسرون المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق اليوم باعتبارها نتاجا لسياسات التخطيط التي قام بها حزب البعث، فكما يرد في وثيقة من وثائق الأمم المتحدة والبنك الدولي صدرت في أكتوبر 2003 حول تقديراتهم لاحتياجات إعادة إعمار العراق، نجد الآتي:
لقد عانى الاقتصاد العراقي على مدى عشرين عاما من الإهمال والتدهور في البنية التحتية للبلاد والبيئة والخدمات الاجتماعية .. وقد تدهور اقتصاد البلاد بفعل ما ترتب على وجود حكومة سلطوية فاسدة شديدة المركزية، والعقوبات الاقتصادية إضافة إلى قيام اقتصاد سلطوي تلعب فيه الأسعار دورا محدودا في توزيع المصادر، بينما تقوم الدولة (وتحديدا النظام الحاكم) بالسيطرة على الصناعة والزراعة والمالية والتجارة.
وعلى النقيض من تلك الإشارة العابرة للعقوبات الاقتصادية في هذا التقرير، من حيث تأثيرها على تاريخ العراق، عملت العقوبات على إعادة تشكيل المجتمع العراقي. فقد خرجت العراق من حربها مع إيران في نهاية الثمانينات وقد أصبح المجتمع العراقي يعاني من حالة من الدمار والانسحاق، ولكنه لم يكن قد أصابه الشلل أو توقف عن العمل. حيث استمرت معدلات وفاة الأطفال في الانخفاض على مدار الثمانينيات. كما أن معدل دخل الفرد، مع انخفاضه عن معدله السابق أثناء فترة ارتفاع أسعار النفط، بلغ 2840 دولارا في عام 1989 ليجعل من العراق دولة من متوسطي الدخل.
وقد جاءت العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على العراق في عام 1990 لتتسبب في تراجع يقدر بعشرات السنين في مسيرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي. ولعله من المفارقة أن نلاحظ أن درجة التطور والتقدم النسبي التي كان قد حققها العراق أدى إلى صعوبة متزايدة في التعامل مع انهيار البنية التحتية فيما بعد. فقبل حرب الخليج (عام 1991) كان التخلص من مخلفات المدن يعتمد على 800 عربة لنقل المخلفات، وهو كم من العربات ما لبث أن انكمش ليصبح 80 عربة نقل في خدمة مدينة تعدادها 5 ملايين من السكان. فمن الذكريات القوية المرتبطة في أذهان الآلاف من الطبقة الوسطى العراقية والخاصة بالحرب عام 1991 هي ذكرى رائحة اللحم المخزون في ثلاجاتهم وقد بدأ يفسد، حيث أنهم جمعوا مخزونا من الطعام ولكنهم لم يخططوا للحياة بدون كهرباء. كما أنه بالنسبة لإنجازات نظام الرعاية الصحية في العراق، كان الرجوع إلى أوضاع العالم الثالث كارثيا. ومن ناحية أخرى فإن إحدى الانتقادات الموجهة إلى سياسات الحكومة العراقية كما وردت في تقرير الأمم المتحدة والبنك الدولي بشأن احتياجات إعادة الإعمار في أكتوبر 2003 تضمنت أن مثل هذا “النموذج القائم على فكرة المستشفيات ورأس المال” والذي يتطلب “استيراد الكثير من الأدوية والأجهزة الطبية بل والعاملين في مجال الصحة” هي عناصر لن يمكن لها أن تعمل في ظل مجتمع شديد الفقر.
وفي عام 1995 تم تعديل العقوبات بما يسمح للعراق ببيع بعض النفط في السوق العالمي مقابل الغذاء والبضائع الأساسية، وقد تم تقديم ذلك الاتفاق الجديد تحت مسمى “برنامج النفط مقابل الغذاء” باعتباره وسيلة لرفع المعاناة عن الشعب العراقي. إلا أن إحدى النتائج الرئيسية تمثلت في التقليل المتزايد من قدرة نظام صدام حسين على ممارسة سلطاته الأساسية كحاكم. فمنذ عام 1991 كانت الحكومة العراقية قائمة على توفير الغذاء للغالبية العظمى من السكان، وبالرغم من أن نظام توفير الغذاء كان يستخدم كأداة للتحكم الاجتماعي والسياسي إلا أنه ضمن مقومات الحياة للملايين من العراقيين خلال أشد فترات الحصار الاقتصادي قسوة. وقد أدى انهيار نظام الرفاهة الاجتماعية إلى ضرب الدولة البعثية في مقتل. فإذا كان صدام حسين قد سكن في قصور فارهة باذخة إلا أن المواطنين العراقيين كانوا يتمتعون بأحد أفضل أنظمة الرعاية الاجتماعية على مستوى منطقة الشرق الأوسط. فلم يكن لهذا النظام الاجتماعي مثيل، وكان الأكثر فقرا يشعرون مع ذلك أن لهم نصيبا من الرعاية.
ومع تداعي نظام الرعاية الاجتماعية اتجه العراقيون إلى قوى أخرى تقوم بملء الفراغ، وقد اتسع مجال عمل المؤسسات الخيرية السنية منها والشيعية لمواجهة الاحتياجات المتزايدة لشعب غارق في الفقر. إن القاعدة التي ورثها رجل الدين الشيعي الراديكالي (الثوري) مقتضى الصدر عن والده محمد صادق الصدر كانت مبنية على شبكة من المؤسسات الخيرية الشيعية. كما أن الصعود السريع لرجال الدين السنيين والشيعة وبروزهم السياسي في أعقاب سقوط صدام حسين يعود جزئيا إلى تراجع دور الدولة خلال العقد الأخير. ومن المفارقة أن نلاحظ أن زعماء حزب البعث قاموا بتشجيع “إعادة أسلمة” المجتمع العراقي عن طريق إدارة “الحملات الدينية” بما فيها برنامج بناء المساجد ونظام يوفر أئمة لصلاة الجمعة في المساجد السنية والشيعية.
إن دعم الدولة للدين كان من العلامات الدالة على السعي اليائس والمتزايد لحزب البعث بحثا عن قاعدة أيديولوجية للنظام. وتمثل “القبلية الجديدة” سياسة أخرى أثبتت دورها المدمر لسلطة الدولة المركزية، حيث يصف أماتزيا بارام كيفية قيام حزب البعث في عام 1992 بإعادة تشكيل نفسه باعتباره “قبيلة كل القبائل.” أما بالنسبة للتوجه نحو الدين، فقد كانت تلك السياسة الجديدة مدفوعة بالإحساس باليأس، وفي أثناء انتفاضة مارس 1991 التي أعقبت الهزيمة في الكويت نجد أن:
جهاز حزب البعث أثبتت فشلا يكاد يكون كاملا. إن صدام قام بنفسه فيما بعد بمعاقبة الأعضاء الكبار ومتوسطي المكانة في الحزب لما كانوا عليه من عزلة عن الجماهير وقت حدوث التمرد. وقد لجأ صدام إلى زعماء القبائل بحثا عن الدعم القاعدي ضد الانتفاضة وفيما بعدها في مواجهة أعمال التغلغل والتجسس وحرب العصابات.
وبصورة عملية يعني ذلك منح زعماء القبائل تصريحا بإقامة جيوش خاصة وفرض قانون القبيلة، وخلال شهور معدودة كانت الدولة تواجه صعوبات في السيطرة على زعماء القبائل. وفي أكتوبر 1992 جنوب مدينة الكوت، نشب خلاف على الأرض ما لبث أن تحول إلى معركة قبلية استخدمت فيها القذائف التي أودت بحياة 266 من القتلى.
إن سياسة القبلية الجديدة لم تكلف النظام البعثي احتكاره للقوات المسلحة فحسب وإنما أتت تلك السياسة على الأسس القانونية للدولة، ففي الأماكن التي تمتع بها زعماء القبائل بالقوة وخاصة في الريف كانوا يتمكنون من فرض قانون القبيلة وضمان العدالة. إن القانون العراقي المدني العلماني كان، نظريا على الأقل، قائما على المساواة بين كافة المواطنين، وذلك منذ بدء تطبيقه في عام 1958، إلا أن إعادة إحياء الأعراف القبلية المسنودة بالقوات المسلحة، كبديل لنظام العدالة والقضاء في الدولة، أدى إلى خلق قوة أخرى في مواجهة النظام البعثي، وقد تداخلت سلطة الحزب والقبيلة في بعض أجزاء المنظومة التراتبية، وخاصة على مستوى القمة، حيث أن صدام وعائلته كانوا قد اعتمدوا منذ فترة طويلة على الولاء القبلي أكثر من الإيديولوجيا البعثية، ويتمثل لب المشكلة في أنه كلما أصبح الحزب مرادفا للقبيلة كلما سهل منح الأولوية لأشكال الولاء الشخصي والمحلي على حساب مظاهر الانتماء البعثي. وقد ظهر ذلك جليا في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 حيث سرعان ما تخلى زعماء القبائل عن صدام حسين في صالح الدخول في علاقات مع الولايات المتحدة.